الأحد ٢٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٢

جماليات التشكيل الفني والموسيقي في «حينما أنا في الغياب»

عايدي علي جمعة

تستوقفنا دلالة العنوان في الديوان الجديد للشاعرة فواغي القاسمي والذي يقع في 140 صفحة، ومن المعلوم أن العنوان يحتل في حقل الدراسات النقدية المعاصرة "أهمية كبيرة باعتباره بؤرة دلالية تشع ضوءها على محاور النص، أو هو التجمع الدلالي للنص، وإذا كان العنوان يمثِّل عتبة الدخول لعالم النص فإن النص هو هذا البيت أو إذا كان العنوان يمثِّل المبتدأ فإن النص يمثِّل الخبر"

فمما يلفت النظر في هذا العنوان خلوه من الفعل، كما أن كلمة (أنا) تقع في مركز الثقل منه، فقد وقعت في المنتصف، وهي تأتي بعد "حينما" التي تستدعي الظرفية، مما يشير إلى فترة زمنية ليست هي الوحيدة في حياة الشخصية "أنا" ويأتي الجار والمجرور "في الغياب" ليكشف لنا عن غياب هذه الأنا.

وهنا تطل دائرة دلالية كبرى أمام المتلقي، فالغياب بأل التعريف قد يفتح مجال الدلالة على ثنائية الحضور/ الغياب التي كرَّس لها "جاك دريدا" في الفكر النقدي المعاصر، فالغياب يستدعي الحضور كما أن الحضور يستدعي أيضا الغياب.

وهنا فإن الذات الشاعرة تكون حاضرة في الوجدان رغم غيابها، كما أنها تحمل في قلبها كل ما تستطيع حمله من عالمها السابق رغم غيابها.

وإذا كان العنوان يمثِّل طاقة دلالية تكتنز بداخلها إشعاعات شديدة التركيز فإننا نرى هذا الإشعاعات تتراسل بقوة مع ما حمله الديوان من قصائد، فكانت الأنا حاضرة بقوة عبره، وكان الغياب له حضوره القوي أيضًا، وذلك في مرحلة زمنية معينة.

وقد حوى هذا الديوان بين طياته ثلاثين قصيدة، ومن الملاحظ أن المحاور الدلالية التي تتبدى من خلال هذه القصائد تتوزع بين الملمح الديني والملمح العاطفي وملمح الغربة والحنين وملمح الوطنيات، وقد ظهرت هذه الملامح من خلال إبداع شعري لافت.

وفي هذا الديوان للشاعرة الإماراتية فواغي القاسمي تظهر بوضوح مركزية الصوت، بمعنى تكريس صورة الصوت الواحد من بداية القصيدة إلى نهايتها، فالذات الشاعرة تمنح سلطة الخطاب لسارد واحد في القصيدة يظل يتكلم من بداية القصيدة إلى نهايتها دون أن نجد شخصية أخرى لها صوت غيره فيها.

ولذا دائمًا ما نجد الذات الشاعرة تستخدم البحر الواحد في قصائدها، فهي حينما تبدأ القصيدة على بحر شعري يظل هذا البحر معها من بداية القصيدة إلى نهايتها، ولا شك أن هذا يصب في اتجاه مركزية الصوت السارد في النص الشعري أكثر، لأن المزج بين بحرين أو أكثر في القصيدة الواحدة قد يؤدي إلى اختلاف الرؤية، وهذا ينتمي أكثر للتعددية الصوتية.

وأحيانًا نجد الشخصية الأخرى حاضرة في القصيدة لكنها لا تتكلم بصوت مسموع، ففي قصيدة نشيد الوصل() مثلاً تقول الذات الشاعرة:

أَيُّهَا الإِنْسَانُ قَدْ غَرَّكَ فِي الدُّنْيَا البَقَاءْ
فالذات الشاعرة هنا تتكلم وتخاطب الإنسان مما يعني أنها تستحضر وجوده في القصيدة، ولكنها لا تمنحه سلطة الكلام، فيظل صامتًا حتى النهاية رغم وجوده.

ولكن المتلقي المدقق يستطيع ملء الفراغات الناتجة في هذا الخطاب مستعينا في ذلك ببنية الخطاب نفسه، حيث يستطيع أن يعلي نغمة الصوت لهذا الإنسان الصامت كي يجعلها مسموعة، فحينما تقول الذات الشاعرة أيها الإنسان ينتج المتلقي جوابًا لهذا النداء، نعم ماذا تريدين؟ فتكون الإجابة قد غرك فيطل سؤال في أي شيء، فتقول الذات الشاعرة: في الدنيا، فيطل سؤال آخر ما الذي غرَّني، فتقول الذات الشاعرة: البقاء. وهكذا يستطيع المتلقي في كل كلام أن يتدخل ويملأ الفراغات الناتجة والتي تظهر داخل بنية الخطاب نفسه.
كما يحدث أيضًا انكسار للمركزية الصوتية داخل تيارها نفسه، وذلك حينما نجد استدعاءات صوتية كثيرة عبر قصائد هذا الديوان لملفوظات الآخرين، ويأتي ذلك من خلال تقنية التناص، والتي تؤدي بطبيعة الحال إلى حضور أصوات أخرى داخل التيار الصوتي المركزي. "وعلى الرغم من أن اللغة البشرية لا تعرف الخطابات النقية فإن درجة التهجين في الخطابات تتفاوت من خطاب إلى آخر"

كما نجد في هذا الديوان اهتمامًا واضحًا بمجاورة الألفاظ، حيث تولي الذات الشاعرة أهمية خاصة للعلاقات اللغوية بين الكلمات، مثل العلاقة بين الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر والصفة والموصوف والمضاف والمضاف إليه، فمثلاً في علاقة الفعل بالفاعل نجد "وَأَفَلَتْ أَيْقُونَةُ القَلْب"، وهي عنوان إحدى قصائد هذا الديوان، ومن المعروف أن الفعل أفل يستدعي أفول الشمس أو أفول القمر أو غير ذلك مما يتميز بالإضاءة، ولكن الذات الشاعرة هنا تجعل الأفول لأيقونة القلب، وكأن هذه الأيقونة قمر بالقلب أو شمس، وهنا تكتسب الأيقونة قيمة مضافة إلى قيمتها، فهي تجمع إلى جانب فرادتها ونفاستها ضوءًا، وكأن الحبيبة حينما أفلت أيقونة قلبها قد فقدت النور والهداية، وأصبحت تعيش في الظلام، وهنا تطل في البنية العميقة أساطير الخصب والنماء، تلك الأساطير الخاصة بمنطقتنا والتي انتقلت منها إلى أنحاء العالم المختلفة، تطل أسطورة إيزيس وأوزوريس، حينما رحل أوزوريس/ أيقونة القلب عاشت إيزيس في ظلام لا يطاق، ولكنها لم تستسلم واستطاعت ان تعيده إلى الحياة مرة أخرى، كما تطل أسطورة تموز وعشتار، فحينما رحل تموز/ أيقونة القلب عاشت عشتار في ظلمات متراكبة، وعاش العالم بسبب ذلك في جدب مطبق، ولكن عشتار لم تستسلم أيضا، واستطاعت ان تعيد تموز إلى الحياة مرة أخرى، وهنا تبدو عملية الاكتناز الثقافي والتي ظهرت من خلال جدة العلاقة وطرافتها بين الكلمات، ويظهر بوضوح أهمية التوسع المجازي في العلاقة بين الفعل والفاعل، أو الانزياح بين الكلمات "وقد حاول رومان جاكبسون تدقيق مفهوم الانزياح فسماه خيبة الانتظار"

كما يظهر أيضًا في العنوان السابق جدة العلاقة وطرافتها بين المضاف والمضاف إليه، فالذات الشاعرة تربط بين الأيقونة والقلب في علاقة قوية جدًا هي علاقة المضاف بالمضاف إليه، فيظهر فائض المعنى بوضوح، فالأيقونة تكتسب قيمة معنوية كبيرة بإضافتها إلى القلب لأنها في هذه الحالة تصبح ذات أهمية خاصة بالنسبة للذات الشاعرة.

ولا نعدم الجدة والطرافة في علاقة الصفة بالموصوف، فنراها تقول في قصيدة "عِتَابُ الرُّجُوع":

يَا صُبْحَهَا المَكْسُورَ يَنْزِفُ لَيْلُهَا
فَتَشِيبُ أَسْئِلَةٌ يَحَارُ جَوَابُهَا

فنجد هنا الذات الشاعرة تصف الصبح بأنه مكسور، ولا شك أن هذا المزج بين ما هو معنوي/ الصبح وما هو مادي/ الكسر يعطي للمعنى فائضًا واضحًا، وكأننا نرى الصبح زجاجًا مكسورًا أو غصن شجرة وقد انكسر، مما يجسد أمامنا فداحة الانكسار.

ومن هنا فإن هذا الديوان يحفل بالجدة والطرافة في العلاقات اللغوية، والتوسع الكبير في ذلك، حتى لا تكاد تخلو قصيدة واحدة من ذلك بل لا يكاد يخلو منه بيت شعري في قصائده العمودية أو سطر شعري في قصائده التي تنتمي لشعر التفعيلة، وقد ساعد ذلك بقوة واضحة على حضور المجاز بصورة لافتة، وكأن المتلقي يشعر بأنه وسط غابة كثيفة من المجازات اللغوية المدهشة، خصوصًا الاستعارة التي تسجِّل حضورًا كثيفًا في هذا الديوان، وعن الاستعارة يقول أرسطو: "إن السيطرة على الاستعارة هي أعظم بكثير من أي شيء آخر، وهي ما لا يمكن لأحد أن يعلِّمه للشاعر، إنها سمة العبقرية".

ولكن التوسع في المجاز في هذا الديوان لا يصل إلى عملية تفجير اللغة أو نسفها كما هو مكرس له عند أدونيس مثلاً في العلاقات اللغوية البعيدة جدًا في شعره.

على أن التشكيل الموسيقي في هذا الديوان قد لعب الوزن الواحد والقافية الموحدة خصوصًا في النماذج الخليلية أكبر دور فيه، ولكن ذلك لم يمنع من اعتماد تقنيات موسيقية مثل تقنية التكرار، فوجدنا تكرار الحرف وتكرار المقطع وتكرار الكلمة وتكرار الجملة قد لعب دوره أيضًا في التشكيل الموسيقي الثري في هذا الديوان.
وقد كان الشعر العمودي كما هو مكرس له عند الخليل بن أحمد الفراهيدي هو الشكل الموسيقي المهيمن، لكن ذلك لم يمنع من وجود قصائد تنتمي لشعر التفعيلة، على نحو ما نجد مثلاً في قصيدتها "تَعَالِي نُرَتِّبُ النُّجُوم" حيث تقول:

تَعَالِيْ.. تَعَالِيْ
نُقَلِّمُ عَنَّا شُحُوبَ البِعَادِ
تَعَالِيْ نُعَاتِبُ شَوْقَ الدُّرُوبِ
وَنَمْسَحُ دَمْعَ المَسَاءَ
بِخْمَرِ القُلُوبْ.

ومما يلفت النظر بقوة أيضًا في هذا الديوان هو تفاعل الذات الشاعرة الواضح مع السياق الاجتماعي الحاف و"يختص مفهوم السياق بأنه إعادة نظر لعدد من السياق الاتصالي، تلك الملامح التي تشكِّل جزءًا من القيود، التي تجعل المنطوقات بوصفها أحداثًا كلامية مصيبة" فنجد حضورًا واضحًا لقضايا الأمة العربية، وكأنها مهمومة بمصيرها، تقول في قصيدة "يَا مَالَ الشَّام":

كَفَى بِالشَّامِ تَمْزيقًا وزيفًا
ليُغْمدَ في جِرابِ الحُبِّ سَيفُ

ومن الملاحظ تكرار حرف الفاء بكثرة في البيت السابق، وهو حرف يستدعي دلالة التأفف، وكأن الذات الشاعرة في حالة تأفف من وضع غير عادل في بلاد الشام، حيث يظهر التمزيق على أشد ما يكون.

كما أن البيئة حاضرة بقوة في هذا الديوان، وهنا يمكن دراسة العلاقة بين نصوص هذا الديوان والبيئة الطبيعية، وذلك من خلال الحضور الكثيف لجمادها ونباتاتها وحيواناتها وناسها، ففي قصيدة "عِتَابُ الرُّجُوع" تقول:

شَاخَتْ عَلَى كُلِّ الدُّرُوبِ رَبَابُهَا
وَاسْتَعْصَرَتْ أَلَمًا كَسَاهُ ضَبَابُهَا
يَنْثَالُ مِلْحُ الدَّمْعِ يُغْرِقُ سَيْحَهَا
مَا أَوْرَقَتْ مِنْ جَدْوَلَيِهِ يَبَابُهَـا

وتقول في نفس القصيدة:

سَعَفَاتُ نَخْلٍ إِذْ يُدَاعِبُهَا الهَوَى
تُسْبِي لُبَابَ العَاشِقِينَ حِرَابُهَا

وتقول في قصيدتها "مَايد":
بُوِركتِ يَا تِلكَ الدِّيارِ بِمَولِدٍ
جَادَتْ عَلَيكِ بِوهْجِهِ الأَقْدَارُ
بِقُدُومِهِ غَدَتِ البِلادُ خَمِيلةً
تَشْدُو عَلَى أَفْنَانِها الأَطْيارُ
سَقَتِ الدُّيومُ رِياضَها وَرُبُوعَها
فَتَزَاحمَتْ بِرِبيعِها الأَخْبَارُ
فَاضَتْ عَلَى قِمَمِ الجِبَالِ غَزَارةً
تَحْتَارُ مِنْ فَيضَانِها الأَنْظَارُ
فَكَأنَّما تِلْكَ السُّيولُ بِدفقِها
بَحْرٌ تَمرَّدَ وَاِنْتَشَى إِعْصَارُ

نجد في الأبيات السابقة حضورًا كثيفًا لمفردات البيئة الطبيعية مثل الدروب والرباب والضباب والملح والجداول واليباب و الخميلة والأفنان والأطيار والرياض والربوع والربيع وقمم الجبال والفيضان والسيول والبحر والإعصار، وهنا تستعين الذات الشاعرة بمفردات الطبيعة من أجل تشكيل الصورة، ويظهر تفاعلها الكبير مع بيئتها ويبدو حرصها الشديد على التغني بها، والحدب عليها وهذا ما يراه النقد البيئي من الأهمية بمكان، فـ"شيريل غلوتفيلتي" تعرِّف النقد البيئي على أنه "دراسة العلاقة بين الأدب والبيئة"

ومن هنا يظهر التشكيل الفني بوضوح عبر قصائد هذا الديوان "حينما أكون في الغياب" للشاعرة الإماراتية الشيخة فواغي القاسمي، حيث تتحقق فيه المركزية الصوتية ويظهر اهتمام الذات الشاعرة الكبير بمجاورة الألفاظ والثراء الواضح في الموسيقى ويظهر مدى تفاعلها الكبير مع بيئتها وسياقها الاجتماعي.

عايدي علي جمعة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى