الاثنين ٢٣ أيار (مايو) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

في رحيلِ العظماءِ مظفّرُ النّوّاب

هكَذا يرحلُ كبارُ الشُّعراءِ والأدباءِ والمفكِّرينَ والعلماءِ والأعلامِ في صمتٍ بعدَ أن ملؤُوا الدُّنيا ضجيجاً في حياتِهم، لكنّهم يومَ رحيلِهم لا تقومُ الدُّنيا و لا تقعُدَ، كما تنشغِلُ حينَ رحيلِ راقصةٍ أو مغنّيةٍ أو سياسيٍّ أو عسكريٍّ، فلا نسمعُ إلّا خبراً عاجلاً أو حفلاً تأبينيّاً متواضِعاً تمنُّ بهِ على التّاريخِ نقابةٌ أو صحافةٌ أو محطّةٌ إعلاميّةٌ على خجلٍ، ولا سيَما إذا كان هَذا العبقريُّ ممّن سلَّ سيفَ كلماتِه على رقابِ الطُّغاةِ، لكنّ عاصمةَ الثّقافةِ العربيّةِ والإسلاميّةِ لم تبخلْ باحتِضانِ هذا الشّاعرِ الكبيرِ في مرضِه، فها هوَ اليومَ يلفظُ أنفاسَهُ الأخيرةَ من مشفَى الجامعةِ في الشّارقةِ؛ ليرحلَ بجسدِه عنّا بعيداً، لكنّ أدبَه المتمرِّدَ يأبَى أنْ يرحلَ، فقد سكنَ أحلامَ الفقراءِ والمعذّبينَ والمضطهَدينَ في عالمٍ لا يُبالي بالأحلامِ، ولا يُقيمُ وزناً للآلامِ، ولا يحتَفي بالفِكر احتِفاءَه بالمهرّجينَ.

تعريفٌ بالشّاعرِ

مظفّرُ عبدِ المجيدِ النَّوّاب (1934 - 20 أيار/مايو 2022)، هو شاعرٌ عراقيٌّ معاصرٌ، ومعارضٌ سياسيٌّ بارزٌ، وناقدٌ بارعٌ، تعرّضَ للملاحقةِ، فسُجنَ في العراقِ، ثمّ تمكّنَ من الهربِ فعاشَ بعدَ ذلكَ في عواصمَ عديدةٍ، منها بيروتُ ودمشقُ ومدنٌ أوروبيّة أُخرى. وُصِفَ النَّوّابُ بأنّه أحدُ أشهرِ شعراءِ العراقِ في العصرِ الحديثِ. تُوفّي ظهرَ يومِ الجمعةِ في العشرينَ من شهرِ مايو -أيّار - عام 2022 في الشّارقةِ في دولةِ الإماراتِ العربيّةِ المتَّحدة.

في رحابِ شعرِه

كان مظفَّرُ النَّوّاب شاعراً ثوريّاً عبّرَ عن الهمومِ والقضَايا الوطنيَّةِ والعربيّةِ بشجاعةٍ وحماسةٍ، من خلالِ قصائدِه العامّيّةِ والفصيحةِ المؤثّرةِ التي تناولَت همومَ وطنِه العراقِ، كما تناولَت أحوالَ العالمِ العربيِّ، وقد تميَّزتْ بروحِ التَّمرُّدِ والثَّورةِ على الأنظمةِ الدِّكتاتوريّةِ الاستبدايّةِ القمعيَّةِ.

وعبّرَ الشّاعرُ عن قضَايا الفقراءِ والبسطاءِ، ودعَا إلى إقامةِ العدلِ ومناهضةِ الاستِغلالِ ومقارعةِ الاستعمارِ ومجابهةِ أنظمةِ الحكمِ الاستبداديّةِ السّائدةِ، وهذا ما عرّضَهُ للملاحقةِ داخلَ وطنِه وخارجَه، فاضطُرّ للهجرةِ والعيشِ منفيّاً في غربتِه الّتي ناهزَت نصفَ قرنٍ تقريباً.

وقد اشتُهرَ مظفّرُ النّوَّاب بقصائدِه الثَّوريّةِ القويَّةِ ونداءاتِه اللّاذعةِ ضدَّ الطُّغاةِ العربِ، وأثارَت قصائدُه مشاعرَ الجماهيرِ العربيّةِ وألهبَت حماسَهم، وغرسَت في نفوسِهم القوّةَ والشَّجاعةَ ضدَّ تلكَ الأنظمةِ القمعيَّةِ والفسادِ السّياسيِّ والظُّلمِ الاضطَهادِ، من خلالِ لغةٍ شديدةِ القسْوةِ، مستخدماً ألفاظاً نابيةً بين الحينِ والآخرِ، وهذا ما دفعَ بالأنظمةِ الاستبداديّةِ إلى مطاردتِه.

وهَا أنا أقتطِفُ أبياتاً من قصائدِه المتنوّعةِ الّتي ترسمُ معاناتَه في ملاحقتِه بسببِ قصائدِه الجريئةِ في كشفِ عوراتِ هؤلاءِ الحكّامِ الطُّغاةِ الخونةِ المهزومينَ، فهو غيرُ مرغوبٍ، تلاحقُه أزلامُ المخابراتِ ورجالُ الأمنِ في كلِّ زاويةٍ وركنٍ وتطاردُ قصائدَه ورسائلَه، حتى لا يكادُ يأمنُ الهواتفَ والجدرانَ والأطفالَ:

في كلِّ عواصمِ هذا الوطنِ العربيِّ قتلْتُم فَرَحي
في كلِّ زقاقٍ أجدُ الأزلامَ أمَامِي
أصبحْتُ أُحاذرُ حتّى الهاتفَ
حتّى الحيطانَ وحتّى الأطفالَ
وفي بلدٍ عربيٍّ كان مجرّدُ مكتوبٍ مِن أمّي
يتأخَّرُ في أروِقةِ الدّولةِ شهرينِ قمريّينِ
تعَالَوا نتحاكمْ قدّامَ الصّحراءِ العربيَّةِ كي تَحكُمَ فيْنا
أعترفُ الآنَ أمامَ الصَّحراءِ بأنّي مُبتذَلٌ وبذيءٌ كهزيمتِكُم، يا شُرفاءَ المهزومينَ

وتثورُ ثائرةُ الشّاعرِ على هؤلاءِ الحكّامِ الّذين تاجرُوا بالدّمِ العربيِّ وبقضيّةِ العربِ الكُبرى فلسطينَ، فهُم من باعَ فلسطينَ، وهم من يتاجرُون بالدّمِ العربيّ ويدَّعُون الشّرفَ، وليسُوا سوى تجّارٍ وكسَبةٍ لا تهمُّهم إلّا عروشُهم وكروشُهم، ولا يهمُّهم شرفُ فلسطينَ الّتي يشبِّهُها بالعذراءِ الّتي اغتصبَها زناةُ اللّيلِ، فلم يستلَّ هؤلاءِ الحكّامُ الخونةُ خناجرَهم إلّا من أجلِ إسكاتِ صوتِ الشّريفةِ الطّاهرةِ المغتَصبةِ الّتي تستغيثُ، فلم يبقَ من رجولتِهم إلّا إسكاتُ الضّحيّةُ صوناً للعِرضِ وخشيةَ الفضيحةِ:

أقسمتُ بتاريخِ الجوعِ ويومِ السَّغَبة
لن يبقَى عربيٌّ واحدٌ إن بقيَتْ حالتُنا هذِي الحالةَ
بينَ حكوماتِ الكَسَبَة
القُدسُ عروسُ عروبتِكم
فلمَاذا أدخلْتُم كلَّ زناةِ اللّيلِ إلى حجْرتِها؟؟
وسحبْتُم كلَّ خنَاجِرِكُم
وتنافخْتُم شرَفاً
وصرخْتُم فيها أنْ تسكُتَ صوناً للعِرضِ
فمَا أشرفَكُم
أولادَ القحبةِ هل تسكُتُ مُغتَصَبة؟

وها هوَ يُلهِبُ حماسَ الجماهيرِ العربيّةِ الّتي رانَ علَيها الذّلُّ والهوانُ وهي تصفِّقُ منَوَّمةً مخدَّرةَ العقولِ والمشاعرِ لأنظمةٍ واهيةٍ ليسَ لها حولٌ ولا قوّةٌ إلّا على شعوبِها المقهورةِ، فيدعُوها إلى التّمرُّدِ والثّورةِ والغضبِ؛ لتزلزلَ الأرضَ تحتَ أقدامِهم؛ فهُم لا يحكمُون إلّا البغَايا بأفواهِهم، ليسَ للشّريفِ فيهم إلّا شهامةٌ مزعومةٌ مسلوبةٌ، فهؤلاءِ أجدرُ بركْلِ الأقْدامِ، والشُّعوبُ قوّةٌ ضاربةٌ تهزُّ الأرضَ والأركانَ، وتصنعُ تاريخَ الأزمانِ:

أيُّها الجمْعُ صَهْ
لا تصفِّقْ لأنظمةٍ غائِبَة
ما لها تتثاءَبُ هذِي الجماهيرُ
تهتِفُ وهي منَوَّمَة
زلزلي.. واكفهِرّي... واكفهِرّي...
اكفهرّي يا أجملَ من أمّةٍ غاضِبَة
امسحِيهم فهُم حاكمُون بغَايا بأفواهِهم
والشّريفُ الشّريفُ شهامتُه سالِبَة
اركليهِم فأقدارُهم يُركلُون... وأقدارُنا القوَّةُ الضَّاربَة...
همسَاتُ الوداعِ
وداعاً لجسدِك الطّاهرِ أيُّها الشَّاعرُ والأديبُ الثّائر..

وداعاً لجسدِك الطّاهرِ الّذي غيّبتْه يدُ المنونِ، وهذهِ سنَّةُ الكونِ أيُّها السَّيفُ المظفَّرُ، فارحلْ ولا تحزَنْ، فخلفَكَ ألفُ سيفٍ يحملُ همومَ سيفِكَ الّذي تكَسَّر.

لإنْ رحلْتَ بقامتِكَ الشّامخةِ عنِ الدُّنيا، فروحُكَ وفكرُكَ وكلماتُكَ أوابدُ لا تُنْسى..

لإنْ رحلْتَ بجسدِكَ، فأنتَ مغروسٌ في أعماقِ نفوسِنا شموعاً تتلألأُ صباحَ مساءَ، فلا تَحزنْ أيُّها الفارسُ المترجِّلُ عن صهوةِ الشِّعرِ ومملكةِ المراجلِ!

لا تحزنْ أيُّها المظفَّرُ.. فأنتَ أسطورةٌ لن تموتَ مادامَ في الأمّةِ عباقرةٌ يحملُون فكرَكَ وشجاعتَكَ وعزيمتَكَ وتحدّيكَ..

اندثرَتْ أجسادُ العظماءِ من قبلِكَ في كلِّ أرجاءِ المعمُورةِ، لكنّهم مازالُوا يتربَّعُون عروشَ الفكرِ والحضارةِ والمجدِ والسُّؤددِ تماثيلَ عزٍّ وفخارٍ ، ومازالَت أفكارُهم تراتيلَ تردِّدُها الأجيالُ جيلاً بعدَ جيلٍ.

ماتَ عباقرةُ العالمِ شرقاً وغرباً.. ومازالَت أصواتُهم تصدحُ في أفكارِنا وأرواحِنا ووجدانِنا وكأنّهم أحياءٌ نستمدُّ منهم حرّيّةَ الحياةِ وكرامةَ الإنسانِ وعظمةَ الفكرِ..

قضَى جميعُ العباقرةِ قبلَكَ نحبَهم، لكنَّهم خالدُون في الذّكْرِ والذَّاكرةِ، في الفكرِ والمفكِّرةِ..

ماتَ الشَّاعرُ الفرنسيُّ الكبيرُ فيكتور هوغو الّذي عاشَ في المنْفَى مثلَكَ بسببِ مناهضتِه للاستبدادِ.. وما زالَت أعمالُه وأفكارُه تعيشُ في عقولِ البشريَّةِ؛ وكأنّه مازالَ حيّاً لم يمُتْ! وماتَ نابليونُ وألفُ نابليونَ وكأنَّهم قصّةٌ من قصصِ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ!

وماتَ الأديبُ الرُّوسيُّ الكبيرُ دوستويفسكي الّذي عاشَ منفيّاً مثلَكَ بسببِ مناهضتِه للحكمِ القيصريِّ الطَّاغي، وحُكمَ عليهِ بالإعدامِ مثلَكَ، لكنَّ مشيئةَ اللهِ أنقذَتْه من حبلِ المشنقةِ كمَا أنقذَتْكَ.. وذهبَ القياصرةُ أدراجَ الرّياحِ نسيّاً منسيَّاً، وسيذهبٌ جميعُ قياصرتِكَ هباءً منثوراً في مزابلِ التّاريخِ.. فتظلُّ كمَا دوستويفسكي فكراً يُنيرُ دروبَ التّائهينَ، وعلَماً يرفرفُ في سماءِ الدُّنيا؛ ليَهديَ الضّالّينَ والجبناءَ الخانعينَ!

ماتَ الأديبُ الرّوسيُّ الكبيرُ تولستوي الّذي ناهضَ الفكرينِ الدّينيَّ والسّياسيَّ الطّاغيينِ، فسقطَ الطُّغاةُ الّذين ركلَهُم التَّاريخُ بأرجُلِه وأصبحُوا أثراً بعدَ عينٍ، وها هوَ تولستوي مازالَ حيّاً في قلوبِ الفقراءِ والبائسينَ، ومازالَ نبراساً يقتَدي بقدوتِه الضّائعُون في شتاتِ الرّفاهيةِ الخادعةِ الّتي ليسَ لها أثرٌ في سعادةِ الدُّنيا، وإنّما هي مقبرةُ التَّعاسةِ والشَّقاءِ.. وماتَت أفكارُ الكهنوتيّينَ، واندثرَتْ أحلامُ القياصرةِ، وها هيَ أفكارُ تولستوي إنجيلٌ جديدٌ وفلسفةٌ لحُكمِ العالمِ لا تموتُ!

ماتَ شاعرُ المرأةِ والسّياسةِ وعبقريُّ الكلمةِ الحرّةِ نزار قبّاني وانحلَّ جسدُه في التُّرابِ، لكنّ فكرَه وشعرَهُ مازالَ إكسيراً يتجدَّدُ به الفِكرُ، وتسمُو به القصيدةُ.. سقطَ الطُّغاةُ كما تسقُطُ الدِّيَكةُ في المزابلِ، وها هوَ نزارُ مازالَ ديكاً تترنَّمُ بأغنياتِه كلُّ دجاجاتِ العالمِ.. وسقطَتْ عروشُ قياصرةِ العربِ الطّاغيةِ، وها هو عرشُ نزار قبّاني يتربَّعُ ميادينَ العروشِ غزلاً وحِكَماً، وحُكْماً وسيادةً وقوّةً وكبرياءَ وشموخاً وعزّةً وإباءً وخلوداً!

لإنْ غيَّبَتكَ المنونُ أيُّها المظفَّرُ من مسرحِ الحياةِ.. ففكرُك وشعرُكَ هما المسرحُ بشخوصِه وأدوارِه وأحداثِه ومشاهدِه ومُشاهدِيهِ.. إلى جنّةِ الخُلدِ أبا عادلٍ إن شاءَ اللهُ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى