الاثنين ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم محمد أحمد العدوي

صانع السحاب

كنت إذا جاء الشتاء أفرح بالهواء المتكاثف حين يخرج من فمي أبيض سرعان ما يتلاشى، وفي يقيني أنه صاعد إلى السماء يتجمع وينعقد مع ما يخرج من أنفاس الناس؛ ليَكون هو السحاب الكبير الذي في السماء. فأجتهد لتكون سحابتي أكبر وأظل أُخرج الهواء من صدري بكل ما أطيق وأنا أتخيله صاعدا في السماء يبحث عن سحابتي ليذوب فيها.

وكنت أراقب السحاب في السماء وأسميه بأسماء من أعرف، فالصغيرة المقطعة هي ما كان من زفير «عم علي» صديق أبي لأنه لا يكف عن السعال من سجائره الكثيرة، ونفسه دائما قصير مقطع. والبيضاء الواسعة التي لا تحجب زرقة السماء هي سحابة صديقي «حامد» هادئة بهدوئه، خفيفة بخفته. أما البيضاء الشاهقة فهي سحابة «سماح» ابنة أستاذ الرياضيات التي رأيتها معه في حفل المدرسة.

سحابة أبي كبيرة كثيفة تظلل السماء حين تظهر كأن لها أذرعا من الظل تمتد إلى بعيد. أما سحابتي فلم تكن تستقر على شكل واحد، فهي في الصباح على هيئة وفي الظهر على غيرها. أعرفها لا بالشكل وإنما بالحنين الذي يجذبني إليها حين تظهر، وتكون أجمل ما تكون إذا ظهرت عند إنكسار الشمس بعد العصر. ملونة الأطراف بلون الذهب، محتضنة بياضها في قلبها، ناشرة ظلها قُبلة على خد الأرض.

سحابة البحر كبيرة ثقيلة. يشاركنا صناعة السحاب حين يتنفس. صدره الواسع القوي يرفع الهواء الأبيض كثيفا إلى السماء. فرحت حين علمت ذلك لكنني خشيت أن تغرق سحبي الصغيرة الضعيفة بين سحبه الكبيرة القوية. أخبرتني السماء أنها لا تُغرق الأشياء التي ترفعها فيها إنما تمزجها ثم تنقيها حتى تصفو .. لتعيدها إلينا من جديد بكرا عذبة.

أفرد ذراعي بطولهما لأجمع ما تلقيه السماء من أنفاسنا وأنفاس البحر. أرد رأسي للوراء لتزيد المساحة التي تتلقى رسائل السماء مني. هكذا يتعارف البشر وهكذا يحبون. من تغسلنا السماء بأنفاسه نحبه. لذلك نحب البحر جميعا ولا يكرهه منا أحد. نحس أنه أقرب إلينا لأن أنفاسه تغسلنا كل مطر. وتسكننا حين نملؤ بها صدورنا مع رائحة الندى كل صباح.

السحاب أنفاسنا معلقة في السماء، يرسلها الهواء كيف يشاء. يحملها رسائل إلى الأرض الميتة فتهتز فرحة وتربو حين يدب النفس فيها حيا من جديد.

ويرسلها إلى القلوب المتلهفة، يغسل عنها شيخ انتظارها فتعود صبية خفيفة كأنها ما انتظرت، بكرا كأنها ما جرحت.

ويرسلها إلى الأطفال يتمرغون فيه، ينامون على الأرض التي بللها، لا يمرضون. يرشون الماء حيث وصلت أياديهم ويعودون مبللين ينشرونه حبا حين لا يمكنه هو أن يصل، على الدرج وفي أركان الغرف، وفي خزانة الملابس.

* * * * *

وجاء الشتاء ولم أستدل على سحابتك بين سحبه القليلة. أملأ صدري بالهواء المندى حين ألمح رائحة المطر وأرجو لو يتسع صدري لئلا تفوتني منه ذرة تكون قد خرجت منك، فلا أجد أثرك فيه وأحسه باردا يؤلمني.

ترحل السحب بعيدا دون أن تمطر، فنصبح والسماء صافية أكثر الأيام. والشمس تسارع لتجمع الندى المبعثر في الهواء فلا يبقى لي شيء أبحث فيه.

أكفَّ الناس عن إرسال السحب إلى السماء فغضبت؟ وإن فعلوا فهل سار البحر سيرهم ولم يعد يتنفس. وأين تصل رسائل السماء ولم تعد تفرغها حولي.

سأرحل خلف هذه السحب ما رحلت، أبحث عنك في المطر وفي الندى. وسأملأ الهواء بسحبي الصغيرة أرسلها في السماء. تحملها إليك.

السماء لا تخذل من يحبها، تحمل رسالئه حيث يريد.

ستمطر سحابتي حولك.

وستعرفينها من رائحة الياسمين الذي ينبت منها.

ياسمين سحابتي لن يشبه ياسمين سحاب البحر.

ياسمين سحابتي يحمل لك الدفء حين تمسه يدك، و يملأ نفسك بهجة حين يرحل سعيدا في أنحائك.

املئي منه صدرك ما استطعت ..

أغلقي عينيك لتصحو عين روحك فتعرفني فيه ..

في ياسمين سحابتي

بعض روحي.

ستحملك إليّ حيث أكون ..

وتكونين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى