الثلاثاء ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥
بقلم فتحي العابد

سوق المدينة العتيقة

دخل سوق المدينة العتيق المسمى "الرّبط" لشراء شيء ما، قبل أن يقصد بيت أحد أقاربه فارغ اليدين. وجده غاص بأكداس السلع المزجاة، المعروض بعضها بطرق تغري المشترين فيما كدس البعض الآخر حسب مزاج البائع إن كان نكدا أو منشرحا، لاحقته أصوات الباعة المنبعثة من كل الجهات وهو يتنقل في الفضاءات المفتوحة بنظراته البدوية الحذرة المتوجسة من كل من التقت عيناه بعينيه. اندهش من كثرة الإزدحام ذهابا وإيابا في الإتجاهين، يتأبطون قففهم ويسيرون كل يبحث عن ضالته بين الطاولات والمناضد الموزعة في صفوف خططت كما اتفق عليها، ترتفع عقيرة الباعة هنا وهناك:
 "هشوش.. هشوش للي ماعندوش ضروس.."

 "توت.. توت واللي مايشريش مني فاته الفوت.."

قطع نصبة الملابس في اتجاه نصبة التوابل والبقول الجافة، وعلى يساره نصبة الخضار والغلال، بعد أن توقف ببراكة اللحوم باحثا عن قلب يهديه إلى قريبه، الذي نساه ونسي الرجوع إلى أهله حتى في المناسبات، لكنه لم يعثر على قلوب تستحق الإقتناء، فابتاع رأسي غنم ليكونا لهم وجبة العشاء القادم..

تخطى أسوار المدينة ليجد نفسه داخل رحبة ينصب فيها سلعه كل من ليس له موقع بين الآخرين، وتسمى "رحبة تِر فِر"، وهي معزولة عن بقية السوق، وقد اشتهرت بهذا الإسم لهروب المتمردين على القانون كلما رأو الشرطة وعودتهم له مباشرة بعد غيابها..

وأكثر ما تتميز به هاته الرحبة أنها متخصصة في بيع كل ماهو قديم!

أدوات فلاحية قديمة، دروع حربية مهترئة، طوابع بريدية نادرة، صور شخصيات سياسية عربية وتونسية، كانت تحكم تونس في الماضي مرسومة بطريقة ساخرة، بعدما كان مجرد التفكير في اقتنائها جريمة يعاقب عليها القانون بأقسى أنواع العقاب، صور لشخصيات غابت عنها الشمس تجاور صور أخرى لشخصيات تضاهي الشمس شهرة، فيصبح كل ما يتعلق بالإثنين معروضا للبيع وبنفس الثمن، فإذا عجز التاريخ وفنونه عن جعل حنبعل وابن خلدون يجلسان إلى جوار بعضهما البعض وهما مبتسمين وهذا مالا تراه في كل ماعرض لهما من صور من قبل، فقد نجح بائع بسيط في فعل ذلك ولو رمزا..!

استرعى انتباهه حشد من الناس في حلقة حول رجل أعرج يبيع كلاما..

 "قرب..! قرب..! اللي ما شرى يحوس.."

اقترب من الجماعة و ظل يزاحم الأكتاف حتى تبين له العرض، أحس بيد تعبث بجيبه الأيمن.. لحظات فقط ثم انتزع اللص ما في جيبه من دراهم. استدار وأمسك بخناق اللص رافعا عقيرته بالصراخ:

 "سرّاق.. سرّاق.. فلوسي.. فلوسي.."

استجاب جل الشباب القريبين لنداءاته بسرعة البرق، وكاد يفرح باسترداد ما سلب منه، لولا أن رأى كيف تنازعته الأيادي مفتشة بقية أنحاء جسمه، منتزعة بالقوة ما لم يتمكن اللص السابق من نهبه، فتحول إحساسه إلى دهشة تلاها رعب حقيقي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى