الثلاثاء ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم محمود حسين عبيد الله العزازمة

سيدة القلاع

التقيا صدفة كما يلتقي ظل شجرة هرمة كتف مسافر، سافر لأول مرة، ولكن في الجامعة، تقصره قليلاً، لها قامة زاهية، أو قل معربدة قليلاً، الكتفان يتمرجحان بمرونة كفلقتي فلين، إذا شاهدت قامتيهما من بعيد خيل لك أن رأسها المربع قليلاً يحاذي أعلى كتفه، لكن عينيها الزرقاوين صبغتا من لجة عميقة في بحر بعيد لم تشاهده الشمس، نبتت في وجهها حمرة اختلطت ببياض رهيف وناعم، لكنه منتشر كلون أبدي، قالت له منذ البداية:

"إن وجهك هذا يشبه تريفور سنيكلير وأنا أحب تريفور سنيكلير خاصة عندما يخلع قميصه في وسط الملعب "، هو من قرية في الغور يعمل والده مزارعاً يربي البقر السمين وغيره من المخلوقات النافعة، أما والدها فيعمل منسقاً لشركة أمريكية فرعها في عمان، لديها سيارة حمراء جديدة، أما هو فيمشي على قدميه، وإن قصد مكاناً بعيداً يركب الحافلة كغيره من الناس، اسمه جمعة، واسمها سوزان.

جمعة أسود اللون شفاهه كبيرة ومتفحمة لكن خطاً أحمر اللون يحدد باطنها، شعره مجعد بمرارة، ولكنك إذا لم تلق بالاً لذلك، ونظرت إلى أنفه المنقاري وهو يحدودب بين خدين بارزين عريضين، غالباً ما تقرأ في جبهته الفسيحة شيئاً من الجمال، فشعره الذي عاد إلى الخلف ترك وراءه بريقاً متوهجاً ممتداً قد يذكرك بقرية هادئة نائمة قبيل الصبح، تجد هناك العاطفة قوية وطاغية، لكنها صادقة قد تذكرك بالحب.

منذ البداية قال جمعة لسوزان: "عندنا من البقر قطيع، لا يكف عن الخوار"، ومنذ البداية قالت له: "والدي يعمل مدير شركة وراتبه الشهري يريح أعصاب عشرة مثلنا" تلح عليه أن يجلس في "الملك بار" لكنه يفكر بالجلوس في "ركن الفلافل" غالباً ما تنتصر إرادتها، فيجلس كما تهوى، لكنه يشعر بالملل فيتململ في مكانه، ولا تلبث أن تهدأ وتعود الدماء إلى وجهه إذا ما مدت يدها وراء ظهره وقرصته في رقبته، يهمس حينها منتشياً: "أمرك مطاع يا سيدة القلاع "، وسنجلس أينما تبغين ولو في عرض الشارع، ويفرقع فمه ضاحكاً، وتتبعه في الصهيل مثل مهرة طائشة ثم بعد قليل من الكلمات يطرق ويروح في صمت، صمته يشبه السبات، ولا تجد سوزان له تفسيراً، هو لا يدري ما الذي أعجبها فيه، غير أنه يشبه لاعب كرة قدم مشهور، عندما يضحك تشاهد سوزان لسانه الأحمر المسنون يلعب في فمه برشاقة، ثم يصطدم مع شفاهه السوداء ويختلط معها، شفته السفلى ضعفي العليا بارزة للأمام، وإذا ضحك جمعة يختفي حالاً ذلك البروز وتنمو مكانه أسنان بيضاء كبيرة لكنها لامعة. وقد لا يلام من يراها لو أطال النظر.

قالت سوزان: "بروحي أفتديك يا جمعة ولو عشنا في قن دجاج ما عصيت لك أمراً " لكنه يشعر بالضجر تجاه كلماتها فيتمنى لو تغير الموضوع وتتحدث مثلاً عن أغنية تعجبها، أو تفاصيل فستان لبسته، قالت: " أحبك يا جمعة، احبك حتى التلاشي ألا تفهم يا جمعة".

ربت جمعة على فخذ سوزان، وعب من الهواء نفساً عميقاً: "ظروفي أصعب من الحب يا سوزان، سوداء مثل وجهي. أما أنت فوحيدتي على ظهر هذه الدنيا ولكن.. ".

بكت سوزان بكاءً مرّاً حرق قلب جمعة. ثم قالت: "تزوجني يا جمعة أيرضيك أن أقتل نفسي تزوجني وانس.. انس كل شيء ".

وبالفعل قدر على نسيان كل شيء وعاد إلى قريته، وجمع بعض الرجال السود، فركب كل منهم حماره، حتى وصلوا الشارع الرئيسي وربطوا حميرهم بأعمدة الكهرباء، وأنشأوا ينتظرون الحافلة "رائحة عمان مثل رائحة زبدة البقر" قال أحدهم للآخر. جبل عمان يتمدد بالبرودة ويتقلص بوجوه الغرباء، يجلس حول ذروته رجل في الخمسين لكنه قوي البنية واصلع الرأس في خديه حمرة قد تذكرك بخدي سوزان، يعمل نهاراً في الشركة ويزور المشرب والملهى ساعة هبوط الليل، دلف القوم يتقدّمهم جمعة ولم يكن بيتاً وديعاً كبيوت الغور، كان يشبه مدينة كاملة، لكن بيوتها رصفت فوق بعضها رصفاً. الطابق الأول ساحة واسعة تتسع لأن يتعارك فيها ثوران هائجان، وفي ردهة جانبية يقع الباب، قرع جمعة وانتظر القوم، رجل لم ينبت في جزئه العلوي شعر رحب بالقوم، ولم يكف عن الابتسام طوال الوقت، فبانت سلسلة ذهبية من الأسنان الصغيرة المصفوفة بعناية، الغرفة الرحبة حفلت بالزخارف والنقوش، منحوتات لفنانين إنجليز ماتوا وآخرين أحياء، ولوحة كتب عليها بأحرف غليظة "وأما بنعمة ربك فحدث" وأخرى تجاورها "المال والبنون زينة الحياة " لم يشربوا قهوتهم وانتظروا على مضض، رد الرجل الأمرد وهو يتصنع الرزانة والوقار "ابنكم جمعة مثل ابني، خلوق ومؤدب، لكنني حلفت يميناً قبل عدة سنوات أن لا أغرب النكاح، أخاف من الغربة، ابنتي ولدت وعاشت في عمان، ولا يخفى عليكم حرارة الغور وحشراته" لبث القوم يتحدثون ساعة ثم وضع كل منهم عباءته فوق ظهره ومضوا.

بقي جمعة وسوزان يلتقيان. عندما يختليان كانا يتعانقان وأحياناً يحتك شيء من لحميهما بعضه ببعض، اللحم الأسود يحك اللحم الأبيض واللحم الأبيض مع الوقت يصبح لونه قرمزياً حزيناً، لكن الوجه الأبيض يعشق الوجه الأسود، ويعاهده مراراً أن لا يختفي فجأة والشفاه المتوارية بين اللسان واللهاة متوردة وحمراء تهمسان للآذنين السوداوين كلاماً طعمه كالعسل "إن لسانك هذا عجيب يا جمعة إنه مثل شفق نهاية العمر" ثم مالت عليه ومال عليها، لا يدري ما يفعل بفراشة طوقت سواد وجهه، تذكر برهة خوار البقر وقرصة البعوض، لكنه أشاح بعيداً واعتلى عالم محسوساته أخذ يبلل مهرته بأحلام مستحيلة، لكنها عذبة تردد جمعة في البداية لكنه كشف عن مارد بدين الخصر رمادي الملامح وجهه مثل وجه إبليس الذي يتربص بالعباد، يتذكر جمعة أنها في البداية رددت شيئاً متقطعاً يشبه كلمة لا.. لكن اليدين تضغطان تقولان كلاماً غير هذا. وحمرة غريبة علت الوجه البارد فشحب قليلاً لكنه تورد.

التقيا بعد ذلك مراراً وذات يوم دعا جمعة سوزان إلى غرفته المعلقة في الطابق الخامس، وفي كل مرة يدثر جمعة سوزان، وتدثر سوزان جمعة وكأنهما إنسانان يعيشان خارج تخوم الحياة.

أحست سوزان بشيء في بطنها يتحرك ويقرصها أحياناً ويضايق نومها أحياناً أخرى، وفي أحايين يفجأها بحركة تشبه الرقص حتى وهي تضحك، كأنه يشاركها الضحك أما جمعة فتولع بسوزان نسي كل شيء وانهمك فيها لا يلوي على شيء، سلاحه مدية سوداء تغلغلت في إسفنج بياضه دافئ ورهيف، لكنه إسفنج عاشق، مدية أضاءت ظلمات لا عرض لها ولا طول، يلتقيان في مؤخرة عمان الغربية فتعزمه ويشربان ويثرثران، يقول جمعة:"أنا عبد منسي وقرد وأنت مليكة هذا الزمان، برب النعمة ما الذي صدفك لي! " ثم لكزها وضحك بمتعة مجنونة فتقول:"بأبي أنت يا جمعة أنت سيدي، وأنا عبدتك فافعل ما بدا لك ". وتجره خلفها في ممرات مضيئة بالشمعدان الأحمر، فيزداد العبد غبطة وتجري الكلمات على شدقيه كشظايا لا تخطئ أهدافها، أهداف لا يمكن التغاضي عنها، في زمن اشتعلت فيه الأخطاء واستطالت أظافر الريح وهتكت المزاريب ذبول الورد.

انتقلت لكي تعيش معه في الغور، أعجبها لبرهة منظر الحقول وظهور البقر المحدودبة، وعندما شاهدت النعاج البيضاء ترعى وسط الحقول صرخت لبعلها "إنها تشبه رقعة الشطرنج يا جمعة " فصاح جمعة يكاد فمه يتقدد من البهجة. وفي أول ليلة قرصها البعوض في وجهها مرات كثيرة، لكنها اعتبرتها حكاية مداعبة، وفي اليوم التالي كانت تتنزه مع فحلها وفيما كانت تداعب وتدلك أحد الكلاب الضالة بحنان، كاد الكلب أن يقضم نصف يدها وفي اليوم الذي يليه، حاولت أن تتأمل بقرة سمينة عن قرب، لكن البقرة السمينة سئمت من العيون الغريبة التي تتأمل، ورفستها في عينها وكادت أن تعمي الأخرى، بعدها بشهرين، طلبت من جمعة أن يزورا عمان فقال جمعة: "ولم لا يا حبيبتي نزور عمان الحبيبة ". وجلسا في البار ذاته شربا بمتعة جارفة وفي آخر الجلسة همست سوزان في أذن جمعة عبارات كثيرة ومؤثرة وآخر عبارة قالتها: "أيرضيك أن أبقى أدفع ثمن حبي لك حتى الممات؟ ماذا لو بقينا في عمان؟ " فتبرم جمعة من كلماتها برهة، ثم أطرق وقال وهو يرفع رأسه ببطء شديد "لكنني سأفتقدك كثيراً يا سوزان ".

بقي الشيء في بطنها يعبث ويثغو ويدندن أحياناً. وذات يوم أطل برأسه النحاسي من بين ضلوع سوزان. فلم تجد بقعة تخفيه فيها سوى الغور.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى