الجمعة ٢٢ أيار (مايو) ٢٠١٥
بقلم سناء أبو شرار

عالم الرواية

في عالمٍ يعجُ بالضجيج والأصوات، تأتي الرواية بصمتٍ طاغٍ لتفرض نفسها على عالم الروائي الهادىء أو الصاخب، الرواية عوالم وليست عالما واحدا، إنها الآخر والمكان والروح والفكر ونبض الحياة والذات التي تراقب وترصد وتتبع الفرح والألم، الصخب والسكون، الانسحاب والتصدي.


لذلك يبدو أن الروائي الحقيقي لا ينتمي بشكل كلي للعالم الحقيقي، لأنه يحيا في عوالم متنوعة، عالم يرصده في ذاته يتماوج مع وقع الشعور والفكر وتناقض النفس برفضها وقبولها وإقبالها وإعراضها، وعالم يرصده في الحياة من حوله بتغيرها وتقلبها، بثباتها وإنكسارها، يحيا بين الآخرين وبمقدار ما يشعر من العمق بداخله يرى العالم من حوله بمقدار هذا العمق أيضاً، لذا لا يحق ولا يجوز للروائي أن يكون سطحي الفكر والمنطق وإلا تهاوت روايته على عتبة الزمن وزالت من ذاكرة من يقرأ له، لا يحق ولا يجوز للروائي أن يرصد ذاته فقط من خلال روايته بل يجب أن ينطلق للذات الإنسانية بشمولها ورحابتها وألا ينغلق في حدود نفسه الضيقة والضحلة أحياناً، إنه الراصد للإنسانية، المتتبع لفكرها ولرفضها أو قبولها، إنه الشاهد الشعوري للوجود ولا تخضع شهادته للمنطق ولا لتسلسل الأحداث، إنه حر وطليق في تدوينه لما حوله لأنه لا يدون الوقائع بل يدون الشعور، والشعور لا يعترف بالزمان ولا بالمكان ؛ وبقدار اتساع رؤيته الإنسانية بمقدار اقترابه من كل جنسيات العالم ليصل إلى أعلى قمة من قمم الرقي الإنساني ألا وهي أننا جميعاً بشر ولا فرق بيننا سوى بما أصطنعناه لأنفسنا من فروق خلقت المساحات الفكرية والنفسية والعقلية والثقافية بجعلنا فصائل بشرية لا بشرا.
يمتلك الروائي ما لا يمتلكه غيره، ألا وهو تشكيل الحياة كما يريد عبر روايته دون أن يكون شديد المثالية أو شديد التطرف، كلما كان قلمه موضوعيا وملامسا لحقيقة الحياة كانت روايته ناجحة، ولكنه في عالمه الدفين والداخلي يستمتع بامتياز تشكيل الحياة لأنه يختار شخصيات يحبها وينتقد شخصيات لا يحبها، يختار لشخصياته مسارات تتلاقى أو تتنافر حسب تسلسل الأحداث، وحين لا تمنحه الحياة ما يبحث عنه من جمال في الآخرين يُشكل ذلك الجمال في روايته لذا لا يبحث عنه كثيراً في الحياة الحقيقة لأنه وجده من خلال السطور والكلمات، وتمنحه الرواية هذا الجمال الإلهي للذات البشرية بعطائها وألفتها مع الوجود.
الرواية من أشد أشكال الفنون قرباً للإيمان لأن الروائي يمكنه أن يرى الوجود بأكمله من خلال هذا الإيمان الدافيء الذي يمنح كل الوجود المعنى والإرتقاء، وليس بالضرورة الإيمان بما يفرضه الدين على الإنسان من عبادات بل أيضاً ما يمنحه الإيمان للروح من إشراق ولأن العبادات هي أسهل ما يقوم به الإنسان دينياً ولكن الارتقاء بالذات الإنسانية وإلزامها بالصدق والاستقامة ومحبة الآخر مهما كانت الظروف هي من أصعب المُهمات الإنسانية، الروائي فقط يستطيع مزج هذه القيم التي تبدو صعبة في حياةٍ أصبحت تمتزج بالأنانية وانتقاد الآخر والبحث المحموم عن السعادة أو البعض منها، الرواية تُمكن الروائي من إبراز ما تُحدثه القيم الدينية من تأثير رقيق وعميق في الذات البشرية، على ألا تكون رسالة دينية مباشرة بل تتسلل عبر شخصياته بصدق وشفافية.
لا بد للرواية أن تكون متواصلة زمنياً مع العالم الذي تحيا به، ليس بمعنى المعاصرة بل بمعنى تتبع التغييرات التي تطرأ على المجتمع.

لم يعد دور الروائي يقتصر على إمساك القلم وتخيل الأحداث أو اقتباسها من العالم الواقعي، بل أصبح على الروائي مسؤولية رصد التغييرات في المجتمع والتغيرات التي تطرأ على من يعيش به، خصوصاً في العالم المعاصر الذي أصبح يتأثر بكل التيارات الثقافية والنفسية والفكرية في عالمٍ مفتوح على بعضه البعض لا تحده قيود زمانية أو مكانية، يمكن للروائي أن يكتفي بأن يكون ناقلا للقصة، ولكن إذا كان يريد أن يكون صاحب تأثير فتأثيره يبدأ بمدى اهتمامه بالعالم من حوله وليس فقط ما يجول بأعماقه، أن يكون الراصد والمحلل والناقد والمتعاطف والمثقف.
يكتب الروائي ليقدم روايته للآخرين، ولكن ما هو أجمل من تقديمها هو أن يقرأها بدايةً لذاته ويشعر بأنها عميقة متناغمة مع نبض الحياة، ثم يقرأها مرة أخرى ليشعر إن كانت متواصلة مع هموم وتطلعات من حوله، أن ينجح في مهمة التعبير عما لا يستطيع أن يقوله الآخرون، أن ينجح في تسليط الضوء على قضايا مدفونة في المجتمع ولكنها تنخر بأساساته وتخلخل بنيته الأخلاقية أو الفكرية، أن ينجح في جعل ما هو عادي وروتيني ويومي إلى أن يكون فكريا وشعوريا وانسانيا، أن ينجح بالإنسلاخ عن ذاته لكي يكتب عمن حوله وعما يدور حوله وعما يجول بأعماق الآخرين وفق رؤية فكرية ومنطقية ترقى بالمفاهيم العامة إلى مفاهيم راقية وشمولية.
عالم الرواية ليس سوى مرآه صغيرة عن العالم الحقيقي، ولأنها مرآة صغيرة الحجم فلا بد أن تكون شديدة الصفاء وإلا فشلت في مهمتها، وصفائها يعتمد على صدق الروائي بأنه يهتم فعلاً بالحياة وليس بحياته هو فقط، لأن رؤية الروائي للحياة ولذاته تنعكس من خلال الرواية، فإن كان يكتب متمحوراً حول ذاته فستبدو روايته شديدة الإنغلاق على ذاتها ويختنق بها القاريء، وإن كان يكتب بقلم منفتح على الحياة وعلى قضاياها فيصطحب معه القاريء إلى عالم أكثر رحابة وأكثر جمالاً، بل ويحرر القاريء من قيوده الذاتية عبر نقله لعالم روحي تنعدم به الحدود والقيود.

وأخيراً، من أجمل ما منحه الله تعالى للكاتب هو القدرة على الكتابة، القدرة على تشكيل عوالم متنوعة في روحه وعقله، الإنتقال مما هو محسوس إلى ما هو غير محسوس برحابته ؛ التحليق في عوالم خيالية ولكنها واقعية نحو أفق لا محدود، السير عبر الأحداث والشخصيات والأماكن دون عوائق وكأن الرواية روح أخرى للكاتب، تمنحه حياة أخرى ونبضا مختلفا للحياة، إن لم يكن الكاتب يعي هذه النعمة العظيمة ويقدرها فقد فاتته متعة الكتابة الحقيقية، فهو لم يكتب لأنه أراد الكتابة ولكنه كتب لأن الله تعالى منحهُ موهبة الكتابة وحين يُدرك هذه العطاء الجميل ويقدره ويحترمه فلا بد أن يكتب ما يليق بجمال هذا العطاء الإلهي بأن يحرص على القيم الأخلاقية والارتقاء بالذات البشرية خصوصاً في عالم معاصر يعتبر أن القيمة الأخلاقية اصبحت لا تناسب الرواية المعاصرة، ولكن الحقيقة هي أن ما هو ثابت بهذا الكون هو القيمة الأخلاقية وما يتغير به هو كيف نتعامل مع هذه القيم الأخلاقية، ولابد للرواية أن تحاول دائماً إيقاظ ما قد تم أهماله أو إسقاطه أو تجاهله من قيم لا تستقيم الحياة بدونها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى