الأحد ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
مشاهد مختارة من أفلام
بقلم رانية عقلة حداد

فتاة بقرط لؤلؤي

مقدمة الشيء أي كان ومنها الفيلم، هي التمهيد له ولاحداثه تقديم للشخصيات الرئيسية الزمان والمكان او البيئة التي تجري فيها الاحداث، تتباين الافلام في مستوى الاهتمام بالمقدمة، وافلام قليلة منها التي توليها اهتماما كافيا، ومخرجي تلك الافلام يعتنون بالمقدمة لربما اكثر من الفيلم ككل لاكثر من سبب منها ما ذكرناه سابقا وكذلك لان الدقائق الاولى من الفيلم تحدد خيار المشاهد فاما ان تجذبه فيستمر في المتابعة او لا تسرق اهتمامه ولا تركيزه فمن الممكن حينها ان يمضي الى فيلم اخر، هذه الدقائق القليلة في البداية هي ايضا التي تحدد اسلوب وايقاع كامل الفيلم، وساتناول من حين الى اخر في هذه الزاوية بعض مشاهد مختارة قد تكون مقدمات او نهايات او مشاهد مميزة من بعض الافلام.

ساتناول هنا مقدمة الفيلم البريطاني " فتاة ذات قرط لؤلؤي" انتاج عام 2003، وهو الفيلم الروائي الاول لمخرجه بيتر ويبر، اسم الفيلم هو موضوع احدى اللوحات التي رسمها الفنان الهولندي يوهان فيرمير (كولن فيرث) في العام 1665، والفيلم يروي القصة التي تقف خلف رسمه لهذه اللوحة، وهي قصة متخيلة فلم يرد لاي ذكر انها مبنية على احداث حقيقية، فتلك الفتاة موضوع اللوحة التي تدعى جريت (سكارلت جوهانسون) ساءت احوال اسرتها المادية مما اضطرها ان تكون الخادمة الجديدة لاسرة الفنان فيرمير، بعدعا تصبح احدى النماذج التي سيرسمها، وسيوليها اهتماما خاصا يثير غيرة وغضب زوجته، فتطردها من المنزل بعد ان تصل الامور الى الذروة حين يلبس زوجها فيرمر تلك الخادمة قرطها اللؤلؤي قبل ان يبدأ برسمها.

بما يتسع لي من مجال ساتحدث هنا عن اللغة السينمائية في اول دقيقة ونصف من المقدمة، حيث اختار المخرج ان يعرفنا على عالم البطلة البائس لا بشكل تقليدي باستعراض مكان يوحي بالفقر باثاثه وملابس البطلة رثة، ولكن ببناء مشهدي محكم ومختزل، وبصورة موحية تتظافر بها عدة عناصر لايصال الفكرة.

تبدأ المقدمة بظهور تدريجي من السواد على لقطة قريبة جدا ليد تقطع البصل، وتنتهي بعد سبع دقائق وربع باختفاء تدريجي الى السواد على لقطة متوسطة لجريت وهي ترقد في سريرها في القبو بمنزل مستخدمها، المقدمة التي تحتوي عدة مشاهد تقدم بنصفها الاول بطلة الفيلم جريت وتوحي بالبؤس الذي تعيش فيه، والاسباب التي قادتها الى العمل كخادمة، والنصف الاخر يقدم رحيلها والبيئة الجديدة التي ستعمل بها.

إذن بلقطة قريبة جدا ليد تقطّع البصل يختار المخرج ان يبدأ المقدمة، تليها لقطة بعيدة تتحرك فيها الكاميرا بهدوء باتجاه باب مفتوح داخل منزل، ثم يبدأ التناوب بين مجموعة لقطات قريبة جدا لذات اليد تقطع كل مرة خضار مختلفة، وبين اللقطة البعيدة للكاميرا وهي ما زالت تتحرك بهدوء نحو الباب، وطرف فتاة يبدأ بالظهور وهي تُقطّع، ثم من جديد مجموعة لقطات قريبة لليد تقطع مجموعة اخرى من الخضار، تليها استمرارية لذات اللقطة التي تتحرك فيها الكاميرا وقد اصبحت امام الباب وعلى مسافة اقرب من الفتاة في المطبخ وهي ترتب الخضروات في الاطباق.

فعندما يختار المخرج ان يبدأ بحجم لقطة كبيرة جدا، هذا يعطي اهمية للفعل الذي يحدث داخلها الذي هو التقطيع، ويجعلنا قريبين جدا منه، وبالتالي قريبين من الشعور بقسوته مؤكدا بحدة الصوت الذي يصدر عنه، وحين يتبعها بلقطة متحركة يشعرنا معها بالاقتحام والكشف، من ثم يناوب بين الفعلين باللقطات اللاحقة ويجعلهما مترابطين؛ يحيلنا هذا البناء الى مستوى اخر من الدلالة، الى ابعد من مجرد تقديم البطلة كفتاة تعد طعام، بل الى اكتشاف عالم جريت وتقديمه، كأنها هي تلك البصلة واي خضار لاحقة تفرمها الحياة بقوة وبأس كالسكين التي تقطّع بها.

بعد ان قدم البناء المشهدي القسوة التي تحيط بجريت انتقل الى تقديم انسانيتها، من خلال مجموعة لقطات قريبة تبدأ بلقطة ترتفع من يدي جريت وهي ترتب الخضارالى وجهها، فنشاهد هنا ملامحها للمرة الاولى عن قرب وندخل الى اعماقها من خلال تعابير وجهها الحزين والشارد، ثم تتناوب لقطات قريبة بين وجه جريت الصامت وبين يديها المنهمكة بترتيب الخضروات، فنكتشف انها الاطباق التي تستعيض بها الاسرة عن اللحم والسمك، فتؤكد حالة الفقر والبؤس التي تم الايحاء بها سابقا، تتخللها لقطة متوسطة والام تنزل الدرج تنذر بما سيعيد جريت الى واقعها ... فتغادر جريت المطبخ تاركة السكين خلفها على الطاولة لتحتل الكادر ... فتحيلنا مرة اخرى للمستوى الثاني من الدلالة.

يوظف المخرج عناصر سينمائية اخرى تتظافر لتعطي الاحساس بالحزن وقسوة الحياة والبؤس الذي تعيشه البطلة؛ منها لون الفيلم المائل الى الزرقة والذي يطغى على الصورة موحيا بالكآبة، بالاضافة الى الاضاءة الخافتة القادمة من نافذه خارج الكادر تستر المكان اكثر مما تكشفه تعطي الاحساس بالثقل والقتامة، كذلك الموسيقى حيث تعطي الة وترية ايقاعا هادئا رتيبا يشبه حياة جريت، كما تعطي الة نفخية اللحن الاساسي الحزين والمرتبط بعالم جريت الذي تخرجها منه امها حين تناديها، فتتوقف الموسيقى وكأن جريت عادت من عالمها وشرودها الى عالم الواقع القاسي.

واخيرا الايقاع والذي يحدده زمن كل لقطة، بدأ متساويا بين فعل التقطيع في اللقطة الاولى، وبين الدخول الى عالم الشخصية في اللقطة الثانية كل منها ست ثواني، ثم اخذ الايقاع بالتناوب بين السريع في الثلاث لقطات القريبة لليد تقطع الخضار، من ثم البطيء في اللقطة البعيدة المتحركة التي تأخذ نفس زمن الثلاث اللقطات السابقة مجتمعة، ثم بالجزء الذي نبدأ بالتعرف على جريت عن قرب يصبح الايقاع هادئا ما يلبث ان يتسارع في مجموعة اللقطات القريبة بين يديها ووجهها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى