الثلاثاء ٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم فتحي العابد

صورة الشباب التونسي المثقف بعد الثورة

في مقال سابق، قلت بأن المثقف هو فقط ذاك الأكاديمي أو المحامي وما شابه هاته الطبقة العلمية.. لكن اليوم أرى أن المثقف ليس فقط هو ذاك الذي يملك مخزونا ثقافيا فقط..؟! بل هو كما جاء في قاموس المحيط، أن المثقف هو الحاذق الخفيف الفطن، السوي.. فالثقافة والتثقيف ليسا مقصوران على من لديه مخزون ثقافي، ولا يشمل فقط الكاتب أو الشاعر أو الباحث أو الصحفي أو الأكاديمي أو الفنان، ولا من لديه شهادة عالية يتخذها عكازا لتثبيت شخصه..! بل اليوم أصبح يفيض هذا المفهوم فئات أخرى لا يقل تأثيرها في المجتمع عن أولئك المثقفين.. فبصماتهم الإنسانية لا تقل أهمية عن النخب المتعلمة في حبها الوطني الممتد، مثل: الفلاح والعامل، والخباز والحداد، إلى ما لا نهاية، وهؤلاء لديهم ما يسمى بثقافة "الواقع" أو ما يوازي ثقافة "المجتمع"..

في هذا المقال لن نطرح إشكالية "ما دور" المثقف في المجتمع ..؟! لأن المثقف الذي عجز عن تحديد موقعه عن مرحلة "الدور" وتاه عنها، فإن تأثيره أيضا سّيان، بل وجب السؤال بــ"ما تأثير" المثقف في المجتمع ..؟! لأن العلاقة ما بين المثقف والمجتمع في تونس كانت علاقة مترددة كعلاقة الإبرة بالنفاخة، تنقصها المرونة في التعاطي. والمثقف يجب أن يكون على مسافة قريبة من أحلام المجتمع وطموحاته وحقوقه، ثقافة تنوّره، تمنح ظلمته الكابية ضوء أمل، ليرمم آمال مشواره في الحياة، رغم أن مجتمعنا كان على ثقة بأن ثمة أصوات واعية تلملم جراحاته وتستعيد حقوقه بصوت الوطن والوطنية..

فلا ثقافة حقيقية إن لم تجس الجانب الإنساني في المجتمع قبل أي غاية أخرى، فالشباب التونسي المثقف اليوم له حاسة بشرية على مستوى عال، بل لاأبالغ إن قلت أرقى من الشعورية.. والدليل على ذلك تلك الشعارات التي رفعت في المظاهرات، والتي قيلت في كل الدول التي ثارت من بعدنا، أحبها إلي وإلى ابني الصغير الذي اتخذها شعارا له عندما نفرض عليه أمرا ما "الشعب يريد إسقاط النظام".. والتي قيلت أمام "وول ستريت" أخيرا، وإلى غير ذلك من تلك الشعارات التي ساندت كلماتها الأفئدة المحطمة أثناء الثورة وبعد سقوط الطاغية بن علي، وإلى اليوم، فرممت أزمة المعدمين.. ومنحتنا أملا.. وأخضعت كلماتهم بقوة سلطة مستبدة..!

الثورة في تونس بينت لنا اليوم أن المثقف لم يعد ذاك الذي يقتعد خلف مكتبه وبين أوراقه وكتبه.. بل وجد نفسه في بداية الثورة في قلب الحدث الثوري، وجزءا من الحالة الثورية فكانوا فاعلين، اقترن عندهم التنظير والدعوات، بتفاوت في هذه الدرجة أو تلك، بالنشاط والممارسة.. كما توضح بأن المثقفين الذين شاركوا في إحداث الحركية والتغيير في تونس، هم المثقفون الشباب، من الجيل الذي تربى في أحضان ذلك النظام البائس، وتعامل مع وسائط تكنولوجية جديدة، والذين لهم مفهوم جديد للعمل السياسي. أعتقد أن العلم خدم الثورة لأول مرة في العالم العربي وأصبح بإمكان التكنولوجيا أن تقوم بتمرير خطاب سياسي تغييري صحيح.
المثقف اليوم في تونس أصبح له حصة من الوطن كما الجميع، وما يجب على الآخرين يجب عليه، وما يمس وطنه يمسه..!

المثقف اليوم في تونس ماعاد مع السلطة كما الطائرات الورقية ..! إن الثلاثة عقود الماضية جعلت المثقف المخلص لثقافته ومبادئه في تونس في قلب العاصفة، وأمام زفير مقام السلطان، وبرغم ذلك لم تمزقه عاصفته الهوجاء.. بل أصبح كعظم في الحنجرة لا يبتلع، رغم تثخن جراحاته لعقود، وهو مشربك على غصينات التعذيب أو التخبط ما بين الصخور..

على المثقف اليوم في تونس إذا ما أراد أن يغدو فاعلا، فعليه أن يكون واحدا من الآخرين وضمنهم، فوعيه الفكري ومخزونه الثقافي، يؤهله كمتحدي، وكمدافع قوي في نفس الوقت..!
وأنا يمكن لي أن أقول في هذا الباب بحكم تجربتي وخدمتي مع بعض الشباب التونسي في إيطاليا مدة الإنتخابات، تحت الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات، بأنهم فردا من الآخرين حقيقة ويتمتعون بصبر كبير، احترام وطاعة لمن يكبرهم سنا، مثابرة لاتمل وإحساس رهيف، إنسانية شفوقة عادلة وحب جارف في خدمة تونس، إلتزام وتفاني في المصلحة العامة. عملوا معي خاصة يوم الفرز لحوالي اثنان وعشرون ساعة دون توقف، وعندما طلبت منهم التراوح بينهم أجابوني بنظراتهم الصامتة والقائلة في نفس الوقت:

أنسيت ميلاد الشعوب يقر بالإصرار
هذي بلادي نادت ولن نرضى راحة دون حماها.

رددت على مسامعهم وقشعريرة الغبطة والراحة تغمرني، بعد أن حمدت الله وأثنيت عليه:

بلادي إلى المجد هيا إصعدي
وعيشي بنا حرة واسعدي
وهذا فؤادي وهذي يدي
مشاعل تجلو طريق الغدى
وإذا دعت تونس أبنائها
أجيب بلادي إني لها.

نعم، طلبت منّا التضحية فأعطيناها الزنود.. بغض النظر عن العلم الحزبي الذي ننضوي تحته.
السلطة في تونس سابقا عكفت بحرص دؤوب على تمييع هاته الفئة، وتضييق نطاق حريتها، فكم من رقيب عسسي بحوزته مقص يقطع أعناق الحروف، وأرجل العبارات، وأيدي الكلمات، لتمنعها عن المضي في دربها، كي تستأصل دورها الحيوي وتكممه عن الآخرين، فكم من كتب أبناء تونس منعت عن الحصول على جنسية الوطن..

اليوم في تونس أصبح المجتمع يطلب قيما خاصة وجديدة، تتمحور بالخصوص حول قيم المواطنة. والثورة في بلدنا تطالب بالمواطنة قبل الديمقراطية. أي أصبح التونسي واعيا بأنه لا يمكن بناء الديمقراطية دون المواطنة والكرامة. وفي هذا يقول الدكتور أمين الزاوي: ’’لا يمكن تصور وطن دون مواطنة. كنا نعتقد أن تونس كانت تعرف حالة من الحداثة والتنمية، وإذا بنا نكتشف العكس تماما، فهذه الأنظمة التي ادعت الحداثة وهي تحارب المتطرفين، واستطاعت أن تكسب ود حكومات الغرب، هي في المحصلة أنظمة تقليدية وسلفية في عباءة معاصرة ـ مضيفا ـ قدم الشارع العربي فصاحة سياسية جديدة، وقال يكفينا شعارات اللعب على مفهوم الديمقراطية، نحن نريد ونطالب بتحقيق المواطنة."

أعتقد أن الشباب التونسي، ومن وراءه الشباب العربي بإمكانه أن يؤثر ويحدث التغيير حتى في منظومة التفكير الكونية، من منطلق أن العالم العربي برمته عبارة عن خزان كبير للشباب القادر على تقديم دروس في الثورة. في وقت نجد الغرب العجوز قد أدرك أنه لم يعد قادرا على الثورة.
والكتاب المثقفين لهم تأثير أكبر على المجتمع، وعلى من حواليهم ومريديهم بطريقة صامتة، قال الزاوي: ’’الكتب تأثيرها بطيء. والكتاب يسهرون على استمرار الثورات أكثر من تحريكها." ولعل اختفاء كتاب وشخصيات ثقافية عن الساحة التونسية والتي ظلت مقموعة في تونس من قبل نظام المخلوع لسنين طويلة، ساهمت في تهيئة الأرضية للثورة. "أعتقد أن الكتاب هم حصانة الثورة لأنهم يؤثرون ببطء في جيل يشتغل بسرعة’’. يقول الزاوي.

قال الدكتور عمر بوساحة وهو يحكي عن ثورة تونس ومصر: ’’هي ثورات خالية من الرموز الوطنية التقليدية، واعتمدت بدلها على قيم المواطنة، وهذه القيمة هي التي جعلت الشباب العربي يقول إنه يريد الإهتمام بحياته وبمصيره بنفسه. لقد برزت هذه الثورات في وقت جديد، حيث أصبح بإمكان التكنولوجيا أن تنقل لك مجتمعا علمانيا وحداثيا رغما عنك، يجمع الناس خارج الأديان والأيديولوجيات’’.

لقد تحطمت الحواجز القديمة، وأصبح الشباب التونسي يعيش عصره. المثقف التونسي القديم تجاوزه الزمن، بل همشته الثورة مثلما همشت الأحزاب السياسية. حتى الأطروحات القديمة لم يعد لها معنى، أصبحنا اليوم نتكلم عن تصدير التجربة التونسية، لأن الشباب دخل عصره ودخل التاريخ. وأن الجيل الذي تربى في كنف الدكتاتورية هو الذي غير الأوضاع في تونس، وتمكن من إسقاط المراكز والمرجعيات التقليدية، وهذه الثقافة الجديدة هي ثقافة اتصالية أفقية، تتغلغل على مستوى الشارع، وليس على مستوى عمودي نخبوي، مثلما كان عليه الحال في السابق.

ولعل هذه النقلة النوعية حصلت بفضل التكنولوجيا والوسائط الجديدة. أصبحنا نروج لقيم المواطنة المبدعة التي تكسر المواطنة المسيجة، وتدخل الفرد التونسي عصر المواطنة من بابه الواسع، وأصبحنا كائنا صانعا للتاريخ، وليس كائنا يعيش على هامش التاريخ. ومع هذا كله لا يجب أن ننسى قسما آخر من المثقفين استمر في المقاومة الفكرية والسياسية، وشكلت أفكاره خميرة الثورة الشبابية التي تفجرت اليوم. ولم تثنهم الأوضاع السيئة عن الإيمان بأهلية شعبنا وقدرته على الرد عندما تنضج الشروط.

وعلى هذا الأساس لا ينبغي خلق قطيعة نفسية جديدة بين الأجيال الشابة وغير الشابة في مجتمعنا المتحول اليوم، والذي يحتاج للشباب وللأقل شبابا أيضا. كما ينبغي مساعدة المثقفين المخلصين الذين كانوا في العهد السابق، على الإلتحاق بالمبادرة والمشاركة الفعالة، ما لم يكن أحدهم قد ارتكب جرما واضحا بحق الجماعة الوطنية.

لا يمكن لنا أن نتقدم إلا إذا سرنا معا صفا واحدا بصرف النظر عن الأعمار والإديولوجيات.
ما نعيشه اليوم هو تصحيح عنيف للانحراف الذي دفع تونس خارج المسار الطبيعي. نحن ذاهبون نحو تكسير هذه الحواجز. وإذا نجحنا في ذلك فسيكون كل شيء متاحا بعده.. أنتم اليوم ياشباب تونس وحدكم من يصنع التاريخ، وما لم تنضج روح الثورة فيكم، ويتحقق التواصل بين أعضائكم، وتشتعل فيكم الخميرة الأخلاقية، لا يستطيع المثقف ولا الحزب السياسي أن يفعل شيئا. ونحن الذين وقفنا في تنور المجابهة طيلة ثلاث عقود، لن نكون يوما مخرزا يوجع الظهر، أو معولا يهدم المجتمع، ويوقظ أساساته على أصول خلافية، فردية أو جماعية.. إن لم نكن سواعد البيت وأعمدته لن نقبل بأن نكون أقل.. هذا الوطن العظيم بيتنا، ونقرن الليل بالنهار ليكون في أحلى صوره وأبهاها.. يقع على عاتقنا أن نكون الداعمين والفاعلين الرئيسيين والمساهمين الحقيقين في نهضته وتسلحه بالفضيلة والصلاح..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى