الثلاثاء ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم لؤي الشامي

صياد ولا يصيد

لما توسمت فيه الدراية في هذا المجال القيت عليه السؤال العجيب الذى طالما يروادنى مثله بين الحين والآخر وهو علاقة الإسم بالمسمى فكان سؤالي للمهندس الكبير لماذا يسمى الفيشر فيشر وهو الخابور البلاستيكي الشهير الذي ظهر في الأسواق في أوائل ثمانينيات القرن العشرين وكانت اشهر ماركاته بل الوحيدة حتى وقت قريب ماركة فيشر فلم يتردد في الإجابة وكأنه قد كتب فيها بحثاً ضافياً منذ يوم واحد أو أقل من ذلك، فقال معبراً بكلتا يديه محاكيا خطافين معقوفين للخارج سمى فيشر وفيشر كلمة إنجليزية تعنى بالعربية صياد لأنه يصيد في الحائط وأخذ يحرك كفيه وأصابعهما بطريقة موحية بعملية تمسك زوائد هذا الخابور في الثقب المحفور في الحائط عندما يلف فيه المسمار المراد تثبيته. كانت إجابته من النوع الذى يمنع تكرار السؤال ولكنها لا تشفى غلتي فلم يرسخ في رأسي سوى ذلك التمثيل الواضح لعملية تمسك الخابور بالثقب وسجلت إعجاباً لم يتضائل حتى هذه اللحظة بالثقة الكبيرة التى تحلى بها أثناء شرحه الوافي وراحة ضميره الفني التى وشت بها تعبيرات وجهه بعد انتهاءه من مهمته التعليمية في ظنه لطالب في سنته الأخيرة بكلية الهندسة.

مرت على هذا الموقف عشر سنوات كاملة إلى أن نفذت أرادة السميع العليم أن أقابل السيد فيشر شخصياً وجهاً لوجه فإذا به لا هو صياد ولا هو يصيد وهو فوق ذلك ليس انجليزياً أصلاً ، بل هو السيد فيشر المهندس الميكانيكي الألماني خريج جامعة شتوتجارت صاحب الشركة والعلامة التجارية التى تحمل اسمه(وهذا ديدن الألمان) وصاحب ما يربو على المائة اختراع موثق في مجالات العدد والتركيبات التى كان أشهرها وأظن كذلك أهمها وربما أولها ذلك الخابور البلاستيكي الذى طبقت شهرته الآفاق ووصل لنا في عالمنا الثالث منذ سنوات وكانت لي معه تلك الحادثة التى سطرتها آنفاً.

يقدم السيد فيشر كل عام مكافأة مالية كبيرة ومنحة دراسية وتدريبية لأوائل الطلبة في أقسام كلية الميكانيكا بجامعة شتوتجارت وكان لي في ذلك العام فرصة العمل كمساعد للمعيد المكلف بإعداد تلك القوائم وهذه الشهادات التى تقدم للطلاب المتفوقين ووقفت على خشبة المسرح أناول الشهادات للمعيد مرتبة ليقرأ اسم الطالب فينزل أحدهم من مكانه بالمدرج ليتلقى الشهادة والمكافأة من السيد فيشر الذى كان يقف معنا على مسرح المدرج بشخصه الكريم على العلم والمتعلمين وبجسمه الذى يقل عن متوسط الرجال طولاً ويزيد عليه عرضاً ووزناً بصورة ملحوظة، وتذكرت في تللك اللحظات صديقنا ولم أرج أن أطلعه على الأمر حتى لا أحرجه لأنى ما زلت أحبه وأحببت فيه حبه للتفسيرات العلمية للأمور ولا ضير أن جانبه الصواب في تلك المرة وحسبه الإجتهاد وهو الذى كتب لي مرة أن لا تبخل بالعلم على أحد فزكاة العلم تعليمه .... أو كما كتب بارك الله فيه وفي صيده وصياده الذى لا يصيد وإن كان يصيد.

أما أنا وقد شفى غليلي من ذلك السؤال إلى الأبد فقد حباني الله بإجابات لأسئلة عدة ظلت لسنوات تجول بخاطري وتلح على فكري وتدور في رأسي ولم أجد لها إجابة إلا هناك في بلاد الألمان ولكنها لم ترتبط معى بحوادث كتلك التى انبرى لها صاحبنا.

لطالما(على سبيل المثال) كنت أسأل نفسي كيف تدبس المجلات بهذه الدبابيس في منتصفها ونحن لا نعرف من الدباسات إلا تلك التى كانت تنتصب شامخة أنيقة على مكتب أبي رحمه الله رمزاً لمنتهى العلم والعمل في الأدوات الكتابية وكنا نسترق لمسها والعبث بها ونتحين أيه فرصة تعن لطفولتنا لضم أية ورقيات كيفما اتفق لمجرد أن نستعملها استعمالا يليق بجلالها بل بجلال مكانها من مكتب أبي ومكانتها من نفوسنا الطفولية، لم نكن نرى من تلك الدباسة إلا ذلك العمق البسيط الذى لا يكفي عرض ورق المجلة فظل السؤال مجلجلاً في جنبات رأسي الصغير على مر السنين. وعندما تعرفنا على جيل أٌقدم بكثير من جيل تلك الدباسة في شكل دباسة أثرية عتيقة رأيناها وفحصتها ايدينا الطفلة واستعملناها في منزل عم أبي وكانت من نوع لا يستعمل الدبابيس المباعة في الأسواق بل بسلك طويل ملفوف تشكله وتلفه وتقطعه ثم تدبس به عرفنا فيها سرأ من أسرار الصناعة بل صفحة من صفحات تاريخها، لكنها لم تجب عن سؤالي اللحوح.

جائتنى الإجابة هذه المرة بعد خمسة وعشرين عاما وأنا أعمل في مطبعة على بعد مترين من تلكم الدباسة العملاقة التى تدبس المجلات ورأيت ذكاء مخترعها وشهدت كيف تلتهم السلك التهاما وتقطعه تقطيعا وترشقه في المجلة تلو المجلة في عملية دقيقة لا تخلو من إبداع وجمال رغم رتابتها وصوتها الصاخب، دؤوبة لا نهاية لعملها إلا بنهاية وردية العمل الليلي في تلك المطبعة جنوبي شتوتجارت قلعة الصناعة العريقة.

عندما أذكر أمر الفيشر والدباسة وغيرهما كثير مما يشابههما في الحال ويقاربهما أو يبعد عنهما في المجال ويشترك معهما في إلحاح السؤال لزمان طال أو قصر ووصول الجواب بصورة أو بأخرى في بلاد الألمان أو غيرها من البلدان التى رأيت وخبرت لا أملك إلا أن أردد قول الله تعالى، وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى