الأحد ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم أسامة رقبة

فصول ضيعتي المخفية

قصة للأطفال

النص المشارك موجه إلى فئة الناشئين لمدارس مرحلة المتوسطة والثانوية (تخصص زيادة الواقعية ورفع الحس الخيالي)

بِسمِ الله نطَقتْ عُيونِي، استيقظَ الصبحُ فطارَ عنِّب النُعاسُ، فقام الأطفال واتجهَ كلُّ واحدٍ منَّا خلفَ قبلتهِ ليتوارىَ مِنَ اَلْأَعينِ، وبدأت لعبة الفصول، فِي حين هرع رِفاقي صَوبَ كُلِّ وِجهةٍ مِنْ هَذَا الكَوْن، بَقيتُ أنا فِي ضَيْعتنَا أُودِّعُ حنيناً ألتمسُ بقايا المباني وأخيطُ ابتساماتٍ زائفةٍ بالتمني وأُعَلِقهَا على جِذْعِ نَخْلَةٍ تَنتَحِب، فَرفَعْتُ يَدايَ فِي السماءِ عَالياً ودَعَوْتُ: "يا ربي عونك" لمْ أُنْزِلْ ذِراعَايَ (ذراعي) حتى أَتَتْ رِياحُ الخريفِ تَدفَعني للعملِ تُخْبِرني بأنَّ الوقتَ لا ينتظر فلِمَا التحسرُ على ما فاتَ وانقضَى، نفضتُ عنِّي الغبارَ فصَحْصَحَتْ هِمتي وبَزغتْ لي أجنحةٌ قد وُلدت لتوِّها مِنْ حواسي و راحت تَحملنِي كَعُصْفُورٍ يطيرُ لِتَزُفَنِي في أرضٍ فلاةٍ، فَاِفْترشتُ أَرْضِي وَأَخذتُ مِحْبَرَتِي وَصَوْتِي وَ شَدَقْتُ (؟) بِأَلوانِي، فِي أعلَى الْوَرَقةِ أَشْرَقَتِ الشَّمسُ فألقيتُ عَليها السلامَ.
حَرثتُ الحُقولَ على صوت خربشةِ دجاجاتٍ، ورحتُ أُحركُ عوداً تقليدياً يُتْقِنُ الْكِتابةَ بالخطِ العربيِ الأصيلِ وأُلقِي سحراً حضارياً من الطوبِ والترابِ الرفيعِ في خدمةِ الأرض و التمسكِ بالوطنِ، فكنت أغرسُ البذورِ وأزرعُ حباتَ السكرِ، وصرتُ أحيكُ الغيمَ من لحيةِ جدي لأشكلَ مِنها سحاباتٍ، وها قَدْ أتَى الشتاء فهمستُ للسماءِ نكتةً فضحكتْ وانهمرتْ دموعهاَ في الوادي وصارت أصواتُ ضحكاتِها على النهرِ تَجرِي وهيَ تستبقُ سُفني الورقيةِ خلفَ الرياحِ الحالِمَةِ متى تكبرُ و ينبتُ لها الشِّراعَ لِتطيرَ إلى المحيطِ، و على ظَهْرِ الأرنبِ الصغيرِ أخذتُ مسْحةً خفيفةً مِن فرْوهِ الناصع لأرسمَ بياضَ الجليدِ، وبدون أن أقصد حركتُ غصناً فتساقط قطر الندى و نزل معه بعض الأطفال فانكشف مخبأهم وأسرعوا ليلعبوا بكرات الثلج، حدَّقتُ في الحطبِ وكان قطعةً من الشكولاتة فغمَسْتهُ والنارُ كأسُ عصير فكلَّما اقتربتُ منه دَغدغتِ النارُ يدايَ فجعلت أَدُسَّهما في الثلْجِ وأصنعُ بيوتاً لِيدفأ فيها كلُّ هذا البرد. وأحضن غنمي إلى صدري وأطعمها نبضات قلبي كانت مُخَبأةً بصدقٍ على يساري كي تواصل مشيها إلى الربيع، وأعصر زيتونا بيميني أصنع منه مدادا يمدُّ بحاراً أُلامسهُ وألهب فَتيلَ مُحرِكَ الدفْعِ الخُمَاسيِ، دارت العجلةُ وأبصرتُ طريقاً يكسوه النور، و ها هو بخارٌ متفاخرٌ يتباهى بالصعود فتصَلِبُه أنفاسِي ليتواضعَ ويكمل مسيرهُ بثباتٍ نحو مصدر ذلك النور.

وفي فصلِ الربيعِ تَتَفَتَحُ الورودُ وحباتُ السكرِ، وتبتسمُ شَقَائِقُ النعمانِ وتَكتسي اللونَ الأحمَر، فقمتُ أمسدُ الطيبَ على الأراضِي وأنثرُ العنبرَ بين الربى في القرى و في قممِ الجبل، وأنغمسُ في العشبِ وأرّتعُ فيه حتى يصيرَ لونهُ أخضر، وأزرعُ الفراشاتِ لتضيءَ الحقولَ بزرابي بهيجةِ الألوان، وأكونُ أنا البستاني في لوحتهِ كما في أرضهِ يلونُ النرجسَ والزعفرانَ بفرشاتهِ الصغيرةِ، وقد غدتِ الأزهارُ تَكتسِي على خدَّيْهَا طابعاً منَ الحناءِ وبحياءٍ تسقي من ناضريها حُلَلَ الجمال فيصعد إلى السماء عاليا ويتدفق في كف زهرةٍ خجلةٍ، عطرة بالحسن الفواح، وتعالت فرقعة البالونات تُذَكِّرنا بفرحة العيد، راح الأطفال بالكرة والألعاب يمرحون بحيث عند خروج الفتى سَيبْحثُ عن صاحبه ليكونَ معه، وتجلَّى لِي أن رفاقي أنجزوا أعمالهم بسرعة وظهروا أمام الملأ واحدا تلوى الأخر، وأمَّا أنا لا زلت متمسكا بأرضي، أداعبُ صغار الفاصولياء وبراعم اللوّزِ وأعَلِّم جِذْعَ النخلةِ كيفَ تحْبُوا وتمشي على ساقٍ وكيف تعدُّ الخطى لترتفِع في السماء، وأخبرها أن لا تحزن بعد تساقط النجوم من حولها فعندما تنام باكراً ستكبر وتضيئ وحدها مثل القمر.

وفي الصيفِ كانت الشمسُ تنظرُ إلينا في خجلٍ وهي تختبئُ وراءَ السحُبِ ناديتها فأقْبلتْ مُهَلِّلَّةً تَغسِلُ وجههَا بسنابلِ الذُرَة وسهول القمحِ ترتشفُ اللونَ الأصفر، و النملُ قد حَيَّ الفلاحَ فردَّ عليهمُ التحيةَ و وزَّعَ عليهمْ الهدايا وقدَّمَ لهم نصيبهمْ من أزهار الحلْوَى و مَلأَ جُيوبهُمْ بأكياسٍ مِنْ أطيبِ السكاكر، حلَّ المساء فخرجَ رفاقي من شقوقِ الأرض ومنهم من نزل من أعالي الشجرة وخرج بعضهم مبللين كانوا يختبؤون في البحيرة، وقد ظهروا جميعا، وبقي فردٌ واحدٌ وذلِكَ كانَ أنا، وبما أن لدي الكثير من الأصدقاءِ فهمُّوا كلهم بالبحث عني، فتَّشُوا في ضيْعتنا و تجاوزوا المنْزل، و لم يعثروا علَّي، فتَّشوا في الصحاري والجبال والتلال وخلف الأشجار و تحت الأحجار وعلى صوف الأغنام ، ولم يجدوني بحثوا في كلِّ مكانٍ لم يجدوا لي مخرجاً أو مدخل، وأما أنا فكنت في طريق دامس أحفِرُ في الظلام لأصل إلى ذلك النور، لم ألتفت إلى نداء رفاقي لكي لا يضيعَ الطريقُ من تحت قَدَميَّ فأتيهُ بين خطواتي وأتعثر.

وأخيراً انتهيت! ها قد وصلت إلى مصدر النور أولاً رغم أني انطلقت متأخراً، لا احد أمام مرآي، كان ختام العملِ شهداً يتقاطر مِنَ الإتقانِ و الهِمَّة، فأما الخاءُ فبذرة خيرٍ و حَجْمُ العمَلِ كلَّفَ فَصْلَّي الشِّينِ والراءِ وقَدْ سقيتُ فُرُوعَهُ عَسَلاً منْ شَرايينِي، والصادُ موسم للحصادِ، فكنتُ طوالَ هذا الوقتِ أختزنُ لوْحةً كنتُ أنا الشَغَفَ الذِي قاسَمَها الألْوان، أكنَّنْتُ لها حُروفِي وكنتُ لها أنا الرسامُ، هُمْ لَمْ يَنْجَحُوا ليْسَ لأنَّهم لم يَخْتبؤُوا جيداً أو أنَهُم لم يبحَثُوا ملياً، وهذا لأنهم أنجزوا أعمالهم بسرعة دون اتقان ولم يجعلوا لأنفسهم هدف مجد، وجعلوا غايتهم أن يمضوا كل أوقاتِهم في اللَّهوِ واللَّعبِ، ولَوْ أنَّهمْ رَفَعُوا رُؤوسَهمْ في السماءِ عالياً لَرأوّنِي متشبثاً بِمَا أحلمُ به، فقد نجحتُ لأنَّنِي وَضَعْتُ لِنَفْسِي هَدَفاً سَامياً وَأَحبَبْتُ عَمَلِي كَقَسَمٍ أَشْرُبُ مِنْه ، فكنتُ في لَوْحَتِي كما كنتُ في ضَيْعَتِي، أنا الفلاح المتنكر! و الأن سأزيلُ القُبَعَة واللَّحية والرداءَ وعِصِّيَّ البَهْلَوانِ وآنَ الأوَان لَقَدْ فزْتُ وسَأظّهَر، لأَنَّ لِي عَقْلاً جَميلاً خَصَّنِّي بهِ الرَّحمَنُ سَأسْتَعْمِلهُ وأعرف مَتَى أَلهُوا ومتى أَعْمل، لأظّهَرَ أخيراً وأفوزَ و أكونَ أنا المُنْتَصِر، وها قد خرجت لكني لم أجد من رفاقي أحداً، أين اِخْتَفوْا؟، لا شك أنهم أطالوا الانتظار ثم دخلوا إلى منازلهم، بعد أن ودعنا الشمس عند الغروب، كان قَدْ حلَّ الليل وأسدل خيام الغسق، غداً إن شاء الله سأجمع رفاقي كلهم ونحتفل لأنَّ هذا النصر ليس لي وحدي بل لنا جميعا، فلولاهم ما شَيَّدْتُ لوحةً بهذا القدر من الجمال، وأنهم كانوا مصدراً أقتبس منه ينبوع الإلهام، عدت إلى البيت فقد كان يوما طويلا و ممتعا، أشعر ببعض التعب حطَّ عليَّ النعاس، غفت عيوني وخَلدتُ إلى النوم وأنا أوَّسد ضيعتي المخفية التي لم أخبر أحدا عن مكانها.

انتهت

قصة للأطفال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى