الأحد ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٨
بقلم رشيد سكري

غِيثة المَكْشَادِيَّة

1- بعينين مائيتين ودافئتين، رَنَا الحاج إلى الخارج من النافذة، وقال:

ـ ما الهواء الذي تفضله أن يدخل هتين الرئتين المعطوبتين؟

أجابه الطبيب، بعدما أزاح عن عنقه المِجسَّ الأفْعويَّ، قائلا:

ـ الهواء النقي، الهواء الجديد و المتجدد... المليء بجزيئات الماء،لأن رئتكَ اليمنى قد شارفت على الاجتفاف.

الحاج...

من الآن، يجب أن تبدل اللّوك،بذلة للرياضة في الطبيعة و أخرى للقاعات، وإلا... سيداهمُك الخبيثُ في كل لحظة، وأنتَ في غفلة عنه.

امتقع وجه الحاج من الوجل، واقترب من الطبيب، متوسلا ألا يبلغ نتائج هذا الفحص للأسرة. نحنح ضاغطا على قفصه الصَّدري...

وقال: أقصد الحاجة غيثة.

مادمت طبيبا للعائلة، ومنذ أن امتهنتَ مهنة الطب، فهي لا تكف عن الثناء على مجهوداتك الجبّارة تُجاهنا، خصوصا بعدما داهمتنا الشيخوخة الظالمة على حين غِرّة. ففي مختلف المجالس، التي تضم أفراد العائلة طبعا، لا تتوقف عن الحديث الهادر عن مغامراتك ومعاركِك، التي كنت فيها تَسْتَنْمِرُ على صَبَاَيا الدَّار الكبيرة في حي الزيتون.

2-تبسَّم الطبيبُ في تُؤدةٍ، ورافق الحاج إلى باب العيادة.

غيثة النازحة من شِعاب قبائل تِمْكْشَاد جنوب المغرب، رافقت الحاج، وهي لازالت فتاة نيَّفَت على العشرين سنة، متوجِّسة و متوجِّلة من اليَبَاب الذي لحق الزرْع و الضَّرْع. في صبيحة يوم أغْبَر، تبدل لون السماء فصار أحمرَ أرجوانيّا، نشفت الضروع وجفت الآبار وهاجمت، جبالَ تِمْكْشاد، ريحُ الدَّبور الصفراءِ بصفيرها الزعيق يَشُق العَنَان، وتغير من ملامح البيوت و المساجد،فأتت على العديد من الصبايا و العجزة، يتساقطون كأوراق الشجر التوت اليابس.

في تلك الرحلة المُريعة، على ظهر بغل نافر، كانا يسابقان الزمن و العطش. إلى أن استوت رحلتهما، في الأصيل، على هلال خصيب ممتد بين أُشْنَةٍ و غِياضٍ و بئر رحيمة،غدقت عليهما بالماء الرطب الزُّلال. شَِربا و اغترفا منه حتى باعد عنهما شبحَ الظمأ المقيم كسَادِِنِ المعابد القديمة.

تسرْبلت الأيّامُ و تدحرجت في ركن قصي ومُعْتم من الذاكرة...

فما الدار الكبيرة في حي الزيتون، سوى غبراءُ مباركةٌ معلقةٌ كتميمةٍ في صحن النور الأبدي،ببنائها العتيق و طاقاتها المنيفة الواسعة والمنقوشة بالجبس البلدي العتيق. تطل على ساحة متربة،معقلِ سوق أسبوعي تضج فيه الأصوات وتصدح فيه الحناجر بأرزاق العلي القدير. لالة غيثة كانت السند الحقيقي لِلُحمة نساء الدار الكبيرة، بصوتها الخفيض الرحيم كمُزْنة تروي جراح الظمأ واليباب. لمَّة النساء لا يستقيم عودها من دون غيثة المكشادية،تطوف عليهن بأكوابٍ و أباريقَ و كؤوس لامعة من الكريستال،فيسْرحُ فيهن اللغوُ و يذهب بهن كل مذهب. ولا يعُدن أدراجهن إلى صحن النور، إلا بعد شِجارٍ قوي يُكسرُ عودَ الصّبية،فيقطع فتيل الحكايات و المغامرات السرْمديَّة القديمة.

3- في غبش الفجر...

يتسلل الحاجُ من فراش غيثة على أنامل أقدامه، دون أن يحدث رجَّة بالبيت. يدلف الحمامَ و يرتدي بذلة الرياضة،فيُعانق الهواء الرَّطب الجديدَ.

يعود المساء إلى بِطَاحِهِ، تلوك نساءُ الدار الكبيرة أخبارا مفادُها،أن الحاجَّ يَتَصَابَى وخرج عن المِلَّة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى