الأربعاء ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم علي دهيني

شِقشِقة قلم.. إبداع النص الأدبي

فيافٍ هي أم قوافٍ.. أم هي جلسات ودٍ مع الخاطر والوجدان؟

كلمات تتبرج، تتزيّن بسندس الأدب لغة ومضموناً في "شِقشِقة قلم"، بعدما تزيّنت بإستبرق الشعر نثراً وقافية في "صلة تراب"، ليحملنا الشيخ فضل مخدر في مولوده الوجداني الثاني، إلى جماليات الحرف في معانيه حين يتجمع مثل قفير على بُرعم زهرة جميلة. وما أجمل أن تجلس إلى الكلمة تسامرها مستأنساً بإصغاء وهي تهمس في ذاكرتك صوراً من كلمات كانت تعبُر بَصرك أو بصيرتك، دون أن تلمّ منها ما لمّته نباهة

المؤلف أو استخلصت منها حكمة أو عبرة، فجاءت في عجالات السرد الأدبي أو متعلقات الحكايات لتقول: خذني في ذاكرتك، ألست من يعبّر عن خواطرك ويدثّر وجدانك برشاقة المعاني، أتمايل كوردة مع رفيقاتي، في جملة أدبية تعيد الى الروح قيمة الأصالة في ثوب الحداثة؟

جاء كتاب "شِقشِقة قلم" في زمن بتنا نشتاق فيه إلى لغة تصقل ألسنتنا وتهذب ألفاظنا وتتقن تركيب جملنا التي ضاعت بين السن ناقلة وعقول منقولة دون مَهيب، للغة تتعرض يوماً بعد يوم لنهب قواعدها وتسفير مفرداتها.

قد تبدو المراجعة الجدية لصفحات الكتاب منفية في هذه السطور، وهذا فرضته علينا اللغة الرشيقة والجملة الدّمِثة التي أجاد تركيبها المؤلف وبرع في اختزال المشاهد ليقدم فيها الشواهد دالة على مكامن الوجع في عجالة، او على لحظة فرح حملها الخاطر من فيافي الأسفار، كما تتشابك في طيات هذا الكتاب حكاية الإنسان بأوجاعه من حيثما أتت.

لهذا قد تبدو المراجعة الجدية منفية، لأن رهافة المشاعر وانسياب الأحاسيس لا تحتاج إلى مطرقة وإزميل لتجسد فكرة تكونت في ذاكرتنا، ومع ذلك أبرع الشيخ المؤلف، في نحت الشاهد في مضمونه الأدبي، فحاكى الحاضر بما يحمل من مآس وما فيه من ألم يسود البلاد والعباد، فأخرج من بين هذا الركام الأسود صفحات بيضاء ناصعة من صنوف الأدب، لغة ومضمونا وموضوعا، أمتاز بها على اللغة المعتادة اليوم في محاكاة الموضوعات ويتغنى بها واضعو المؤلفات بتمجيدهم للمستورد من ثقافتهم ولمام ألسنتهم، بما افقده جمال اللغة الأم، ليس نكرانا لإبداع المبدعين، إنما توقا لما بتنا بحاجة إليه، وعلى هذا تأتي محتويات "شِقشِقة قلم"، بتعدد عناوينها، قصائد محبوكة بسرد أدبي روائي يرسل الجملة الشعرية في المشهدية الروائية لتحاكي مشكلة اجتماعية أو ماساة إنسانية.

هكذا يتسرب مضمون الكتاب حاملاً نفحات من رفيع الأدب بلغة جميلة، سهلة ممتنعة، تجمع بين الأصالة في الموروث والحداثة في الموضوع دون أن تنسى لغة خطاب الوجدان واستشعارات الضمير مما حمله "النجدان" ليعبّرا عن حزن أو عن فرح لا يخلوان من الحكمة واخذ العبرة.

يستقبل المؤلف زائره " مرحباً.." في بدء الكتاب، فتسيل في مجاري نفسك الملهمة، "لكأن الروح قد تمددت خارج جهاتها الأربع". وما أن يحط رحال آخر مادة العنوان، حتى يغرس نخلة في نشوتك من ترحيب دمث، فيكرعك "أكؤس مزاجها عسل" وفي مضامينها ذكرى لرحلة الروح حيث لا مال ولا بنون بين يديّ القادر القدير، وحيث ولد النور " بين كفي محمد".
قد يتبادر للذهن من العنوان ومن شخص المؤلف، أنك ذاهب مع هذا الكتاب في رحلة عودة لماضٍ أو موعضة لإرشاد، وإذا بك أمام شخصية عرفت وتعرفت إلى الحياة بكل ما فيها لتحاكي الحداثة بلغتها من خلال وعي مرتبط بالأصالة التي لا يجب أن تنسينا مرادفات مصادفات الأيام، ضرورة التمسك بها وصوغ فهمنا بما يتوافق مع ثقافتنا وجذور أصالتنا. فيستعرض هموم المُعاش ويتعرض لمآسي الحروب وكفر الجوع وتملك الجشع بما أورث من الوجع، لذا نجد في سطورعجالات أدبية، توقاً للنور ينبعث من خبايا النفس، ونجد فيه مراتع للعلم تحاكي الحياة من "ترانيم المعابد"، ليذهب القارىء "مزهواً بخمر أوثان الضاد" ويأتي الأنين موؤوداً من "خبايا ليالي السّمر" التي تحولت في زمننا الحاضر، إلى موائد تهشيم وتدنيس لكل قيم الإنسان، و لتستيقظ في لحظة وجدان على وجع مياسم الجمر ولهب الدّم النازف " في جحيم العراق" وعلى أرضها، أوفي فلسطين، في بلاد أمة تبعثرت بعدد حروف أبجديتها، فيُميتك كيف تقسم بنوها إلى مفاوز متنافرة متناحرة، فكأنما كل حرف أكلته الأنانية حتى ظن أنه وحده الكون كله. كما تناهى الى أفهامنا من حكاية أبا ناصر في " صلاة مغصوبة". ( ص 40) أو في مضمون عنوان " إنّ الأعرابَ أشدُّ..." والتي كتبها خاطرة على رجع حفل توقيع كتاب " الأبعاد الشعرية عند نزار قباني في التسعينات" للكاتب جورج مسعد.

ويمضي عاقراً ألماً في النفس وماسكاً عيناً عن الدمع على شظايا تراشق الحكام وسلاسل قمع الأنظمة، كيف يستلون روح الإبداع والجمال رماحاً في الأظهر وسيوفاً في الأنحر. فيكتب تحت عنوان "فضيلة الحرف"... " متى كان الحرف يبحث عن فضيلة.. كي يخرج مع اكليل الكلمة ويعبر عن نجوى؟.. هل بات هذا الزمن عاجزاً عن فهم مضامين حروفه؟.. أم صار الحرف الممهور بمداد المبادىء مفقوداً حد الندرة. فإذا غنّى طفل .. أو همّ الثغر بهمس من قِيَمٍ نحسبه حلق فوق الدنيا وأجاد النور.. فنمجده."..

ويخشى أن تسوقه المشاهد النازفة أمام العيون الوقحة، فينبري ليخاطب الإنسان بكل ما يمثله هذا المخلوق من قيمة وثروة على هذه الأرض، فيلج دفاتره خطاباً له ومحاكاة لضميره، فيحاكيه مرة مواسياً ومرة لافتاً، فيصف له من الحياة عِبَرا ومن النفس أمثلة.

ونلحظ في مجالاته الأدبية أنه أفرز للشمس عنوانين عدا عن ذكرها في أكثر من نص من نصوص الكتاب، "كلمة من شمس" (ص 35) (ولا ندري إذا كان تذاكيا لإسم علم)، و" شروق بين شمسين" (ص81)، (ولعلهما حبيبتان جلستا في خاطر الكاتب، فخاطبهما مقرنتان مع الوجود)، ولكن يبقى التضمين الذي نُشداه الحقيقة، وكأنه حمل عصا البحث عمّا يحمله هذا الوجود وتجلياته، وفيما حوى من بشر وحجر، ومن أفعال وممارسة حياة وفيها سلوك إنسان برغم حاسة النظر عنده كما في حكاية "سراج الأعمى" وبطلتهاعلياء، البصيرة، إلاّ أن هذا الإنسان يُغمض بصره عن الإعتراف بما حوله او انكشاف جهله، فيحيله من بسيط إلى مركّب وفقاً لأهواء أو معاندة لمنطق إمعاناً في تقديم الأنا على كل شيء.

والعصفور الذي وجد فيه الكاتب رسالة الروح الواجدة في ترانيم الحب والحياة وجمال ما خلق الله، الهائمة في فضاء رحب، المنطلقة نحو الحرية حيث تسكن منعمة في هذا الكون بلا قيود ولا تحديد وجهات، إنما انسياب خواطر مرهفة تستأنس بنسمة تداعب الروح وتهمس فيها عزف المشاعر الرقيقة ناقلة جماليات الإبداع الإلهي في النفس وفي الوجود. هذه النفس التي جاءت بالسؤال، وهي تحمله أبدا كريق الحياة أو نَفَس الروح، وتعيش عليه، وهو أبجدية لها لأنه يقوم على البعد التالي، البعد الذي لا يستكين في مدار، وغالباً ما يلجأ الأدباء كما كاتبنا في " شِقشِقة قلم" للتورية، الآتية من تهذيب العقل أو امتحانة. يقول تحت عنوان " زقزقة الشعر..."... "استفقت هذا اليوم على زقزقة تتردد بين أذني وأغصان الصنوبر كأنني لم اسمعها من قبل.. ألبلبل هي؟ أم لحسون أضاع رفيقته، فالتجأ إلى وريف نافذتي ، يناغي الزغب المتناثر وريشة علقت بحبائل ستائرها، لعله يجد الذكرى.. أم لكنار تفلّت من قفص جارتنا، فمرّغ جناحيه بوريقات التّبغ، وانتشى هزيج سكرة صباحية وراح يغني.. أم صدىً لبقايا حلمٍ ما زال يقطنُّ في ذاكرتي.. ويذكرني بنديم الليل..؟ أصغيتُ ملياً.. ورحتُ أردّد ما أسمع..".

لغة البلاغة التي اعتمدها المؤلف في كتابه، جعلها سلسة ناعمة شفافة غير مبهمة، من خلال تشكيل الحروف، وبذات الوقت راقية في سردها رُقيّ لغة الضاد في نحوها وصرفها، حكيمة في استعمال مفرداتها، تجعلك تستحضر الجمال أمام عينيك، فتنسى أيهما أقرب لخاطرك جمال اللغة المعتمدة، أم براعة سبك الجملة بين النثر والسرد.

وإذا كان لا بد من الولوج إلى الخطاب العرفاني في الخطاب مع الحبيب ومناجاته، فإنه يسرقك لتعيش معه هذه اللحظة، وتستعيد لحظة حبك الأولى وكيف تخاطب الحبيب وبأي لغة تسرقه من ذاته ليتكوّر في ذاتك لتذوبا معاً في لحظة هي الأبد.
وبذات الوقت نفهم في خاتمة الكتاب أن للعصفور مع الكاتب حكاية الشراكة مع الحياة، حيث التقى شريكة العمر في حكاية مع العصفور.

على مدى 160 صفحة حواها الكتاب الصادر عن "ديوان الكتاب للثقافة والنشر" في بيروت، سوف تجد نفسك مضطراً أن تبحث عن صفحة أخرى لتتابع، فتقلب الغلاف لتعود تبحث عن صفحة جديدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى