الثلاثاء ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم سامية إدريس

صلوات برجوازية

قلت بصوت عال: "يا جدي سأذهب لاقتلاع الفطر من عزلة السدرة"

وهذه المرة أيضا لم يسمعني جدي، لم يلتفت ويغمض عينيه من الشمس ويحرك رأسه علامة الموافقة كما كان يفعل دوما. راح يعبث بعصاه في التراب الرخو المشبع بالدفء والمطر، يفتت التربة الندية الفائرة بين أصابعه كما لو كانت قطعة خبز هشة.

 أعدت القول بقلق ورفعت صوتي غاضبا: " أنا ذاهب يا جدي، سمير وصل قبلي".

صارت ا بتسامة جدي كالمستحيل. وقفت مسمرا في مكاني ثم عدت إليه، نظرت في وجهه الواجم وعينيه الضائعتين في أفق فولاذي عصي، ضربت على كتفه الأيسر ضربا خفيفا: " أنا ذاهب ".
 
ــ " بعد اليوم سينبت الفطر في كل مكان " قذفني بعبارته من بعيد وهو يشيعني بعينيه الغائمتين بضباب كثيف ــ

جريت لألحق سمير مخترقا حقول القمح التي امتدت أمامي تكاد تغطي قامتي، واجهني البستان أي " الجنان " ــ هكذا نسميه ــ لأنه ملك للجميع ــ كان سمير مازال واقفا هناك كالنقطة الضئيلة لحقته لاهثا على عجل. وحين صعدنا الربوة مخترقين أشجار اللوز اصطدمت عيوننا بمنظر فاجع كما لوكان جرحا نيئا، تجمعت آلات حفر صفراء وشاحنات كأنها الجراد الأصفرإلى جانبها جبل ضخم من الحصى المكسر والرمل والإسمنت والحديد، بدأت أشجار التفاح تتهاوى والإجاص يئن والعنب ينزف والزيتون.

 ــ من صاحب هذه المجزرة؟ صرخ سمير بصوته الرقيق.

 ــ الجنان ؟! ناديت.

فقط وقف الصبار في أحراشه العالية يرقب المنظر في أسى تنتصب سيقانه الضخمة وتتأهب كأنما تعلوه قشعريرة الحمى. ولنفس ذلك السبب المفجع اتخذته الفراشات والنحل منزلا جديدا ولعل ذلك قد خفف وطأة الألم و مدد النهاية إلى بضعة أيام أخرى.

 ــ" القرية الواطئة ستصير لها قرون". صاح جدي من خلف التلة ولوح بعصاه.
كان أهل القرية يتبعونه في موكب حزين وقد انكسرت نظراتهم بشكل يوازي تماما المجزرة التي ارتكبت في الجنان. لم يسمع أحد نداءه. فقط راح هدير الآلات يزعق ويرعد ويعلو مخترقا غلالة السحاب الربيعي المتناثر.

 تقدم جدي بخطى متسارعة وتسمر أمام آلة الحفر وتبعه الموكب.لم أقدر على رؤية المشهد كاملا فأطلقت ساقي للريح، دفعت باب المطبخ وبعثرت عباراتي في وجه أمي:
 ــ إنهم يقتلعون الجنان...
 ــ وهل فعلوا... الله يقتلعهم...وجدك...؟
 ــ يقف أمام الآلة الكبيرة.
 
 اندفعت إلى الخارج كأن عاصفة هزت أثوابها باكية صائحة: " أبناء الكلب فعلوها‘ اليوم يقبضون روحه، أصحاب الكروش المنتفخة، البقارين "

 بالكاد بلغت التلة وأنا خلفها ككلب أمين،كنا نلهث من الإعياء و الخوف، رأيت وجه أمي كحبة الليمون، وجدي يجثم أمام الآلة الصماء كالصخرة، انحدرت دمعة حزينة اجتهدت أمي في طردها،غافلتها وانحدرت على مهل، كان الجنان هو بيت أمي، هو جنة أمي، هنا لقيت أبي وهنا انتظرت عودته التي لم تحدث ولن تحدث أبدا. كلما اجتاحها الحزن، تعلقت بأشجاره الهرمة وناحت كحمامة مفجوعة تتحسس الأغصان اليابسة وتنظر نحو الأفق الغامض وحين يحل المساء وتجف الدموع تعود إلى البيت لتواصل طقوسها اليومية. "
 
 كان الجنان هرما غليظا، الغريب أن فيه من كل لون شجرة.

قالت أمي نقلا عن جدي:

 حين أذنت تلك الحرب اللعينة، استدعت فرنسا جميع الشبان القادرين من الأهالي، كانت قريتنا أيضا تملك عددا من الشبان الأقوياء ‘ تأوهوا للخبر، لكن ما باليد حيلة، قال جدي: هل سنرجع؟ رد أصحابه: من يدري؟.

ــ إذن تعالوا وليغرس كل منا شجرته المحبوبة.

وحينها غرس كل شاب شجرته المحبوبة، اللوز والمشمش والليمون والبرتقال والتين والعنب والتفاح والخوخ والزيتون والتوت...

 وسمى أهل القرية كل شجرة باسم صاحبها فالتفاحة باسم محمد والرمان باسم السعيد والليمون باسم علي...

يقول جدي وكان عودي التوت.
ــ " إذا اخضر عودي فأنا حي "يقول الشاب وهو يعانق أمه وأباه وإخوته وكل أهل القرية.

تجمعوا داخل شاحنة صماء ولوحوا بأديهم المشققة التفتوا إلى الخلف في أسى وتأملوا الأعواد الفتية التي غرسوها في قلب الأرض: "إذا اخضر عودي فأنا حي وسأعود".

 انتهت الحرب الثانية ولم يعد أحد من الشبان. وحده جدي عاد. ومن يومها وهو يعتني بالجنان أكثر مما يعتني بأولاده، ومع ذلك فالجنان ملك للجميع هو ميزة قريتنا " الحلوّة " هذا هو اسمها 

 كان اليوم جمعة ومنذ ولدت لم أر جدي يفوت صلاة هذا اليوم، حتى أنه يلقي نظرة خاطفة على الجنان ثم يعود ليغتسل ويتطيب ويلبس برنوسه ويذهب إلى المسجد كأنه النسر بقامته الطويلة وأنفه المستقيم ولحيته البيضاء .

 حين حملوه إلى البيت لم يقو جدي على الخروج...

فجأة ظهرت الفطريات البيضاء في قريتنا عمارات شاهقة من عدة طوابق تنبت وسط الحقول
و تخرج من باطن الأرض. كلام كثير دار في تلك الأيام عن الفلاحين الذين سينتقلون من بيوتهم الواطئة المفتوحة على المدى الأخضر والأحراش نحو العمارات، عن الدجاج والأبقار والأغنام التي ستغادر في اتجاهات جديدة. ويبدو أن الطوابق الأرضية هي أكثر ما يجلب الاهتمام، بدليل توافد العديد من الوجوه الغريبة عن القرية رغبة في تطويرها ــ هكذا قالوا ــ أنا لا أدري ولكن الناس عندنا يتحدثون، يقولون إن القرية ستتحول إلى مدينة وأن الدكاكين ستباع في المزاد بعض المتفائلين قالوا بفرح إنها ستكون هناك دكاكين توزع على الشبان البطالين، وفعلا فتح مقهى وصالون حلاقة وحمام عمومي وصالة ألعاب وفضاء أنترنت وارتفع جبل من القمامة والأكياس. وهكذا تحولت قريتنا إلى مدينة.

ذات صباح زرت جدي قلت له ألا تذهب اليوم إلى الجامع؟ فاليوم سيصلي الوزير بقريتنا.
ــ لن ينزل المطر بعد اليوم ــ رد جدي باقتضاب ــ

ــ صلاة القياد الجمعة والعياد ــ تمتم ــ
 
 لا أدري كيف قرر جدي الخروج من بيته؟ وقف ذلك الصباح يتأمل الأجسام الغريبة تصعد إلى السماء خارجة من رحم أرضنا تحجب نور االشمس، مسح لحيته البيضاء بأصابع راعشة، مد بصره نحو الأفق للحظات ثم تمتم بصوت خفيض وحرك رأسه:"هنا كان الجنان. مكان الأسوار الصماء، ألا تدري"؟ قال جدي لأخي الصغير الواقف أمامه‘ واتجه إلى الحقول المترامية ترنو نحو المدى المفتوح وهناك سجد لله ولم يقم أبدا...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى