الأحد ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم جميل السلحوت

شرفة العار وعار المجتمع

في روايته «شرفة العار» الصادرة هذا العام 2010 عن منشورات الاختلاف في الجزائر والدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، يصدمنا الأديب الكبير ابراهيم نصرالله ببؤس واقعنا الاجتماعي، وبؤس ثقافتنا العمياء المتمثلة بقتل النساء تحت شعار مقيت اسمه"القتل بدافع الشرف"، وكأن شرف الانسان العربي يتمحور في بضعة سنتيمترات بين فخذي المرأة، أما الخيانة والسرقة والكذب والفساد والافساد، والرشوة والنصب والاحتيال...الخ من الصفات الذميمة فيبدو وكأنها لم تعد واردة في تحديد مفهوم الشرف، وهذا يقودنا الى تساؤلات أخرى عن أسباب هزائمنا المتلاحقة، نحن لسنا بصدد بحثها في هذا الموضع.

وأديبنا ابراهيم نصر الله الذي سبق وأن ناقشنا روايتيه"زمن الخيول البيضاء" و"شرفة العار" في ندوتنا ندوة اليوم السابع في عروس المدائن-قدسنا الشريف- شاعر وروائي وباحث متميز، وغني عن التعريف، وفي روايته هذه –شرفة العار- التي يفتتحها بتقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة عام 2009 والذي يشير الى:" ان عدد ضحايا(جرائم الشرف) في العالم هو 5000 امرأة،...حيث تشير الأرقام الى وقوع 15الى 20 جريمة قتل سنويا في الأردن....وفي مصر عام 2009 كان عدد جرائم الشرف52 جريمة، وفي العراق 34 جريمة في العام 2007، وفي الأردن28جريمة في العام 2005، وفي لبنان 12 جريمة في العام 1998." يعري المجتمع أمام مواطنيه، يعري ثقافة الجريمة، يعري ثقافة التخلف، يعري جرائم العار التي هي عار بذاتها.

وابراهيم نصر في هذه الرواية، رسم لنا قصصا واقعية عن جرائم ما يسمى "القتل دفاعا عن الشرف" رسمها بريشة فنان يملك ناصية الفن الروائي، رسمها بلغة جميلة، يطغى عليها عنصر التشويق رغم مأساوية المضمون، قدم لنا فيلما تراجيديا لمجتمعات وشعوب تُجمع- إلا من رحم ربي- على معاقبة الضحايا بجريمة أبشع تسلبهم أبسط حقوقهم، وهو حقهم في الحياة، والضحايا هنا نساء جميعهن، فهل المرأة هي الضحية دائما في مجتمعات العنتريات الذكورية؟ فقبل أيام نشرت وسائل الاعلام خبرا مفزعا عن جريمة حصلت في الباكستان المسلمة، وموضوعها أن قبيلة أحضرت طفلة من قبيلة أخرى في الثانية عشرة من عمرها، ووضعتها مقيدة أمام جمهور كبير، على منصة تشبه خشبة المسرح، حيث قام أربعة شبان بتمزيق ملابسها واغتصابها عنوة امام الجمهور، وتركوها تعود الى بيتها عارية تماما، ولم تشفع لها طفولتها وصراخها وفزعها وتوسلاتها وتوسلات والدها، وتهمتها هو أن شقيقها ابن الحادية عشرة نظر الى فتاة من قبيلة المغتصبين التي تعتبر أعلى منزلة من قبيلته، ومن المفزع ما جاء في الخبر أن الشرطة وقوى الأمن تعلم بهكذا جرائم، لكنها لا تتدخل خوفا من الاصطدام بالقبائل.

والضحايا في رواية"شرفة العار" هن بريئات لا حول لهن ولا قوة، فالبطلة الرئيسة في الرواية "منار"أغتصبت ببشاعة من قبل سائق سيارة، عمل سائقا بالأجرة على سيارة أبيها الذي أصيب بمرض في عموده الفقري جعله مقعدا، وسبب اغتصابها أن أخاها الأكبر"أمين" استدان من السائق المغتصب" يونس" -وهو زميله في الحانات وممارسة الدعارة مع المومسات، مع انه متزوج وأب لطفلة-، مبلغا من المال، ولما لم يرده اليه انتقم منه باغتصاب شقيقته"منار" التي انهت دراستها الجامعية في علم الاجتماع، وعملت باحثة اجتماعية في مدرسة حكومية، ولما حملت من جريمة الاغتصاب، وافتضح حملها، ووصل خبر حملها الى شقيقها أمين، من خلال تعيير زوجته الثانية تمام له بأن أخته حامل، علما أن زواجه من تمام الجارة الأرملة جاء لستر فضيحتيهما بعد أن امسكت به زوجته الأولى نبيلة متلبسا بالرذيلة معها، ولوحظ ان "سالم" عم منار كان ضدها منذ البداية لأنه ارادها زوجة لأحد أبنائه، ولم يوافق على تعليمها لولا اصرار والدها المعاق الذي يحبها حبا أبويا جارفا على ذلك، وقد كان الموقف النبيل بالدفاع عنها من قبل والدتها ونبيلة الزوجة الأولى لشقيقها أمين، ومن شقيقها الطفل أنور، وقد حال جشع الطبيب دون اجهاضها والستر عليها لعدم وجود المبلغ المالي الكبير الذي طلبه أجرة له، ولما توفر المبلغ من خلال بيع جزء من مصاغ الوالدة ونبيلة رفض الطبيب ايضا اجراء الاجهاض الا في مستشفى، وحتى عندما تراجع
شقيقها"أمين" عن قتلها بعدما علم أنه هو السبب في اغتصابها، لم يستطع اقناع الطبيب باجراء عملية الاجهاض، مما اوصلها الى السجن لتتعرض هناك الى اغتصاب"سحاقي" من وداد نزيلة السجن قوية البنية، الى أن وفرت لها الحماية شمّاء التي لها قصتها هي الأخرى، ولما رتبوا لاخراجها من السجن بعد أن انجبت وليدها في السجن، من خلال ابعادها الى دبي مع شقيقها عبد الرؤوف الذي يعمل في دبي، عادت من طريق المطار لتوديع والدتها، ليكون خلفها عمّها سالم المحرض منذ البداية على قتلها، وليطلق عليها شقيقها أمين النار في وسط الشارع، ويقتلها مع سبق الاصرار والترصد بالرصاصة الخامسة، ولتترك رسالة لذويها تركتها مع كفيلها الذي تعهد للشرطة بالحفاظ على حياتها، تعلن فيها حبها لوالديها وأشقائها ولأسرتها، وارتباطها بهم وعدم الاساءة اليهم، وقد حرص الكاتب أن تنشر الرسالة بخط"يدها" ليكون وقعها اكثر ايلاما.

أما تغريد تلك الطفلة يتيمة الأب التي تدرس في الصف التاسع فقد تعرضت لسفاح القربى من شقيقها، وحملت منه، وعندما هددته بالحديث لوالدتهما واخوتهما قتلها طعنا بالسكين، في حين لبنى التي قابلتها"منار" في السجن حملت من زميلها الذي كان يعدها بالزواج، ولماعلمت أسرتها بالموضوع أطلق عليها شقيقها بضع رصاصات لقتلها، فنجت هي من الموت وسقط جنينها، ولتقضي بقية عمرها في السجن، في حين أن شمّاء الفلاحة قوية البنية التي حمت ابنتها التي حملت سفاحا بخنق المولودة خوفا من اكتشاف الأمر من خلال صراخ الطفلة المولودة سفاحا، فقد سجنت وحكمت بالسجن سبع سنين ونصف، في حين لو قام أحد الأخوة بقتل البنت الحامل وجنينها فانه لن يمضي في السجن اكثر من ستة شهور.

المجتمع-القانون- الأمن:

يلاحظ أن أمين قاتل شقيقته منار كان زانيا سكيرا يرتاد الحانات والملاهي ويعاشر المومسات، وصديقه السائق يونس مغتصب منار كان من نفس الشاكلة، وشقيق الضحية الطفلة تغريد وقاتلها هو مرتكب جريمة سفاح القربى معها، وتمام التي فضحت منار زانية هي الأخرى، ستر عليها وعلى نفسه عشيقها أمين بالزواج، ولم يفتضح أمره وأمرها الا امام زوجته الأولى ووالديه واخوانه، لكنه لم يستر على شقيقته، وأكمل عاره بقتلها، ورجال الأمن في المعتقل كانوا يلهون بقصص الضحايا في السجن بحجة التحقيق ليلا، والجيران كانوا يتظاهرون بالعفة والشرف في حين يفضحون الضحايا أمثال منار ويشمتون بهن، والعم سالم هو نفسه ضحية للمجتمع الذي يرفض تعليم البنات، ويجبرهن على الزواج من أبناء عمومتهن في سن مبكرة، وهو معبأ بثقافة التخلف التي دفعته لملاحقة منار حتى قتلها. في حين كان من المفترض بمجتمع سويّ أن يدافع عن ضحايا الاغتصاب على الأقل...ومنار ضحية الاغتصاب هي نفسها لم تنقذ طالبتها الطفلة تغريد بأن تخبر الأمن لحمايتها، فقد تخلت عن دورها في المدرسة كمرشدة اجتماعية وتركتها تقتل، والقضاء والأمن تخلى عن منار عندما شهدت في المحكمة في قضية تغريد، وأخبرت المحكمة أنها حامل هي الأخرى، فلم يتخذ القاضي أو المدعي العام أو رجال الأمن أي اجراء لحمايتها، والطبيب هو الآخر لم يساعد منار في الاجهاض لانقاذها من قتل محتوم، والطبيب نفسه الذي يستغل هذه الأمور للكسب المادي المبالغ فيه خاف من الفضيحة والمخالفة القانونية عندما عادت منار اليه للاجهاض بصحبة عدد من افراد أسرتها بمن فيهم شقيقها ووالدتها، والقوانين تبرئ قتلة النساء على خلفية ما يسمى" شرف العائلة" أو تعطيهم أحكاما مخففة لا تتجاوز بضعة شهور، والضحايا في السجن هن ضحايا ايضا داخل السجون التي تسمى دور اصلاح، فالضعيفات هن فريسة سهلة للقويات، ومن في قلوبهم رحمة، ويقفون مع الضحايا لا حول لهم ولا قوة.... وهكذا فاننا نجد أنفسنا وكأننا أمام مؤامرة على الذات.

وقد ابدع أديبنا في رسم شخصية الطفل أنور شقيق منار، فقد كان مدافعا عنها حتى الرمق الأخير من حياتها، وكأني بالكاتب يبني آمالا وأحلاما جديدة على الجيل القادم الذي يمكنه التخلص من هذه العادات البيالية والجرائم المفزعة.

الأسلوب: ابراهيم نصر روائي متميز لا يحتاج لشهادة أيّ كان، وقد اعتمد في روايته هذه على اسلوب السرد الروائي، فأورد قصصا وحكايات قرأها أو سمعها أو عايشها عن جرائم القتل هذه، وقد ترك شخوصة تتحدث عن نفسها بنفسها، لم يتدخل بحركاتها، ولم يطرح رأيه فيما يجري، رسم لوحات تراجيدية، وهناك مقاطع تتوافر فيها كل شروط القصة القصيرة والأقصوصة، بلغة شاعرية بليغة، طعّمها قليلا جدا باللهجة المحكية حيثما اقتضت الضرورة ذلك، وقد طغى عنصر التشويق على الرواية بحيث أجبرت قارئا مثلي على قراءتها دفعة واحدة في خمس ساعات مؤلمة لما فيها من مآسي، وبالتأكيد فان أديبنا نفسه كان يتألم وهو يكتب روايته، هكذا تخيلته، وإلا لما قدم لنا هذا الابداع الروائي لو لم يعشه ويتفاعل معه.

وواضح في هذه الرواية أن ابراهيم نصر الله قدم لنا أدبا حقيقيا واقعيا، فقد عرى المجتمع أمام ذاته، كما رأيت أهمية الأدب والدعوة الى التغيير من خلال الأدب، وهذا فيه اجابة على سؤال: ما هو دور الأديب في المجتمع؟ أو ما هي وظيفة الأدب؟ ولو كنت مسؤولا لدعمت طباعة هكذا رواية لتدخل كل بيت وكل مؤسسة بسعر زهيد جدا، ولعملت عليها مئات الندوات في مختلف المؤسسات الاجتماعية والثقافية، حتى يتعظ من في رأسه عقل وغابت عنه الحقائق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى