الأربعاء ١٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
بقلم مصطفى الشليح

في السؤال عن الذاتِ والتراثِ

تلتبسُ العلاقة بينَ الذات والتراثِ في المنظومةِ الثقافيةِ العربيةِ لاعتباراتٍ تاريخية لعلَّ بعضها موغلٌ في القدامة، ولعلَّ البعضَ الآخر مترتبٌ عن تفريع تلك العلاقة إلى علاقاتٍ حدَّ الزعم أنه قد يكونُ لكلِّ فريق تراثه، أو قد يكونُ له فهمٌ خاصٌ لتراثه إذا لم يكنْ لكل واحدٍ نسخة متفردة منْ ذلك التراث.

هذه العلاقة الملتبسة ناجمة عن قراءةٍ مثاليةٍ للتاريخ، أو لعلها قراءة استرجاعية تنظرُ إلى الراهن في مقدار تحادثه مع الكائن التراثيِّ، وفي حجم الانتباه إليه، ثم في نوعيةِ الإنصاتِ المخصوص به. أو لعلها قـراءة السفـر إلى الموهـوم توقيَ مجالسةٍ عالمةٍ للمعلوم، وحذارَ انبثاق سؤال الذاتِ يبحثُ عن تاريخها وعلاقاته لفهم معقلن للعالم.

إن العلاقة علاقاتٌ لغياب نسق ثقافي يؤطرُ الواحدَ المتعددَ في ضوء المتعددِ الواحدِ، وفي إطار جدلية الخاص والعام إذا لم نقلْ جدلية المطلق والمقيد، ثم باستحداثِ قنواتٍ واصلةٍ بين الذات والترائيِّ التراثيِّ من خلال التشكلات السلوكية التي تقدم نسخا متوترة ومتواترة من سَفر التاريخ إلى الذات عوض سَفر من الذات إلى التاريخ.

ذلك النسقُ الثقافيّ أخفقت الجسْرنة التلفيقية التي تبناها الخطابُ المتأسلفُ في بلورته قيمة ثقافية مهيمنة تتناسل قيمـًا أخرى موجهة للاختيارات ولاستراتيجيات التفاعل مع المعيش الحضاريِّ الذي يبسط مداره الكونيَّ على الثقافات الجهوية والإقليمية والقومية من خلال حوار الحضارات؛ وعبر استشفافِ الآخر الثقافيِّ لاستئناف التجاذب مع الأنـا التراثيِّ، والذي يقترحُ أو لعله يقترح استدراكـًا للزمن ذا انفتاح مستقبليٍّ لما يلتفتْ إليه الخطابُ المتأسلفُ العربيُّ بعد، وكأنّ التاريخ لما يسعفْ في بيان الفروق بين واجهتيْ القرنين العشرين والحادي والعشرين، من حيثُ الأولياتُ والأولوياتُ التي تؤطرُ العقلَ العربيَّ إذا يتبنى نسقا ثقافيا تكوينيا أدنى إلى البناء منه إلى الجسرنة بين مختلفاتٍ لعلها لن تصير مؤتلفاتٍ.

من ثمة كانت العلاقة ملتبسة.

ومن ثمة انصبتِ الكتاباتُ، الباحثة في التراث وعنه، على البحث عن إجابات عن أسئلة لم تطرحها قبلما ترتكن إلى تدافع الثقافي والوجودي لتركيب أسئلة الذات والتراث.

ومن ثمة انشعبت المواقف الناظرة إلى ما ليست هذه المقاربة منصرفة إلى تعداده، لأن الأمر، على امتداد مائة عام من العزلة، اتخذ لكل وقتٍ لبوسا واتخذه الوقت دروسا للذي اعتكف " المثقفون " العرب على تأمله، والذي تحول من علاقة ملتبسةٍ إلى إشكالية مؤسسةٍ لما يتداوله الخطابُ العربي المعاصر من بياناتٍ عن التراث تذهبُ من النقيض إلى النقيض، ولعلَّ في ذلك الذهاب ما يُذهب بمـوقع الـذات من التـراث.

إن التماسَ موقـع الـذات من تراثها خليقٌ بصوغ أسئلة لعل أبرزها :

• ما الحدود الفارقة بين الذاتِ والتراثِ؟

• وهلْ يمكنُ اعتبارُه قاعدة للشخصية الثقافية العربية؟

• وهلْ هو كذلك؟

• وأين نموضعُ الثقافاتِ الإقليمية لكل قطر عربيٍّ؟

• وما أثرُها في تشكيل حساسيةٍ مرجعيةٍ ذاتِ خصوصيةٍ؟

• وما موقع التراث بين الجَبر والاختيار في سُلم المعرفة؟

لعلها أسئلة محجوبة الطرح، أو لعلها طرحتْ باحتراس من قبل الباحثين في التشكلات الكتابية وفي المياسم الإبداعية النابضة بها، أو لعل النقد العربيَّ التمسها بصيغ كانت أقربَ إلى البديع منها إلى النقد حينما قرأ إشكالية الإبداع والاتباع في الأدب العربي، شعرا ونثرا، خاصة حينما عرض للمعاني أكانت عُقما أم متعاورة، وحينما أفرد للسرقات أبوابا في مقاربة تصادي النصوص وتناديها إذا لم تكن مقاربة في التناصِّ بشكل عام.

إن ثنائية الأصل والفرع، أو القديم والمحدث، أو الأصيل والمعاصر، هي ذاتها ثنائية الـذات والتـراث، وهي ذاتها ثنائية النقطة واسترسالاتها في الزمان وفي المكان، وهي ثنائية من حكايات الصَّوتِ والصَّدى إبانَ التحولاتِ من الرَّجع التكراري إلى الوقع الابتكاري، في ضوء لعبة الدورة الإبداعية التي لا انتهاءَ لها ولا ابتداء.

إن النص الإبداعي الأول مشترك إنساني، ولأنه ذو سيولة تاريخية مأهولة بالذات والآخر حدّ التماهي والتناهي كلما ترك الصدى مقعده التذكريَّ وامتهنَ النسيان، وراح يبوح بالصوت المنبعث من رماد المعنى القديم.

لكن الرؤية العربية للنقد كادت تكون، في كتاباتها، أقربَ إلى إعادة تأهـيل الوارد النصي التراثيِّ منها إلى إصاخة السمع لتلك النصوص المجاورة التي تشترك معها في التدبير الوجودي للمعيش الثقافيِّ، وكادت تقيسُ الشاهد على الغائب قياسا يستقدم معاييره من الشروط القبلية المبرمجة للتنشئة التأدبية باعتبارها توطئة باذخة البنود للذاهبين إلى الكتابة بكل ممراتها من الأدب إلى الفكر، وبكل مجراتها العابرة نواصي التجنيس إلى أقاصي المغامرة الكتابية.

الطللُ المعرفي كان سيدا في الذهاب إلى الحياة، وكان ماهدا حينَ الدنو منها، ثم لعله أن يكون عائذا منها وعائدا إلى الوقوف يستقطره الحنين الذي تمورُ به جنباتُ الرمل كلما قام يرى وما رأى كأنه كان قاعدا عن الذهاب إلى الحياة.

ذاك الطلل المعرفي، الذي يتمأسسُ كلما أوغل التراثُ في قدامته، يتلبس صورًا لعلها أن تكون جامحة جانحة إلى القداسة دونما إنعام للفكر ومن غير إعمال للنظر؛ بل استنادا إلى حميةٍ تتلفع بالتاريخ وبالمتعاليات الثقافية التي تحظر المحاورة والمناظرة، وتنثر، على بسط القول، مداراتِ المفاضلة التي تفضي بها إلى تسييد مناولـةٍ ذات حمولةٍ ترسمية.

هذا الترسم للزمان، في سكونيته, يتغيا حجب الذات عن ممارسة ذاتها بأسطرة تؤمثل المتقدم على المتأخر، وتكرس النمذجة الإبداعية للنص، إن تشكلا جماليا أو مرجعية معرفية، وتتجه إلى بلورة إعادة الإنتاج بالنسج على المنوال وبالنهج الواقف على الطلل المحيل.

في ضوء هذه الإكراهات ما موقع التراث من الذات؟ وما موقع الذات من التراث؟

لا تزعم هذه المقاربة الإتيان بأجوبةٍ عن سؤالين متراكبين هيمنا على كل الدراسات التي تناولت التراث من حيث هو قاعدة تأسيسية للشخصية العربية أو من حيث هو ثقافة تنتمي إلى المنظومة الثقافية الإنسانية بشكل عام. وليست بزاعمةٍ أنّ التماسَ خطوط التداني والتنائي متيسرٌ للباحث عنها في خارطة الذات والتراث.

ولكنها زاعمة أن التقاط التماسّ التقاطعيّ بين مكونيْ الخارطة مقدماتُ إجابةٍ عن التناوب الموقعيِّ بين الذات والتراث.

ذانك السؤالان يمكن استعادتهما بصوغ مغاير:

  كيف تتحول الذاتُ، بفعل التراكم التراثي، من فاعل إلى منفعل لا أفقَ له؟

  كيف يتم تحويلُ التراث من وصايا إلى قضايا ذات نسق؟

إن الذات فاعل ثقافيّ تمازج في تركبه ما تواشج من علاقات تأخذ هويتها من قوميتها، ومن تاريخها، ومن جغرافية انتمائها، ثم تأخذ ماهيتها من كيميائية التفاعل بين كل ما سبق وما تكتنفه من خاصيات إنسانية تتباين من فرد لآخر؛ وفي ذلك التباين ما يجلي حدوثا إبداعيا ليس، بالضرورة، أن يكون غامرا لأفراد المجتمع الواحد رمتهم.

كيميائية رصد جملة منها علما النفس والاجتماع الأدبيان بمقصديةٍ ذات نزوع إلى بيان الأطر السيكو - سوسيولوجية التي تذهب بالأنـا من تحرجها عن سؤال الآخر إلى تدرجها في التواصل لتكون فاعلا ثقافيا باعتبارها ذاتـًا تعقد حواراتِها مع العالم سواء أكان تراثـًا أم معيشا معاصرا، وسواء أكان تجريدا من القول أم تحديدا من الفعل الإنساني.

إن الذات بناء للكائن والممكن وإفراد للجناحين للذهاب إلى كتابة المستقبل.

لكن الذات، في الثقافة العربية، يكاد التراكم التراثي أن يجعل منها ذهابا إلى كتابة الماضي أوإعادة كتابته.

تتوارى في التواتـرات التـراثية مـرايا الـذات إلا في نصوص ذات ندرة أهلت أصحابها ليكونوا حداثيين في أزمنتهم وأن يظلوا كذلك في المتأخر من العهود، وليكونوا خروجا عن النص السائد.

ولعل أدونيس أن يكون قد كشف عن جملة منهم، أو لعل الكتابات الصوفية أن تكون أكثر خروجا وأقدر عروجا إلى حيث الذاتُ تكون حين لا تكون.

للتراث ذاتـه التي تمارس لعبة الخفاء والتجلي، وله منطقه الذي أوجده الكائنُ التراثيُّ العربيُّ، وله أساليبه التي تهم بالمتأدب لكي يتم الدخول إلى خارطة غواياته.

للتراث غوايته.

إنَّ به من الماء ومن طلاوة البهاء ما يمنعُ الداخلَ فيه من اقتراف الباب انصرافا، وبه من هذه البلاغة الفاتنة ما يصرف عن تدبر الأشياء والتفكر فيها، وما يعطف بالمطيف بها على جمال ذي عبارة تكاد تذهب بالإشارة.

للتراث ذات تعصف بالذوات الأخرى إذا لم تكن مؤهلة لمجالسةٍ حواريةٍ مع المتأدي إلينا من الحقب الخوالي.

من ثمة جاذبيته التي تمنع من التحليق، وقد تدفع إلى التوفيق الذي يقول به الخطاب المتأسلف العربي منذ بدايات ما يصطلح عليه ب "عصر النهضة".

ومن ثمة أيضا جانبيته التي تعجز عن الإجابةِ عن أسئلة العصر وتحفزُ على استيراد لغة متناهية لمساءلة عالم لا متناهٍ في مستقبلياته.

ومن ثمة فذاتُ التراث تتسربُ في أوصال الذوات التي اطمأنت إليها فإذا هي استنسالٌ لتجاربَ ليست من حياته، وما كانتْ من حياته وإن رغبَ فيها.

هذه الذات التراثية تحتقبُ تاريخا ثقافيا من النصوص لعل الرائج منها أن يكون إلى المسايرة والمحافظة أقرب، ولعله أن يكون إلى "طريقة العرب" أذهب؛ بل لعله، في ضوء التنامي المصادر لكل انزياح جامح، أن يكون جالسا يتقرى الرملَ والخطى التي كانت هناك.

وهذه الذات التراثية محمولة على إطلاقها، كما سنرى في فقرة لاحقة، وعلى شموليةِ التسمية؛ إذ إنه عن أيِّ تراثٍ يتم الحديث، وما مجالاته التي يتم السفر إليها وهل هي أدب أم أنها تاريخ أم أنها فقه وعلم أصوله، أم أنها بلاغة ومداراتها، أم أنه أخذ من كل علم بطرف تبعا للعبارة الخلدونية؟

هل التراث قاعدة الشخصية الثقافية العربية؟

إنه سؤالٌ قد يلحقنا بالمتطرفين، في تصنيفات المتأسلفين، وما إلى ذلك المقصد؛ إذ الغاية محاولة للفهم تتمظهر في الأسئلة التالية :

• إذا كان النص العربي المعاصر إعرابا عن ثقافة الجمال فكم من شبكاته تتحيزُ في المفهوم التراثي للثقافة؟

• وكم منها تستعيرُ لغته وبلاغته وتستثمرها في كتاباتها؟

• ولماذا هذه التجريبية التي لا تستثني قطرا من الأقطار العربية، والتي امتدت إلى البلدان التي كانت إلى عهد قريب مستأنسة بتقاليدها المحافظة لا تشذ عنها؟

• وفيم هذا المتاه الباحث عن ذاك الغريب الذي لما يكتب بعد؟

• ولم الانصراف إلى ثقافة الآخر استدعاء واستشرافا؟

• ما القرابة الحادثة بين النصين المعاصر والتراثي من حيث البلاغة المتوسل بها، ومن حيثُ المقصدية المأمولة، ومن حيث الوظيفة المحتملة، ومن حيث التلقي المستهدف؟

• كيف بلورت هذه الشخصية مشروعها القومي؟

• وكيف تمت الاستجابة؟

• وما الآثار المترتبة عن التنشئة على مدى أزيد من خمسة عقود؟

• وما نتائجها الملموسة والمحسوسة؟

• ما مقدار استشفاف النص التراثي من قبل المثقفين حتى يتيسر، افتراضا، القولُ بانسرابه في جسد الكتابة العربية المعاصرة؟

• وما مقدار اقتدار المتلقي على التواصل مع لغةٍ غير ذات صلةٍ باهتماماته والتفاتاته؟

• هل المجتمعاتُ العربية قارئة، والتخلف بكافة أشكاله جاثم بكلاكله، والأمية الألفبائية والثقافية ذاتُ عتوٍّ وذاتُ صلافةٍ مهيمنةٍ، حتى يمكنَ الزعمُ أن الشخصية الثقافية العربية في الراهن من الوقت تأخذ مرتكزاتها القاعدية من التراث؟

• أليست الهلهلة المعرفية سمة دالة على المقاربة النقدية للراهن الثقافيِّ العربيِّ، وأنَّ الهرولة اعتمدت كل اتجاه مسربا وسبيلا، وأن الاستهلاكية أخاذة بالرقاب بدلا من الكِتاب؟

• ما الوضع الاعتباري للمثقف العربي في مجتمعه؟

• وماذا تقول البيانات التي دأب ذلك المثقف على تدبيجها احتجاجا على التهميش المبرمج للفكر وللثقافة في البرنامج المجتمعي الذي يأمل أن يكون حداثيا؟

لن ينطوي سجل الأسئلة لأن القضية وجودية لعلها أن تكون متجاوزة لثنائية الذات والتراث إلى إشكاليـةِ البحـثِ عن الـذاتِ في خضمِّ التحولات التي يعيشها العالمُ المعاصر، وفي خضمِّ عولمةٍ تتغيا الإجهاز على الخصوصياتِ المحلية للثقافةِ أو على الثقافات الجهوية، ثم في خضمِّ اللهاث خلف حداثـية الكراسي الاحتفالية باطراح كلِّ ثقافة تنويرية استشرافية للآتي.

إن إشكالية البحث عن الذات عمق ثنائية الذات والتراث التي نذهبُ إلى الاقتراب منها بالسؤال؛ إشكالية ثقافية وحضارية ووجودية أنعمَ غيرُ قليل من المفكرين "النهضويين" وغيرهم في مقاربتها، من مواقعَ متعددةٍ، وما زال الإنعام حادثـًا.

إلا أن سيد الأسئلة هو:

• هل ثمة متلقٍّ لتلك الكتابات؟

• وإذا وجد ما مقدار فاعليته النافذة في بلورتها بشكل منفتح ذي إمدادات؟

إن ثنائية الذات والتراث إشكالية افتقار إلى مجتمع ثقافيٍّ عربيٍّ فاعل ومُنتج.

من هنا يبدأ السؤالُ عن الـذاتِ والتـراثِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى