الثلاثاء ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم مهند عدنان صلاحات

شعارات

كنت أعلم بإنه سيعود سريعا ليأخذ علبة سجائره التي نسيها وولاعته الفضية التي يتباها دوما أنها هدية من أحد أصحاب الشعارات الكبيرة ولا أذكر إسمه, رغم أنه دوما يذكره أمامي بتباهي و إعتزاز ...

يطرق جرس الباب فأقوم مبتسما وبيدي الولاعة وعلبة السجائر, أفتح له الباب وأناوله إياها وأقول :
هل إبتعدت كثيراً قبل أن تتذكر بأنك نسيت علبة السجائر والولاعة ؟
ضحك وأجابني : أنت تعلم مهما كانت المسافة بعيدة يجب أن أعود, فهل تتصور أن بإمكاني الذهاب لأي مكان دون ولاعتي هذه, يجب أن يعلم الناس جميعاً أنها هدية من أبو يوسف.
 هل ستدخل ؟
ضحك مرة أخرى وقال : لو كنت تريدني أن أدخل لما جلبتها معك للباب لتناولني اياها كأني شحاذ يطرق بابك فتناوله عن الباب الأشياء ويذهب.
 أنت تعلم أني في فترة إمتحانات وليس لدي وقتاً لأن أسمع عن بطولاتك, وغني عن خربشاتك على كتبي الجامعية التي جعلتها مثل حيطان المدرسة مليئة بخربشاتك.

كأن كلماتي إستفزته فأجابني : هذه التي تسميها خربشات, غداً ستكون مبادئ الثورة عندما تنتصر, وإلتف مسرعا يهبط الدرج وصوته يبتعد معه وهو يقول : انا ثورةُ , أنا عاصفة.

أعود للطاولة التي كما نجلس عليها, أنظر حولي لأرى أين وضعت قطعة القماش, أبللها قليلاً بالماء وأذهب بإتجاه الطاولة لمسح خربشات صديقي المجنون على الطاولة, فكل مرة يزورني فيها أحتاج لتغيير غطاء الطاولة من كثرة الخربشات التي يخطها لي على الطاولة , يعجز عن الحديث دون أن يمسك قلماً ويخط لي كل العبارات التي يحفظها من حرب الأفيون, والثورة الفرنسية, وأيام الخمسينات والستينات.
لقد حذرته بل ورجوته أن يكف عن تلويث الطاولة بهذه الخربشات, وهو يصر على أنها قيم ومبادئ يجب علينا أن نحفظها حتى نستطيع أن نستمر في حياتنا لنصل الثورة, بل أنه يشدد على أن لا يكون كلامنا مجرد حكم وفلسفة, لا بد أن نقوم بتطبيق كل ما نقوله على أرض الواقع.
حتى أني أشعر أحيانا انه لا يعي ما يكتبه, فقط يحفظها عن ظهر قلب, فحتى خزانة ملابسي لم تسلم من خربشاته التي لا يطبقها, لقد خط لي على الخزانة عبارة للثائر الأرجنتيني تشي جيفارا تقول : ( العالم لا يحتاج إلى النصائح, بل إلى القدوة , فكل الحمقى يتكلمون )...
إنه أحمق حين يكتب ما لا يطبق, فقد حول أفكار الناس إلى شعارت يتسلى بها.

الساعة السابعة صباحاً, أفيق وأدخل المطبخ لأضع غلاية القهوة على الغاز وأكمل غسيل وجهي وتنظيف أسناني.
أحتسي قهوتي على عجل, وأتناول الكتب عن الطاولة وأمشي مسرعا قبل أن تفوتني حافلة الجامعة.
يا إلهي هذا الأحمق من جديد ودون أن أراه, قد أفسد لي بخربشاته البحث العلمي الذي من المفترض أن أسلمه اليوم للدكتور, ماذا سأقول للدكتور : صديقي أراد أن يقول لك : إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر, فخطها لك على ظهر البحث !!
لا بأس سأحاول إعادة طباعة الورقة الأخيرة حين أصل الجامعة, المهم الأن أن أصل قبل أن تمضي الحافلة.

حتى جدران الكلية لم تسلم من ملصقاته وخربشاته, أجده يقف على باب الكلية وبيده أوراق وحوله يقف عدد من الطلبة يتبادل معهم الصور والملصقات,
أناديه من بعيد: يا فدائي الجامعة, هل ستذهب معي أم ستبقى ؟
يتجه نحوي قائلاً : إذهب وحدك فعندي أعمال كثيرة اليوم, يجب أن نقوم بتوزيع الملصق الأخير في الجامعة, إنظر اليه كم هو رائع, إنظر للصورة كم معبرة عن هؤلاء الذين يموتون بالعراق, وتلك العبارة القاسية.
 اسمهم شهداء وليسوا هؤلاء, ثانياً قد لا أتمكن من حضور حفلة عيد ميلادك اليوم فعندي إمتحانات كثيرة وعليّ أن أستعد لها, الفصل في نهايته.
 إسمع : كلنا عندنا إمتحانات لا تختلق الحجج كي لا تحتضر, قل إنك تستخسر أن تحضر لي هدية, لكن لا تقل لي إمتحانات فكل زملائنا سيحضرون الحفلة, ثم إن الحفلة لن تأخذ من وقتك أكثر من ساعة, تمضي بعدها لإستكمال دراستك يا محامي المستقبل.
 سأحاول قدر إستطاعتي أن أحضر, أعدك بذلك, وسأحضر لك هدية ستعجبك.

أركب الحافلة باحثاً عن كرسي فارغ أجلس فيه, فأجد صديقته تجلس وحدها فأبادر بسؤالها : هل تنتظرين أحد ؟
تجيب : وهل هنالك غيره أنتظره, ألم تره ؟
 بلى رأيته, لكنه سيتأخر فعنده أشياء كثيرة يعملها, سيقوم بتوزيع ملصقات, وبعد ذلك سيدعو الزملاء لحفل عيد ميلاده اليوم.
 صديقك هذا مجنون, اليوم عيد ميلاده والمفروض أن أظل معه طوال اليوم, لكنه قد تركني أذهب للبيت وحدي حتى دون أن يقول لي بأنه سيتأخر وتركني أنتظره ساعة في موقف الحافلات, والله إن صديقك هذا مجنون
أضحك من كل قلبي على عصبيتها, وكأنها اليوم قد عرفته, وكأنها ليست هي التي لم تُبقي وسيلة ممكنة كي تكلمه, وكما قال لي بأنها صارحته بأنها تحبه منذ أن دخلا معا للكلية ولكنها كانت تنتظره أن يأتي ليكلمها, لكنه لم يأت, فإضطرت لكسر القاعدة والعرف وجاءت هي وفاتحته بالموضوع.
لقد كانت مبهورة هي الأخرى بشعاراته التي تملأ جدران الكلية وكراسي الحافلات ومقاعد الجامعة, حتى التدفئة وجرس إنذار الحريق في الكلية كان قد خط عليه بقلمه ( فل نشعل النار حتى نصل القرار )

كسر صمتي مع نفسي دمعة سقطت من عينها, لم أطق رؤية هذا المشهد الدرامي الحزين من أنثى رقيقة مثلها فبادرت لسؤالها : ما بك, هل هو السبب ؟.
كاني كنت أعطيها حافز لتنطلق بالبكاء, وقالت : لا أدري ما الذنب الذي إرتكبته حين أحببته حتى يعاقبني بهذه الطريقة, إنه يملأ كراساتي الجامعية بشعارات الحب, كتبي وحتى الكتب التي كنت أستعيرها من المكتبة كان يملأها لي بشعارات الحب وأبيات الشعر الغزلي والثوري, لكنه اليوم يدعو جميع صديقاته إلى حفل عيد ميلاده وهو يعلم مسبقاً أني أكره حضورهن, لقد قال لي : لا أرى غيرك أنثى في العالم, فلماذا إذاً دعا صديقاته لهذا الحفل, وأكملت بكائها بصمت.

همومها أيضا مشروعة ومن حقها أن تدافع عن حقها في أن تتوحد فيه, وأن يكون ملكها في العشق, فلماذا لا يطبق ما يكتبه من شعارات, حتى نافذة الحافلة لم تسلم من خط يده, فعبارة (حين رأيتك, قررت إغتيال جميع النساء بحياتي ) لا تزال مخطوطة أمامي وبخط يده, مما يدل أنهما قد جلسا في ذات الكرسي معاً وهذا ما يفسر إختيارها الأن لهذا الكرسي.

وصلت البيت وبدلت ملابسي وإستعديت لأن أخوض الأن رحلة نوم بعيدة عن كل الشعارات الزائفة, رحلة ربما تعطيني القليل من السكون بعيداً عن أجواء صخب هذه المدينة الإسمنتية بكل مقوماتها, مدينة لا تعرف الحب, وتصادر المشاعر من القلوب لأجل المادة.

أفقت كالمجنون الذي مسه شيء, رنين الجرس المتواصل منعني من الدخول إلى حديقة بيتنا البعيدة, التي منذ إخترت مكرهاً هذه الغربة لم أدخلها إلا في الأحلام, لا بد أنه هو, فلا أعرف أحداً يجرء على قرع الجرس بهذه الطريقة إلا هو ورجال الأمن.

أفتح الباب فأجد ملامح التوتر على وجهه,
 ما بالك كالهارب من مخبر ؟؟
أجاب : بسرعة أرجوك أنا على عجلة من أمري, أريد إستعارة بعض الأشياء من عندك للحفلة.
فبادرته قائلاً : حفلة !! عن أي حفل تتحدث ؟
 ما بالك هل نسيت, إنه عيد ميلادي اليوم ؟0.
أعلم أنه عيد ميلادك, وأعلم أنك قد دعوت الأصدقاء وصديقاتك أيضاً, لكن من المفترض أنك ثوري ووطني وقومي ولا ادري ماذا تسمي نفسك ايضا, وتراعي شعور الأخرين, ألم تسمع اليوم الأخبار !!! هنالك أحد عشر شهيداً قد قضوا في مجزرة إرتكبها الإحتلال في غزة, فعن أي حفل تتحدث يا صديقي المفعم بالشعارات الوطنية.
  وماذا بوسعي أن افعل في إسرائيل هذه التي تسرق فرحنا, هل أطرد أصدقائي ؟ هل تريد أن اقول لهم : أنا أسف فإسرائيل لن تسمح لي بإقام حفل عيد ميلادي لأنها تقتل أبناء شعبنا في غزة ونابلس وجنين ؟؟ ماذا سيقول أصدقائي عني ؟؟ رجعي متخلف !!
  أعطني الكاسات والإبريق أرجوك أنا على عجل من أمري.
 بالفعل أنت مثل الأنظمة العربية لا ترفع إلا الشعارات الكبيرة , وحدة , حرية , إشتراكية , قومية , إسلامية , ولا أدري ماذا أيضاً, لكن حين يجد الجد تكن أول من يهرب من شعاراته, فأول من فتح السجون كان أول من رفع شعار الحرية, وأول من طالب بالإنفصال ودعم الإنفصالين كان أول من إدعا الوحدة العربية, وأول من عذب المعتقلين السياسين والمعارضة هو اول من رفع شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان.
 أرجوك أجل محاضرتك في القيم والأخلاق هذه لمرة أخرى, فأنا على عجل الأن.
 هي بالمطبخ إذهب وخذ ما شئت, لكن ليكن معلوم لديك أني لن أحضر إحتفالك التاريخي هذا, لكني سأقوم بواجبي الذي يمليه علي هذا المجتمع السخيف الغارق في إحتفالات السوبر ستار وأعياد الميلاد وإحتفالات طهور الأطفال, وأمريكا تمارس التطهير العرقي في بلادنا.
 أنت حر المهم أنا قمت بواجبي أيضا ودعوتك.

فتح الباب حاملاً ما جاء ليأحذه من أغراض ومضى مسرعاً بإتجاه بيته حيث يعد لإحتفاله الروتيني كرئيس عربي نجح كعادته في الإنتخابات بنتيجة 99,9999% .

وقفت أمام الباب, كان صوت الأغاني يُسمع من أخر الشارع, وضحك الحاضرين يكاد يصل لما بعد ذلك, طرقت الباب, ففتح لي أحد الأصدقاء وقال بصوت عالٍ ليسمع الجميع : إحزروا من حضر ؟؟
قاطعته قائلاً : لا تنادي أحد فأنا ذاهب, فقط أعطي هذه العلب الثلاث له, وقل له بالنيابة عني: (عقبال المائة عام).
جاء مسرعاً وقال : هل قررت أن تشاركنا ؟
 لا, لكن جئت كي أوفي بوعدي لك, فهذه هديتك .
 ما هذه العلب الثلاث, وما هذه العبارات الرائعة المطبوعة عليها,
تناول العلب الثلاثة مني , وقال مستغرباً : لماذا هي خفيفة الوزن
 إفتحها وسترى, لكن قبل أن تفكر في فتحها إقرأ المكتوب عليها من الخارج
بدأ بقراءة الشعارات التي كتبتها له على الغلاف الخارجي للعلب
( إنها لثورة حتى النصر ) ( فلسطين من البحر إلى النهر ) ( إما فلسطين ... وإما النار جيلاً بعد جيل ) ( أمة عربية واحدة ... ذات رسالة خالدة ) ( الثورة لا تموت ... لكنها تتجدد بالقلوب ) ( أطلق لها السيف لا خوف ولا وجل ... أطلق لها السيف وليشهد لها زحل )

صرخ بصوت عالٍ , أنت رائع, الأن بدأت أشعر أنك تفهمني والدليل أنك تحفظ شعاراتي وتكتبها على علب الهدايا.
قلت له : إفتحها, فليس لدي وقتاً لأضيعه معكم فعندي إمتحانات.
فتح العلبة الأولى فوجدها فارغة فبادرني بإبتسامة وكأني فهم أني أمازحه.
فتح العلبة الثانية فوجدها أيضا فارغة.
وفتح العلبة الثالثة وكانت ملامح وجهه تتبدل, وإبتسامته بدأت تغوص بين علامات سؤال يطرحها دون أجوبة.
قال : هل نسيت وضع الهدية في العلب ؟
قلت : كلا, هذه هي هديتك .
 إنها فارغة
قلت : ولكنها مغلفة بشعارات
 لقد قرأت الشعارات عليها من الخارج, ولكن أين المحتوى ؟؟
قلت : هي شعاراتك يا صديقي, فهل تتوقع أن تجد بداخلها شيء ؟؟

ومضيت عائداً لبيتي, بعد أن تركته واقفاً في الباب متسائلاً ...
ماذا كان يتوقع مني, هل أهديه ما لا أملكه أنا ؟؟
أنا بلا أهل ولا وطن ولا دار في هذه الغربة فماذا استطيع أن أهدي صديقي صاحب الشعارات الرنانة ؟؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى