الاثنين ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

شياطينُهم وشياطينُنا

بدايةً أبتدئُ الحكايةَ بقصَّةٍ روَتْها الكاتبةُ الجزائريَّةُ المبدعةُ أحلامُ مستغانْمي تقولُ فيها:

"وصلْتُ إلى بيروتَ في بدايةِ التِّسعينيَّاتِ في توقيتِ وصولِ الشّابِ خالدٍ إلى النُّجوميَّةِ العالميَّةِ، أغنيةٌ واحدةٌ قذفَتْ بهِ إلى المجْدِ، كانتْ أغنيةُ (دي دي واه) شاغلةً النَّاسَ ليلاً ونهاراً، على موسيقَاها تُقامُ الأعراسُ وتُقدَّمُ عروضُ الأزياءِ، وعلى إيقاعِها ترقصُ بيروتُ ليلاً، وتذهبُ إلى مشاغلِها صباحاً، كنتُ قادمةً لتَوّي من باريسَ، وفي حوزتِي مخطوطُ (ذاكرةُ الجسدِ) أربعمائةُ صفحةٍ قضيْتُ أربعَ سنواتٍ في نحتِها جملةً جملةً، مُحاولةً ما استطعْتُ تضمينَها نصفَ قرنٍ من التَّاريخِ النِّضاليِّ للجزائرِ، إنقاذاً لماضيْنا ورغبةً في تعريفِ العالمِ العربيِّ بأمجادِنا وأوجاعِنا.

لكنَّني ما كنتُ أُعلنُ عن هويَّتي إلّا ويُجاملُني أحدُهم قائلاً: آهِ أنتِ من بلادِ الشَّابِّ خالدٍ… وفوراً يُصبحُ السُّؤالُ ما مَعْنى عبارةِ: (دي دي واه)؟ وعندَما أعترفُ بعدمِ فهْمي أنا أيْضاً معناهَا، يتَحسَّرُ سائلِي على قَدَرِ الجزائرِ، الّتي بسبَبِ الاستعمارِ، لا تَفهمُ اللُّغةَ العربيَّةَ!.. وبعدَ أنْ أتعَبَني الجوابُ على فزُّورةِ (دي دي واه)، وقضيْتُ زمناً طويلاً أعتذرُ للأصدقاءِ والغرباءِ وسائقِي التَّاكسِي، وعاملِ محطَّةِ البنزينِ المصريّ، ومُصفِّفةِ شَعري عن جهْلِي وأُمِّيَتِي، قرَّرْتُ ألّا أُفصِحَ عن هويَّتِي الجزائريَّةِ، كيْ أرتاحَ.

لم يُحْزِنِّي أنَّ مُطرباً بكلمتينِ، أو بالأحْرى بأغنيةٍ من حرفينِ، حقَّقَ مجْداً ومكاسبَ، لا يُحقِّقُها أيُّ كاتبٍ عربيٍّ نذَرَ عمرَهُ للكلماتِ، بقدْرِ ما أحزنَني أنَّني جئتُ المَشرقَ في الزَّمنِ الخَطَأ. ففي الخمسينيَّاتِ، كانَ الجزائريُّ يُنسَبُ إلى بلدِ الأميرِ عبدِ القادرِ، وفي السِّتّينيَّاتِ إلى بلدِ أحمدَ بن بلّة وجميلةَ بوحيرِد، وفي السّبعينيَّاتِ إلى بلدِ هوَّاري بومِدْين والمليونِ ونصفِ المليونِ شهيدٍ… اليومَ يُنْسبُ العربيُّ إلى مطربِيهِ، وإلى المُغنِّي الّذي يُمثِّلهُ في ستارٍ أكاديميٍّ..". (بتصرُّف).

نعمْ العالمُ في مُعْظمِه ولا سيَّما في الشَّرقِ العربيِّ يُنسَبُ اليومَ إلى مُطربيهِ ولاعبيهِ ورقَّاصيْهِ وعقَّاصيهِ، ولا يُنسَبُ لمُفكرّيهِ وأدبائِهِ وعلمائِهِ وعظمائِهِ المَجْهولينَ، لكنَّ المُحزِنَ والأنْكَى مِن كلِّ ذلكَ أن يَخترعَ شياطينُ الغرْبِ برامِجَ ليسَ لهَا عدٌّ ولا إحْصاءٌ تنتشِرُ انتشارَ النَّارِ في الهَشيمِ على امتِدادِ القارّاتِ والدُّولِ، ولا يُعرفُ ذلكَ الشَّيطانُ الّذي اختَرعَ هذهِ البرامجَ الإلكترونيَّةَ أوبرامجَ التَّواصُلِ الاجتِماعيِّ وغيرَها، فالكثيرونَ في الشَّرقِ لا يعلَمُونَ أسماءَ مُخترِعِي هذهِ البرامجِ، لكنَّهُم يعلمُونَ أشْهرَ بلْ أتفهَ الرَّاقِصاتِ والمُغنِّياتِ واللّاعبينَ والطَّبَّالينَ والزَّمَّارينَ والمُتلاعبِينَ والمتلاعِباتِ في الأهواءِ والعقولِ، إنَّهم يَعرفونَ معظمَ الأشياءِ الّتي تستَنزفُ الطَّاقاتِ والوقتَ والفكرَ، لكنَّهم يَجهلونَ أسماءَ العباقرةِ والعلماءِ الّذين سخَّرُوا كلَّ شياطينِهم من أجلِ جعلِ العالمِ كلِّه قريةً صغيرةً تجدُ فيها ما يَشتَهي الفكرُ، وما ترتاحُ له النَّفسُ، وما تأنسُ لهُ الرُّوحُ، وترتقِي بالإنسانِ من بهيميَّتِه إلى إنسانيَّتِه..

معظمُ الخلقِ هُنا يعلمُون (الفيس بوك واليوتيوب وتويتر والوتس أب والتّليغرام والإنستِغرام والسّوشيال ميديا والتِّكتُوك) وغيرَها الكثيرَ الكثيرَ، ولكنَّهم يجهلُون الشَّياطينَ العباقرةَ الّذين أبدعَتْ قرائحُهم هذهِ البرامجَ الّتي لو توفَّرَت للأوَّلينَ لتّغيَّرَ وجهُ العالمِ جملةً وتفصيلاً ولربَّما تغيَّرَتْ معتقداتُ البشريَّةِ برمَّتِها ووفَّرَت على نفسِها حروباً طاحنةً في سبيلِ نشرِ فكرِها بالسَّيفِ والنَّارِ!

لقد ابتكرَ شياطينُ الغربِ ما يعجزُ عنهُ شياطينُ السَّماءِ، حتّى لنَكادُ نُجزمُ أنَّ الشَّياطينَ أضْحَوا مساكينَ أمِّيّينَ تُمْلي عليْنا حالُهُم الرّأفةَ بهِم والإشفاقَ عليهِم، كمَا عبّر عن ذلكَ أدباءُ العالمِ في الدِّفاعِ عنِ الشَّيطانِ!

لقدْ طوّرَ شياطينُ الغربِ كلَّ وسائلِ الاتّصالِ والمعرفةِ الحديثةِ، لكنَّ ذلكَ لا يَعْني أنَّ شياطينَ الشَّرقِ العربيِّ لم يُقدّمُوا شيئاً في ميدانِ الابتكارِ والاختراعِ، صحيحٌ أنّ العرَبَ لم يُقدِّمُوا برنامَجاً اجتماعيَّاً واحداً يُضاهي (الفيس بوك أو السّوشيال ميديا أو الويكيبيديا) أو غيرَها، فلم نجِدْ برنامَجاً يحمِلُ اسماً عربيَّاً صِرفاً، وليسَ هذا من بابِ التَّخلُّفِ أو ضعْفِ الإمكانيَّاتِ والطَّاقاتِ الفكريَّةِ لا سمحَ اللهُ، وإنّما جاءَتْ ابتكاراتُ العربِ في توظيفِ هذهِ الوسائلِ للشَّتائمِ ورميِ التُّهمِ بالخيانةِ والعمالةِ.. وكلٌّ يُوحي بأنَّه القدِّيسُ المنقذُ من الضَّلالِ إلى الهدايةِ.. وكلٌّ ينشرُ غسيلَه وغسيلَ غيرِه على الحبالِ.. وغدتْ هذهِ الوسائلُ مطيَّةَ الجُهلاءِ والمقاولينَ والمرتزقةِ يَجْنونَ من تفاهاتِهم أكثرَ ممَّا يَجْني مُخترعُ البرامجِ نفسِها. ولكنَّ شياطينَ العربِ ابتكرُوا وسائلَ تواصلٍ وتجمُّعٍ وسرعةِ انتشارٍ بمَا لا يدعُ مجالاً للشَّكِّ في طاقاتِهم، فقدْ ابتدعَ شياطينُ العربِ أكبرَ مَنسفٍ في العالمِ، وأضخمَ قرصِ فلافلٍ، وأطولَ شيلةٍ من الزَّبرجَدِ، وأجملَ بُردةٍ مرصَّعةٍ يالياقوتِ والجواهرِ، وأغلَى قُبَّيعةٍ مزكشةٍ بريشِ حوريَّاتِ الجِنِّ، وأطولَ سروالٍ يلفُّ طرفُهُ الكرةَ الأرضيَّة، وأضخمَ طبلةٍ مصْنوعةٍ من جلدِ العفريتِ، وأسرعَ وأكبرَ برميلِ ألعابٍ ناريَّةٍ يَمسحُ حيَّاً بأكملِه من سطحِ البسيطةِ، وأرقَّ وأنعمَ حزامٍ ناسفٍ تخالُه شالاً منَ الدِّيباجِ، وأطولَ لفَّةِ خيوطِ معكرونةٍ، وأعرقَ وأقدمَ عرشٍ لم يلمَسْه إبليسٌ من الجنِّ..

نعمْ لكلِّ أمَّةٍ مجالاتُ ابتكارٍ واختراعٍ، ولكلِّ أمَّةٍ شياطينُ وأبالسةٌ منَ المخترعينَ، إنَّهم ليسُوا بأفضلَ منَّا، لهُم اختراعاتُهم ولنا اختراعاتُنا، لهم معتقداتُهم ولنا دينُنا، لهم سماواتُهم ولنا سماواتُنا، لهم خِيارُهُم، ولنا طماطمُنا، لهم مفاعلاتُهم ولنا شنكليشُنا، لهمْ حربُ نُجومِهم، ولنَا (دي دي واهُنا)، لهُم الكواكبُ بكلِّ ألوانِها وأشكالِها، ولنا سمراءُ حاصُودِنا، لهُم خطوطُ الطُّولِ والعَرضِ، ولنا سكّوباتُنا تُدغدِغ أحلامَها مَجارفُنا، لهُم سعادينُهم وإن اختلفَتْ عليهِم، ولنا أبقارُنا وإن تشابَهَتْ علَينا!

من ذكرياتِ فيسبُوكي متشائِم 11/11/2011


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى