الأربعاء ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم سلمى نبيل أبو المعاطي

سميحة

اليوم هو اليوم الأول من بداية العام الدراسي الجديد. تظاهرت بأنني نائم طوال الليل حتى لا تكتشف اختي سميحة أنني مُستيقظ.. إذا فعلت ستخبر أمي وستغضب مني.

لا يوجد شخص في العالم أكثر حماسًا مني لبداية العام الدراسي. لم أر صديقي مُحسن مُنذ الإجازة الصيفية و يا لها من فترة. أحيانًا أشعر أنني نسيت ملامح مُحسن. أظل أعيد اللحظة التي سلمنا فيها على بعضنا في آخر يومٍ دراسي في رأسي حتى أتمسك بها لأطول فترة ممكنة.

تقول أمي أنني أنسى بشكلٍ كبير ولكن لا أعرف ماذا يعني هذا. أعتقد أنني لم أبدأ في الخوف من نسيان وجه مُحسن سوى عندما قالت هذا.

أحب أمي كثيرًا وهي أيضًا تُحبني ولكنِ أشعر أنها تُحب سميحة أكثر مني. ربما لأنها أكبر سنًا وربما لأنها فتاة. تقول أمي دائمًا "سميحة حبيبتي، بنتي الأولى والوحيدة". أردت أن أسألها مرًة "هل تُحبي سميحة أكثر لأنها بنت؟" ولكن خُفت.. شعرت بأن سؤالي سيغضبها من قبل أن أسأله.

الساعة تقترب من السادسة، أراقب الوقت دائمًا من خلال الساعة المعلقة على الحائط أمام سريري تمامًا. علمتني أمي قراءة الساعة في الإجازة الصيفية، لذلك يُمكنني الآن مراقبة الوقت والاستيقاظ في الميعاد المُحدد دون أن تستغل سميحة الفرصة وتشي بي لأمي.

الآن لم يعد يهمني أن تراني سميحة، فالوقت قد حان. أشك أن سميحة هي الأخرى مستيقظة ولكنها تحب أن تشي بي فقط.

"سميحة" همست
"أما زلت مسيتقظًا من البارحة. سأخبر أمي"
"الساعة السادسة"

صمتت لثوانٍ. كانت تريد أن تقول شيئًا ولكن تراجعت.

قمت سريعًا وذهبت إلى الحمام حتى لا تسبقني سميحة كما تحاول أن تفعل دائمًا. فاليوم هو يومي، لذا يجب أن يسير كما أريده.

وأنا في طريقي للحمام قابلت والدتي، ابتسمت وجثت على ركبتيها لتُقبلني.. احتضنتها بقوةٍ وتعلقت برقبتها حتى ضحكت وحركت ذراعيَّ.

"أكنت مستيقظًا؟"

"لا والله.. هل أخبرتك سميحة هذا! والله-"

ضحكت ثانيًة وعبثت بشعري

"هيا إلى الحمام حتى لا تتأخر" قالت ثم طبعت قبلة على رأسي واتجهت نحو غرفتي أنا وسميحة.
حمامنا كبير جدًا جدًا ولكن سميحة تقول أنني أشعر بذلك لأني مازلت صغيرًا. أنا أصغر ولد حجمًا في صفي كله وتسخر مني سميحة لهذا ولقصر قامتي ولكن أتظاهر بعدم الاكتراث، وهي ليست الحقيقة ولكن بالطبع لن أخبر سميحة هذا.

تضع أمي لي كرسيًا صغيرًا حتى أستطيع الوصول للحوض وهو أيضًا أحد الاشياء التي تُثير ضحك أختي ولكن أيضًا أحاول إخفاء غضبي.

اليوم أنا سعيد، رغم أن تذكر هذه الأشياء يُحزنني قليلًا ولكن سعادتي أكبر من أي شيء في الدنيا. يمكنني أن أنسي كُل هذا مؤقتًا وليومٍ واحد.. فاليوم هو أول يوم دراسي.

اليوم سأكون في صفٍ جديد. اليوم أنا أكبر بعامٍ كامل. اليوم سأمر بجانب صفي القديم وأشعر أنني أطول ولد في المدرسة كُلها. نعم لن يتغير معظم الطلاب والطالبات، ولكن لا يهمني سوى صديقي مُحسن، على أية حال.

سميحة تسخر من مُحسن أيضًا ولكنِ أشعر بخوفها من تخطي الحدود معه أكثر مني. فهي لا تتمادى في سخريتها منه أبدًا، بل تعرف متى تتوقف، بدقائق قبل أن يبدأ مُحسن في البكاء. على عكسي، أنا لا أبكي أبدًا أمام سميحة، مهما كلفني الأمر، فقط عندما أذهب إلى سريري وأضع الغطاء فوق رأسي حتى لا تشعر.. نعم يكون الأمر صعب ( صعبا) ولكنه أفضل من البكاء أمامها.

أرفض أن تأخذ ما تريده، وهو أن تراني أبكي.

أمي فقط هي المسموح لها أن تراني أبكي.. الحقيقة هي أنها عندما تحتضنني وتلتقط أنفي رائحتها لا أستطيع منع نفسي من البكاء. أحب البكاء ولكن أبي أحيانًا يقول أن الولد لا يجب أن يبكي ولا أفهم لماذا. حاولت مرارًا أن أحبس دموعي ولكن دون جدوى.. أجدها تسيل رغمًا عني. لذا لا أبكي أبدًا أمام أبي. هو وسميحة.

عندما فتحت الباب كانت سميحة تقف منتظرة في الخارج.

"أخيرًا يا قصير" قالت

تجاهلتها وذهبت إلى غرفتي لأستعد، لن أسمح لكلماتها أن تنال مني.

وأنا على وشك الانتهاء من إعداد حقيبتي دخلت سميحة تستعد هي الأخرى. سميحة، أختي الكُبرى، في الصف الأخير من المدرسة الابتدائية، لذلك لا أراها كثيرًا في المدرسة سوى عندما تريد اغاظتي أو العبث معي ومع مُحسن.. على أية حال أحاول تجاهلها معظم الوقت كما أفعل الآن.

يبدو من كلامي أنني لا أحب سميحة، ولكنِ أحبها حقًا. عندما مرضت في شهر يوليو، شهر عيد ميلادي، بعد يوم طويل على الشاطئ شعرت بخوفٍ شديد. لم أرغب أبدًا في أن تتركني. كُنت استيقظ في المساء لأراقب صدرها وهو يتحرك لأتأكد أنها لازالت تتنفس. ولكن أحيانًا لا أفهم لماذا تعاملني بهذه الطريقة؟

عندما أبكي، تضحك هي. لا أفهم لماذا يثير بكائي ضحكها. وعندما أشكي إلى أمي تقول أنها تمزح فقط. لا أفهم مُزاحها. سألت مُحسن مرة هل يفهم مزاح سميحة وقال "لا. لا أعتقد أن هذا مُزاح. سميحة فتاة سيئة". حزنت وقتها لأن مُسحن ( محسن) أفضل صديق لي يظن سميحة فتاة سيئة وحزنت أيضًا لأن مزاحها ليس في الحقيقة مزاح ( مزاحا). ولكن هذا عكس ما تقوله أمي، فهي أيضًا تُكرر كلام سميحة. "إنها فقط تُمازحك"، ولا أفهم. ألا يجب أن يجعلنا المُزاح نضحك؟ إذًا لماذا يجعلني أنا أبكي؟ ربما لا أستطيع أن أفهم المزاح.. ولكن عندما ألعب مع مُحسن ومع أبي، أضحك. حتى عندما يطاردني أبي حول المنزل وهو يرتدي قناع الزومبي الذي اشتراه آخر مرة كُنا في الملاهي، لا أخاف، على العكس أضحك كثيرًا ويقول أبي إنني ولد شجاع. ربما لا تعرف سميحة وأمي كيف تمزحان، ربما لا تفهمان ما هو المزاح.

خرجت مُسرعًا من الغرفة إلى المطبخ حتى آكل فطوري قبل الذهاب، كعادتنا كُل يوم.

"أين أبي؟" سألت أمي التي كانت تُعد بعض البيض المقلي. يتواجد أبي كل يوم على طاولة الإفطار قبلنا، أين هو اليوم؟

"أبوك نائم، لن يذهب للعمل اليوم"

"لماذا؟ أهو مريض؟ هل يمكنني قضاء اليوم معه إذًا أرجوكِ-"

"لا يا عزيزي" قاطعتني أمي، ثم استدارت ونظرت إليّ مبتسمًة. لا أفهم! ماذا يحدث؟

"لماذا؟ ما الأمر؟" لا أصدق أن أبي لن يذهب إلى العمل! لا أصدق أبدًا. أبي يذهب إلى العمل كل يوم، حتى يوم الجمعة، حتى عندما نرجوه أنا وسميحة أن يظل يومًا واحدًا معنا.. دائمًا يقوله أنه لا يستطيع. إذًا ماذا حدث؟

"ستعرف لاحقًا، عندما تعود من المدرسة"

"ولكن-"

"قالت لك لاحقًا، اهدأ يا قصير"

"سميحة!" قالت أمي بحدة ولكن سميحة لم تتوقف عن الابتسام.

بدت أمي مشرقًة أكثر من العادة. كانت تنظر إلى سميحة ويبتسمان ( وتبتسمان) إلى بعضهما البعض. شعرت أنه لم يكن مرحبًا بي في هذه المحادثة الصامتة، لذا ابتلعت أسئلتي مع شطيرة البيض المقلي، شطيرتي المفضلة.

"هيا ستتأخرون على الباص".

أنا متأكد أن سميحة تعرف شيء (شيئا). طوال الطريق إلى المدرسة ظلت تنظر إلىّ وتكتم ضحكتها.
"توقفي عن هذا" قُلت بغضب.

ضحِكت ومدت يدها لتعبث بشعري كما تفعل أمي ولكنِ ابتعدت عنها.

"توقفي"
"لماذا أنت حساس هكذا يا قصير"
"سأخبر أمي وأبي عندما أعود!"
"ولما لا تدافع عن نفسك بدلًا من أن تكون جبان (جبانا)؟"

"أنا لست جبانًا!!!" صرخت. كانت كُل العيون متجهًة نحوي الآن. وها هي، الآنسه راقية تتجه نحونا.
"ماذا يجري يا اولاد؟ لما الصراخ؟"

سارعت سميحة بالرد "لا شيء، آنسه راقية، كُنت فقط أمزح مع أخي ولكن يبدو أنه غضب"

كُنت على وشك أن أرد ولكن الآنسه لم تترك لي مجال.

"حسنًا، كوني لطيفة يا سميحة وأنت عزيزي لا عليك هي فقط تمازحك" قالتها وذهبت.

أردت أن اًصرخ أكثر وأكثر وأكثر.. في وجه سميحة ووجه الآنسة ووجه العالم كُله. كيف عرفت الآنسة هذه الجملة، من قالها لها، سميحة أم أمي؟ كيف تعرف أن سميحة "تمزح فقط"؟ كيف وهي لم تسمع ما قالته لي؟ لماذا تكذب الآنسة؟ مثلها مثل سميحة. جميعهم كاذبون.

لا أعرف كيف نزلت دموعي، ولكنها هُنا، فوق شفتي وداخل فمي. أعتقد أن سميحة تتظاهر بأنها لا ترى ما فعلته.

إنه أول يوم دراسي، نعم. ولكنه أسوأ يوم في حياتي.. الآن. مُحسن لم يأتي (يأت) إلى المدرسة، وهو شيء لا يحدث أبدًا. لا أعني أنه لا يتغيب عن المدرسة أبدًا، ولكن أعني أنه لا يفوت أول يوم دراسي أبدًا. لابد أن شيء سيء (شيئا سيئا) قد حدث. بل شيء سيء جدًا. أردت أن أبكي مُجددًا. أحيانًا أشعر أن دموعي تعيش في بيت صغير داخل عيني ولكنه دون مفتاح، لهذا السبب لا يمكنني أن أحبسها.

أردت أن أسأل الآنسة أميرة عن سبب غياب مُحسن ولكن بينما كُنت أحاول أن أتغلب على دموعي وخجلي، كانت الحصة الأولى قد انتهت وذهبت الآنسة.

الآن فهمت أمي عندما تقول كُل المصائب تجمعت فوق رأسي في يومٍ واحد. سألت أحد ( إحدى) الآنسات يومًا عن كلمة "مصائب" وقالت لي أنها تعني أن شيء سيء (شيئا سيئا ) قد حدث. مما يعني أن غياب مُحسن مصائب

ولكنِ أقول ذلك لأن سميحة قد عثرت عليّ وحيدًا في فترة الاستراحة. ممنوع أن نجلس داخل الفصل في فترة الاستراحة، لذا جلست في الحديقة في ركن بعيد عن الجميع. فكرت في الذهاب إلى المكتبة ولكنِ إذا بكيت هناك ستلاحظ الآنسة وربما تتحدث إلى وتسألني وربما أبكي أكثر وعلى أية حال لن استطيع اخبارها بالحقيقة.

تحذرني امي دائمًا من التحدث عن "مشاكل البيت" مع أي شخص. وأعتقد أن مشاكلي مع سميحة هي "مشاكل بيت"، لذلك الحديقة بدت اختياري الأفضل والوحيد. ولكن المصائب تجمعت كما تقول أمي، وها هي سميحة وصديقاتها.

"ماذا تفعل هنا يا قصير وحدك؟ أين مُحسن؟"

كانت سميحة تقف وخلفها الشمس مباشرًة. تقول امي "ممنوع النظر إلى الشمس" إذًا ممنوع النظر إلى سميحة الآن وهو ليس شيئًا سيئًا تمامًا.. الآن. لم أرد على الفور، ولكن لم أجد مفر من الرد، فقلت "لا شيء".

"أين محسن؟"
"لا أعرف. لم يأت."
"أهو مريض، بالتأكيد هو مريض"

شعرت بالخوف فجأة لما (مما ) قالته سميحة، ربما تعرف شيئًا ما ولا تريد إخباري.

"هل تعرفين شيئًا"

لكن هذه المرة لم يأت الرد من سميحة بل من صديقتها روضة

"مُحسن مازال خارج البلاد، يقول أخي حامد أنه لن يعود هذا الفصل الدراسي، والده مازال يعمل أو هذا ما سمعت"

"أنت تكذبين، مستحيل!!!"

"عيب أن تتحدث هكذا مع روضة"

"إنها تكذب، مُحسن سيأتي إلى المدرسة!" بالتأكيد هي تكذب، لا يمكن لمُحسن ألا يأتي، لا يمكن.
"روضة لا تكذب تقول لك أن أخوها (أخاها) حامد قال هذا، حامد صديق لشقيق مُحسن، إذًا هي لا تكذب"
لا يمكن. كيف لمحسن ألا يعود، كيف؟

رفعت وجهي ونظرت إلى سميحة ولكن ضوء الشمس خبأ وجهها كُله.. وعلى الرغم من نصائح أمي، ظللت أنظر. تمنيت لو تؤذيني الشمس كما تقول، تمنيت لو أن سميحة لم تأتي (تأت) ، بل تمنيت لو لم تكن أختي أصلًا. كُل شيء تقوله لي يُحزنني، حتى خبر ذهاب مُحسن جاء منها هي. كم أكرهها.. كم أكرهها.

"أكرهك! أكرهك يا سميحة!" صرخت وذهبت راكضًا لكنها أمسكت ذراعي قبل أن ابتعد.

"يا ولد سأخبر أمي بما قُلت! ولكن لا تحزن كثيرًا لأن مُحسن لن يعود، سيأتيك أخ، لذا لن تحتاجه مُجددًا"
أخ؟ ماذا تعني؟ "ماذا تعني سيأتيني أخ؟؟"

ضحكت سميحة ونظرت لصديقاتها، كُن يضحكن بدورهن.

"سميحة، أخبريني، ماذا تعني؟؟"

"ماما حامل، سيأتينا أخ يا قصير"

ماما حامل… يا الله. يا الله، ماذا يعني هذا؟ بدت أمي مشرقة وسعيدة هذا الصباح. سميحة تعرف وأنا لا. لماذا لم تخبرني أمي؟ لماذا تقول لسميحة كُل شيء وأنا لا؟ أخ جديد. الآن فهمت كُل شيء.

لذلك بقي والدي في المنزل، من أجل هذا الأخ الجديد الذي لم يأت بعد.. ولكنه لا يفعلها من أجلي. وأمي، أعرف أنها تُحب سميحة أكثر مني، إذًا ماذا عن هذا الأخ الجديد؟ بالتأكيد ستحبه أيضًا أكثر مني، بالتأكيد لن تتذكرني أمي بعد اليوم، لن يكون لي مكان بينه وبين سميحة.

لن يتذكرني أحد.. والآن مُحسن لن يعود ولن يكون لي أي أصدقاء، حتى أمي وأبي ذهبوا أيضًا. نعم ذهبوا، فعندما يأتي ذلك الأخ لن أجدهم بعد الآن، ربما لن أراهم أيضًا.. ربما ستظل أمي معه دائمًا في غرفته. بالطبع سيكون له غرفة خاصة به، فغرفتي أنا وسميحة لن تكفينا نحن الثلاثة. وأبي سيترك عمله ويجلس بجانبه أيضًا. أبي الذي لا يتغيب عن عمله أبدًا، فعلها من أجل هذا الأخ الجديد…

لا أعرف كيف وصلت إلى الفصل ولكنِ فجأة وجدت نفسي هُناك. لم أهتم للقواعد وجلست في مقعدي. وضعت حقيبتي بجانب رأسي وبكيت حتى سمعت أصوات الطلاب تقترب من الردهة.

"أكنت موجود هنا طوال اليوم؟" قال علي، الصبي الذي يجلس خلفي ولكن لم أرد.

مرت الحصة ولم أسمع منها حرف ( حرفا)، بالكاد تابعت ما تقوله الآنسة. في آخر الحصة طلبتني الآنسة وسألتني إذا كان كُل شيءٍ على ما يُرام.

"نعم، أشعر بدوار فقط"

"أتريد الذهاب إلى الممرضة؟"

"لا، أنا بخير آنسة، شكرًا لك"

"حسنًا عزيزي، إذا احتجت لأي شيء أخبرني"

أحب الآنسة ليلى.. تذكرت أمي عندما قالت لي "عزيزي" وشعرت بالدموع تخرج من منزلها مُجددًا، ولكنِ تماسكت.

مرت باقي الحصص مثلها مثل بعضها.. لم أشعر بشيء ولم أفكر بشيء سوى كلمات سميحة عن هذا الأخ الجديد.

وأخيرًا انتهى اليوم الأول من بداية العام الدراسي الجديد. ولكن هذا يعني أيضًا العودة إلى المنزل، وأنا لم أعد أريد العودة.. لم أعد أستطيع.. لا يمكن أن أعود ولا يمكن أن يكون لي أخ جديد.. لا يمكن أن أعيش في هذا المنزل ثانيًة. نعم… لن أعود.

خطرت لي تلك الفكرة وأنا أضع كراساتي وكُتبي في حقيبتي استعدادًا للذهاب. نعم، لن أعود، لا يمكن. سأذهب ولن يستطيع أحد منعي. يجب فقط أن أعرف كيف.

"أهذا صوت الجرس؟ توقفوا عن الثرثرة حتى أسمع" قالت الآنسة ثم خرجت للحظة لتتأكد ثم عادت مؤكدًة "نعم، هي يا اولاد، هيا"

خرجت وأنا أشعر بالقوة، نعم، لن أعود. كان في داخلي "إصرار" وهي كلمة عرفتها من حصة اللغة العربية. إصرار يعني أنني سأذهب. يعني أنني لن أعود. لن أعود لسميحة التي تكرهني وأمي التي تُحبها أكثر مني ولأبي الذي يُفضل الأخ الجديد عليّ.

"هيا لماذا تقف هكذا؟" قال علي، بالفعل كُنت أقف أمام باب الفصل. نظرت خلفي كان الجميع قد ذهبوا فعلًا.
نادت علينا الآنسة من نهاية الرواق "هيا يا أولاد أسرعوا"

"حسنًا يا آنسة" قُلت أنا وعلي في صوت واحد.

وهنا خطرت لي الفكرة.

"اسمع يا علي أريد أن أذهب إلى الحمام"

"الآن؟ سيغلقون الباب يا فالح، ألا يمكنك الاحتمال؟"

"لا، لا أستطيع، يجب أن أذهب الآن"

نظر إلىّ علي في تردد وفهمت أنه لا يريد انتظاري وهو ما لا اريده أنا أيضًا فقلت له "لا عليك اذهب أنت، وسألحق بك"

"حسنًا" قال عليّ وذهب راكضًا كالبرق.

الآن صرت وحيدًا. الرواق خالٍ تمامًا وكل الفصول كذلك. ترددت قليلًا ولكن سرعان ما تذكرت سميحة وحديثها وما حدث هذا الصباح وكل شيء. الآن يمكن لأمي وسميحة أن يستريحوا مني. وليس عليها أن تُحضر غرفة جديدة للأخ الجديد، يمكنه أخذ مكاني في الغرفة.. سريري ومكتبي وكل شيء. أنا متأكد أن سميحة ستحبه أكثر مني.. سيكون أفضل مني وسيترك ابي العمل من أجله. وربما سيكون أطول مني أيضًا -

فجأة سمعت صوتا، خطوات شخص ما على الدرج. يا ربي ماذا أفعل! لا أعرف كم من الوقت وقفت هُنا. لو رآني شخص ما ستفشل خطتي، وسأعود وأنا لا يمكن أن أعود، أبدًا، أبدًا!

لم أعرف أين أذهب، ركضت ثانيًة داخل فصل من الفصول، لا يمكن أن أختبئ تحت المقاعد، سيراني أي شخص على الفور.. اخترت أن اختبئ خلف الباب. اقتربت الخطوات أكثر فأكثر حتى وصلت قرب باب الفصل الذي أختبئ خلفه، يا إلهي، لم أكن خائفًا في حياتي كالآن. إنه الأستاذ محمد، يمر يوميًا على الفصول ليتأكد أن الجميع قد ذهبوا، يمكنني رؤيته من الفتحة الرفيعة.

ولكن خوفي كان بدون داعي (بدون داع)، نظر الأستاذ محمد نظرة سريعة ولم ينظر حتى خلف الباب.. أعتقد أنه لا يتوقع وجود أي أحد هُنا. ولكن حدث ما لم أتوقعه. لقد سحب الأستاذ محمد الباب وأغلقه.
سمعت خطواته وهي تتراجع حتى اختفت تمامًا في آخر الرواق وتخيلته وهو يهبط الدرج كله حتى آخره ويخرج من باب المدرسة ويغلقه أيضًا.

الآن أصبحت وحدي تمامًا. مازالت الشمس موجودة وما زال ضوءها يُنير أجزاء من الفصل ولكن الجو بارد قليلًا لذا يُصبح الضوء ضعيفًا أكثر فأكثر مع اقتراب موعد ذهابنا. ولكنِ أعرف أن الضوء سيذهب أيضًا كما ذهب الجميع وسأكون وحدي تمامًا، تمامًا حتى بدون الشمس.

على رغم من أن خطتي كانت تسير كما أردت، كُنت حزينا. كُل شيء كان صامتًا، ليس كما اعتدت في ساعات الدراسة، ليس كما اعتدت عندما نتهامس أنا ومُحسن دون أن يرانا الأساتذة والآنسات. ليس كما اعتدت حتى عندما تضايقني سميحة… أعتقد أني أريد العودة إلى المنزل. ولكن لا، لا يُمكنني.. مستحيل.
لا أستطيع حتى، كُل شيء سيكون أفضل في المنزل بدوني، أنا متأكد. إذا كانت سميحة لاحظت غيابي لكانت عادت لأجلي.. لا، بالتأكيد لاحظت غيابي ولكنها تظاهرت بأنها لم تلاحظ حتى تتخلص مني للأبد، نعم، هذا ما حدث. ربما ستعود أمي من أجلي.. ولكن لما (لم) ؟ سيأتيها ولد جديد، لن تحتاجني بعد اليوم.
عندما يعود الأستاذ محمد غدًا سأظل خلف الباب حتى يذهب وبعدها سأجد طريقة لأخرج من المدرسة، أو يمكنني أن أجد مكان (مكانا) آخر اختبئ فيه دون أن يراني أحد. أعرف أن هُناك غرفة لأدوات التنظيف، ربما يمكنني البقاء هُناك. لو كُنت أعرف بأمر ذلك الأخ الجديد في الصباح لكُنت جمعت كُل العابي المُفضلة وربما جهزت شطيرة بيض مقلي، شطيرتي المُفضلة. لكن لا يهم، لا زال يُمكنني أخذ بعض الأكل من المقصف دون أن يراني الأستاذ سعيد.

يقول الأستاذ سعيد دائمًا أنه يمكن للأطفال "الغير قادرين" (غير القادرين) أن يأخذوا كُل ما يريدون من المقصف دون مقابل. عندما عُدت للمنزل ذلك اليوم سألت أمي ماذا يعني " الغير قادرين" (غير القادرين) قالت أن بعض الأطفال يمرون بظروف وليس لديهم المال الكافي لشراء الحلوى. تفاجئت (تفاجأت) كثيرًا مما قالته أمي، وشعرت بحزنٍ شديد، لا أتخيل نفسي أعيش بدون أكل الحلوى، أردت البكاء لأجل الأطفال الذين لا يأكلون الحلوى وأردت أيضًا أن أعانق استاذ سعيد لأنه يعطيهم الحلوى دون أي مقابل.

أعتقد أنني الآن أصبحت مثل هؤلاء الأطفال. لم أفكر في ذلك قبل التفكير في خطتي ولكن أستاذ سعيد رجل طيب، ولن يهتم لاختفاء بعض الحلوى من المقصف، ربما سيظن أن أحد الأطفال الآخرين أخذها وحينها لن يحزن. تقول أمي دائمًا أن السرقة حرام وألا يجب (وأنه لا يجب) على أي شخص أخذ شيء ليس ملكه أو (من) دون أن يستأذن صاحبه أولًا. ولكن لا يمكنني استئذان أستاذ سعيد، لو فعلتها سيعلم بوجودي وحينها سأعود مرة أخرى وأنا لا أريد أن أعود، أبدًا.

أعتقد أنه حتى إذا عرف أستاذ سعيد لن يكون لي مكان، ربما سيكون هذه الأخ الجديد قد جاء بالفعل.
أشعر بالملل. في هذا الوقت كُنت سأكون أستحم ثم بعد ذلك أسلي نفسي في عمل بعض الواجبات المدرسية حتى تستحم سميحة هي الأخرى ثم ننزل سويًا لتناول وجبة الغداء. يا تُرى ماذا سنأكل اليوم؟ لا، ماذا سيأكلون اليوم. فأنا لست معهم ولن أكون معهم. أشعر بمعدتي تصوصو كالعصافير. بدأت الدموع تحاول مغادرة منزلها مجددًا ولكن، لا. لن أتركها، ليس الآن.

هل تشتاق إليّ أمي؟ هل تبحث عني الآن؟ أم قالت لها سميحة ألا تفعل! ربما لا تريد سميحة أن تجدني أمي وربما أمي لا تريد أيضُا أن تبحث عني.. ربما هي سعيدة الآن. ربما جميعهم سعيدين.

لثانيًة سمعت صوتًا غريبًا. صوت يأتي من الخارج ولكنه بعيد. صوت كالذي أسمعه عندما أحاول سد أذني حتى لا أسمع كلمات سميحة التي تضايقني. يكون غير واضح ولكن موجود. يزيد الصوت ويقترب أكثر فأكثر. يا الله، ربما ما زال هُناك أحد غيري في المدرسة، ماذا سأفعل!

أو ربما هذه هي الأشباح التي تسكن المدارس ليلًا التي أخبرتني عنها سميحة! ماذا سأفعل الآن! ياليت أمي هنا! يا ليت سميحة هنا! أريد العودة إلى المنزل، أريد أمي وأبي لا أريد هذه الأشباح! لا أريد-
انفتح الباب فجأةً.

"ليس هنا"
"أنظر جيدًا"
"ليس تحت الكراسي"

وفجأة رأيت أبي يقف أمامي، أبي اليوم في أجازة ( إجازة)، ها هو أمامي وجاء ليبحث عني.
"ها هو ذا!"

نزل أبي على ركبتيه وعانقني بشدة وفجأة كانت أمي وسميحة وأستاذ محمد وأستاذ راضي وبعض أساتذة آخرين لا أعرفهم، كُلهم أمامي.

تدخلت أمي وسحبتني من بين يدي أبي الكبيرتين وعانقتني عناق (عناقا) كاد يخنقني.

"لماذا لم تركب الباص! لماذا بقيت هنا! لماذا لم تذهب مع سميحة!" كانت تبكي وتصرخ معًا.

الآن أنا الذي فتحت الباب لدموعي وتركتها تغادر المنزل.

"لا أريد سميحة! ولا أريدك ولا أريد أي منكم! سميحة تكرهني وأنتِ كذلك! حتى أبي يكرهني، لا أحد منكم يحبني أو يُريدني لذلك أنت تريدين ابن جديد (ابنا جديدا)، أليس كذلك؟! سأبقى هُنا! أخبرتني سميحة اليوم! هي تكرهني وتريدني أن أذهب وتقول عليّ (عني) قصير وتضايقني وتسخر مني وأنتِ تقولين أنها تمزح ولكنها تجعلني أبكي! حتى أبي لا يريدني ولا يريد أن يقضي مع وقت ويريد ابن جديد (ابنا جديدا)، لذلك لم يذهب للعمل اليوم! لن أعود معكم، لن أعود!"

شعرت بالتعب لأني كُنت أبكي وأنا أتحدث. لم أصرخ أبدًا في وجه أمي ولكنِ كنت أصرخ حقًا. أشعر الآن نفس شعوري وأنا في حصة الألعاب عندما يجعلنا أستاذ راضي نركض حلو (حول) الملعب. شعرت وكأني كُنت أركض.
نظرت إليهم جميعًا، توقفت أمي عن البكاء وكانت عيناها مفتوحتان (مفتوحتين) أكثر من اللازم، هي وأبي وسميحة، كانت عيونهم جميعًا مفتوحة أكثر من اللازم. كان الأساتذة لا زالوا في الفصل معنا أيضًا.

"أوه، عزيزي" قالت أمي وعادت للبكاء ثم اقتربت مني ونزلت على ركبتيها وسحبتني هذه المرة برفق إليها.
"أنا آسفة، أنا آسفة حقًا. لم أكن أعرف أنك تشعر بكل ذلك. ماما تُحبك كثيرًا، أكثر من أي شيء في العالم. وبابا وسميحة. سميحة هي التي أخبرت السائق فورًا أنك لست موجود (موجودا) في الباص، وكانت قلقة كثيرًا عليك وظلت تبكي طوال الطريق لأنها ظنت أنك ضائع. هي أعتقدت أنك في الباص أولًا، لأنك دائمًا تصعد مع أصدقاءك ( أصدقائك)، لذا لم تلاحظ في البداية سوى عندما لم ترك في مقعدك."

الآن بكيت أكثر. أرادت سميحة أن أعود. لم تكن تريدني أن أضيع كما ظننت.

مسحت امي دموعي مما جعلني أريد البكاء أكثر.

"سميحة فعلت شيء سيء (شيئا سيئا)، وأنا آسفة أنني لم أكن أكثر حرصًا معها. لا يجب عليها أن تسخر منك أبدًا. لا يجب أن يسخر أي شخص من أخوته أو أصدقاءه (أصدقائه) أو أي شخص آخر حتى لو لم يكن يعرفه. ربما ظنت سميحة أنها هكذا تمزح ولكنها كانت مُخطئة، وأنا كذلك كُنت مُخطئة أنني لم اُنبهها أكثر."
اقتربت سميحة، ولأول مرة أراها تبكي حقًا. كانت تبكي كثيرًا، كثيرًا.

"أنا آسفة حقًا، لم أعرف أنني تسببت لك في كل هذا الحزن. أعدك أنني لن أفعل ذلك مُجددًا. والله لن أفعل ذلك أبدًا" قالت ثم عانقتني هي الآخرى.

"أما عن الأخ الجديد، فلن يأخذ مكانك في قلبي أبدًا يا صغيري. قلب ماما كبير جدًا، يمكنه أن يسعك أنت وسميحة وأخوك. سأظل أحبك دائمًا وأبدًا حتى إذا أصبح عندك عشر أخوة وأخوات، ستظل أنت كما أنت في قلبي"

لم أعرف ماذا أقول ولكنِ كنت سعيد (سعيدا)، سعيد (سعيدا) أكثر مما أكون عندما آكل شطيرة البيض المقلي، شطيرتي المفضلة. أوعندما تسمح لي أمي أن آكل الحلوى قبل النوم. أوعندما أرى مُحسن في أول يوم دراسي بعد إجازة الصيف. كُنت سعيد.. سعيد جدًا. (سعيدا .. سعيدا جدا)

"أما أنا" قال أبي وهو يتجه نحونا

"سأظل بجانبك كل يوم جمعة كما تريد ولكن أذهب إلى أي مكان."

يا الله، سيظل أبي معنا كل يوم جمعة؟ّ!

"أبي!!" صرخت في حماس ثم عانقته أنا هذه المرة بشدة.

ضحكت أمي وسميحة وجميع الأساتذة، ثم قال الأستاذ محمد "أظن أنه حان وقت العودة إلى المنزل".

= انتهت =


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى