الأحد ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم منى العبدلي

فكرة طارئة

كنا نعبر زقاقا ضيقا ذلك اليوم في طريقنا إلى المقهى الذي اعتدناه منذ سنوات، توقف فجأة عن السير وهمس كمن يخفي سرا:
ـ أقسم لك أني توصلت مؤخرا إلى أني متورط بشئ ما، نعم عليك أن تصدقني، إنه شئ لا أصله بإدراكي ولا أستطيع فهمه فالغموض يكتنفه والحيرة تكاد تقتلني .

تنهد واسند رأسه إلى الجدار وعقب :
ـ ليس هذا وحسب بل إن كل محاولاتي البائسة لربط وفهم ما يدور حولي باءت بالفشل، هل تعتقد أن قدراً لعيناً يطوقني ؟ أو ليست السماء التي تعلو رأسي هي ذاتها التي تظلل بقية خلق الله؟

كان يتطلع إلي كمن يسألني العون وعيناه تدوران في الفراغ وجبينه يتفصد عرقا رغم برودة الطقس!
كان مضطربا ونبرة صوته لا تستقر على وتيرة واحدة حين بادرني بجواب قبل أن ينطق لساني بقوله: هو ذاك بلا شك، إنه القدر اللعين. وراح يتمتم بكلمات لم افهمها ثم عاد متجهما كما كان.

كان المقهى يغص برواده وكل قد انفعل بجوه الخادر وحركة الناس الهادئة فيه وأضفى ذلك نوعا من السكون ومع ذلك اخترنا زاوية بعيدة عن الآخرين والتقط الكرسي متابعا حديثه:
ـ أشعر بفيض هائل من الأفكار تهاجم رأسي كل ليلة، هل تفهم ما أقول ؟، إنها تحيط برأسي كحبل يظل يلتف ويلتف كالأفعى الضخمة، وأخذ يرسم بإصبعه دوائر في الفراغ دون أن يكترث بالنادل الواقف على رأسه والذي جاء صوته الغليظ كي يوقف السيل الهادر من الحديث الذي لم أستطع أن استوعب معظمه وكانت كلمة نعم التي ابتدرنا بها كافية لصديقي كي يمد يده ضاربا على الطاولة الصغيرة التي تفصلنا ومستندا على يده الأخرى ليقف في وجهه صارخا :
ـ ألا ترى أنني وصديقي هنا وسط حديث مهم لا يمكن تأجيله ؟
تبا لقهوتك التي يمكنها أن تنتظر قليلا .
غاب النادل هازا رأسه وسط دهشتي مما أصاب رفيقي .

صديقي قصير القامة، نحيل، له عينان مستديرتان وبؤبؤان تائهان في بياضهما المصفر، وشعر خفيف قد غزا الشيب معظمه، لكني في تلك اللحظة لمحت في وجهه شيئا جديدا لم أستطع إدراكه .تطلع إلي بنظرة استجداء ولوم وكأنه يريد مني التقاط كلماته المتساقطة دون معنى وشد على يدي وهو يتابع حديثه بقوله:
ـ لست أدري لكن الحياة كلها فكرة مؤرقة، كما أنني لست متأكدا إن كنت قد توصلت لفهم ما يجري في غمرة تلك الأفكار التي تلح علي لأتعرف عليها، لا، بل لأقبل بها كمسلمة لا مناص منها، وكان لا بد من قرار اتخذه رغم الخيبة والإحباط في كل مرة أفشل في هزم فكرة طرأت .

كان يتحدث وأنا اشعر تجاهه بغرابة غير متأكد من أن هذا الجالس قبالتي هو صديقي الذي تقاسمت معه مر الحياة وحلوها لعشرين سنة مرت . كنت لا أعرف إلى أي مدى يمكن أن يصل بحديثه الغريب هذا، وكدت أطلق العنان لأفكاري بعيدا عن ثرثرته لكنه لم يترك لي فرصة بذلك حين نهض فجأة ملوحا يده في الهواء وهو يقول :
ـ خُيل لي ذات مرة أنني هزمتها، التمست الصبر وقررت من جديد أن أعكس درب العودة واهزمها بحركة مراوغة وأعاود الانحراف كي استطيع التقاطها وفهمها سريعا، مرفقا بذلك وصفا سريعا من خلال يده التي يحركها في الهواء، ثم جلس واضعا كلتا يداه على وجهه وتابع بصوت دب فيه الحزن فجأة:
ـ لكن لا فائدة أبدا .
صمت لبرهة وهو يطّوف نظره كمن يريد أن يتأكد من أن لا أحد يسمعه، وبأسى قال :
ـ بالله عليك أخبرني أنت ماذا ستفعل حين تجد نفسك أمام حالة من اللطافة التي غمرتك مؤخرا ولم تبلغها بإرادتك ؟، وإياك تحاول إقناعي بأنها محاولة داخلية لهدنة مع نفسي أو حتى مع الآخرين! هراء يا صديقي، إنها حتما ستكون محاولة مهزومة ، وها أنا أقول لك أنه رغم الجو الحميم الذي أعيشه نتيجة لهذه اللطافة الطارئة إلا أنني وبكل إرادة أخذت أوجه لنفسي كل اتهام ممكن وغير ممكن، ودون أن التفت إلى الإشارات المنبعثة من أعماقي التي على ما يبدو تأثرت بلطافتي المؤقتة وهذا ليس كل ما هنالك بل إني اخشى على تلك الأفكار التي اعتقدت لفترة من حياتي بأنها مرحلة ذات خصوصية لم اعشها كما يجب، لذا لم اعقد اتفاق هدنة مع نفسي . ورحت أتساءل ماذا يحدث لو أني أدرت لها ظهري وتجاهلت بوادرها الأولى ولم أوتها الفرصة لتغوص عميقا بداخلي؟

كان الأسى قد اكتمل على وجهه، وكنت أدرك أنه يرمي بأسئلة حائرة ولا ينتظر مني جوابا، كان يسأل ويجيب دون أن يترك لي الفرصة بالتقاط الحديث، ثم حين ساد بيننا صمت قصير بادرت باستغلاله قائلا:
ـ يا صديقي، افترض أن هذا مجرد وهم، لمَ تعطيه وزنا ؟ لماذا تجرف نفسك ناحية غائب عن إدراكك حتى اللحظة؟ حتما أنت لا تريد أن تقع في مطب أوهامك أو خياراتك العابثة مؤخرا بسبب ما أنت فيه الآن.

كان يبدو غير مكترث بما أقول وعيناه تدوران في المكان بلا هدف، وكنت أعرف أن حديثي له يشبه النفخ في وعاء مثقوب.
بعد ساعة وحين غادرنا المقهى لفحتنا ريح تنذر بليلة باردة، والشمس تغيب خلف الأفق البعيد، سرنا صامتين وقد غرق كل منا في أفكاره حتى غاب عن نظري وسط الجموع التي كانت تسير كالموج وكان هذا أخر عهدي به حتى علمت لاحقا أنه أنتحر.

هذا كل ما أذكره سيدي الضابط.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى