الاثنين ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

في فضاءِ الفكْر- السّعادةُ والشّقاءُ

يختلفُ مفهومُ السّعادةِ والشّقاءِ باختلافِ المجالِ الفكريِّ والآراءِ والتَّوجُّهاتِ، فنجدُ مفاهيمَ عديدةً تختلفُ بينَ اللُّغةِ والفلسفةِ وعلمِ النَّفسِ والاجتماعِ والدّينِ وغيرِها من مجالاتِ الفكرِ والمعرفةِ والعلُومِ.

ففي اللّغةِ: وردَتْ كلمةُ السّعادةِ؛ لتدلَّ على حالةِ ارتياحٍ تامٍّ وشُعورٍ داخليٍّ عميقٍ بالرِّضَا والقَناعةِ والسُّرورِ والاِنْبِساطِ، وقيلَ هي طِيْبُ النَّفسِ وصلاحُ الحالِ. وفي المُعجمِ الوسيطِ هي إعانةُ اللهِ للإنسانِ على نيلِ الخيرِ، وهي نقيضُ الشّقاءِ.

وفي الفلسفةِ: اختلفَ تعريفُ الفلاسفةِ القدماءِ لها باختلافِ آرائِهم ونظريَّاتِهم وتوجُّهاتِهم.

فقد عرّفَ أرسطُو السَّعادةَ بأنّها هبةٌ منَ اللهِ، وقسّمَها إلى أنواعٍ، منها: الصّحَّةُ البدنيَّةُ، وامتلاكُ الثّروةِ وحسنُ تدبيرِها واستثمارِها، وتحقيقُ الأهدافِ والنَّجاحُ، وسلامةُ العقلِ والعقيدةِ، والسُّمعةُ الحسنةُ والسّيرةُ الطَّيِّبةُ بينَ النَّاسِ.

أمّا أفلاطُون فإنّه يَرى السَّعادةَ في فضائلِ الأخلاقِ والنَّفسِ؛ كالحكمةِ والشَّجاعةِ والعدالةِ والعِفَّةِ، ولكنَّ سعادةَ الفردِ لا تكتمِلُ إلّا بمآلِ روحِه إلى العالمِ الآخرِ.

وفي علمِ النَّفسِ: فقد تمَّ تعريفُ السَّعادةِ من الجانبِ الانفعاليِّ على أنّها الإحساسُ باعتدالِ المزاجِ والحالةِ النَّفسيَّةِ، ومن الجانبِ التَّأمُّليِّ المعرفيِّ هي تحقيقُ مرحلةِ الشُّعورِ بالرِّضا.

وفي علمِ الاجتماعِ: السّعادةُ هي المشاعرُ الإيجابيّةُ النّاتجةُ عن العلاقاتِ الاجتماعيّةِ الطّيّبةِ كالزّواجِ، والأصدقاءِ، والإخوةِ، وزملاءِ العملِ، والجيرانِ وغيرِها.

ولكنَّ السّعادةَ الحقيقيّةَ تنبعُ من أعماقِ الإنسانِ، وهي قرارٌ يتّخذُهُ الإنسانُ بإراداتِه ورغبتِه، فإذا عزمَ الإنسانُ على أن يكونَ سعيداً سيجدُ نفسَه مسروراً بأبسطِ الأشياءِ وأصغرِها، حينَما ينظرُ إليها بعينِ الرِّضا والحُبِّ، لا السّخطِ والكرهِ، وسيدفعُ عنهُ كلَّ ما يُنغّصُ عليه سرورَه وحبورَه؛ فبالرَّغمِ من كثرةِ الهمومِ والمتاعبِ من حولِه، إلّا أنّه يستطيعُ أن يمنعَها من التّأثيرِ في عقلِه ونفسِه باتّخاذ القرارِ المناسبِ الّذي يمنحُهُ الرّاحةَ والسّعادةَ، على نحوِ قولِ الإمامِ الشَّافعيّ:

وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ
وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَساوِيا

وأمّا مفهومُ الشّقاءِ: فهو نقيضُ السّعادةِ وفي معجمِ المعاني الجامعِ، مصدرُ شقِيَ يشْقَى، ومعْناهُ: العُسْرُ والتَّعَبُ والشِّدَّةُ والمِحْنَةُ، والضَّلالُ والكفرُ والهلاكُ، وهو يتناولُ الأمورَ الدّينيّةَ، والدُّنيويَّةَ. ومن ذلكَ قولُه تعالَى (فَقُلْنَا يَٰٓـَٔادَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰٓ) طه 117، وجاءَ في الحديثِ الشَّريفِ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ البَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ." البخاري :6347.

وفي مفهومِ الفلسفةِ فإنَّ الشَّقاءَ هو الألمُ وكلُّ ما يقفُ عقبةً في تحقيقِ الرّضا، أي أنّ كلَّ ما يُحقّقُ اللّذّةَ والرّضا فهو سعادةٌ، وكلَّ ما يَجلبُ الألمَ والسّخْطَ فهو شقاءٌ.

وها أنا أستعرِضُ بعضاً من الأقوالِ المشهورةِ في مفهومِ السَّعادةِ والشَّقاءِ؛ بما يؤكّدُ اختلافَ تعريفِهما بينَ المفكِّرٍ ينَ والأدباءِ والفلاسفةِ والفُقهاءِ.

يرى الأديبُ والمفكِّرُ الإيرلنديُّ جورج برناردشو أنّ الإنسانَ سيظلُّ باحثاً عن السّعادةِ وتنتابُه التَّساؤلاتُ بين الحينِ والآخرِ فيمَا إذا كان سعيداً أمْ لا، حتّى ولو امتلكَ المالَ وتمتَّعَ بالصّحّةِ: "حتّى إذا امتلكَ الإنسانُ المالَ وتمتّعَ بالصّحّةِ، لن يتوقّفَ عن التّساؤلِ: إن كانَ سعيداً أمْ لا؟".

ويرى الكاتبُ الإنكليزيُّ الكبيرُ تشارلز ديكنز أنّ السّعادةَ والرّضا أدواتُ تجميلٍ خادعةٌ للحفاظِ على مظهرِ الشَّبابِ، فمعظمُ مَن يدّعون السّعادةَ والرّضا هُم في الحقيقةِ على النّقيضِ ممّا يدّعون: "السّعادةُ والرّضا أدواتُ تجميلٍ عظيمةٌ، وأدواتٌ خادعةٌ لحفظِ مظهرِ الشّبابِ".

لكنَّ أديبَنا العربيَّ المشهورَ نجيبَ محفوظ يَرى أنّ السّعادةَ محجوبةٌ عن أعينِ النّاسِ على الرّغمِ من شغفِهم بها، وهي كامنةٌ في أعماقِ النّفسِ تحجبُها عنّا ظلماتُ فكرِنا، فهي كالقمرِ الّذي تحجبُه عن أبصارِنا غيومُ الشّتاءِ: "الجميعُ شغوفُون بالسّعادةِ، ولكنّها كالقمرِ المحجوبِ وراءَ سحبِ الشِّتاءِ".

ولكنّ السّعادةَ في الحقيقةِ تنبعُ من أعماقِ ذواتِنا ومن خلالِ إحساسِنا بها، فهي عيدٌ غيرُ ثابتِ التّاريخِ كأعيادِنا المشهُورةِ، وفي هذا تأكيدٌ على أهمّيّةِ الشّعورِ بالسّعادةِ، ولن يكونَ الإنسانُ سعيداً حتّى في أيّامِ أعيادِه ما لمْ تتدفَّقْ ابتهالاتُ البهجةِ والحُبورِ من أعماقِ نفسِه ليُعبّرَ عن نشوتِه ومشاركتِها الآخرينَ من حولِه. من ذلكَ قولُ الأديبِ الأمريكيّ أرنست همنغواي: "السَّعادةُ عيدٌ غيرُ ثابتِ التّاريخ".

ومصادرُ السّعادةِ متعدِّدةٌ، لكنَّ النّاسَ يخلطُون بين مصادرِها الحقيقيّةِ ومنابِعِها الوهميَّةِ، وقد تكونُ السّعادةُ وليدةَ أهدافٍ وطموحاتٍ وسلوكيّاتٍ نبيلةٍ، وقد تكونُ السَّعادةُ هي المنبعَ الحقيقيَّ لها، من ذلكَ ما نراهُ في قولِ المفكّرِ العربيّ إبراهيمَ الفقي: "يظنُّ النّاسُ أنّ الشّعورَ بالسّعادةِ هو نتيجةُ النّجاحِ، ولكنّ العكسَ هو الصّحيحُ.. النّجاحُ هو نتيجةُ الشّعورِ بالسَّعادةِ".

كما يظنُّ الكثيرُ من النّاسِ أنَّ السّعادةَ تتحقَّقُ من خلالِ تلبيةِ رغباتِهم، ولكنَّ السّعادةَ الحقيقيَّةَ تكمنُ في التّضحيةِ من أجلِ هدفٍ إنسانيٍّ سامٍ، كما في قولِ الكاتبةِ الأمريكيّةِ هيلين كيلر: "كثيرٌ من النّاسِ لديهم فكرةٌ خاطئةٌ عن السّعادةِ الّتي لا تتحقّقُ من خلالِ تلبيةِ الرّغباتِ، ولكنْ بالتّضحيةِ من أجلِ هدفٍ نبيلٍ".

ومن مصادرِ السّعادةِ الحقيقيّةِ في حياةِ الإنسانِ وضوحُ الغايةِ والهدفِ، ولذلكَ نرى أنّ المؤمنينَ الحقيقيّين بعظمةِ الخالقِ عزّ وجلَّ الّذينَ يقومونُ بالأعمالِ الصّالحةِ الخيّرةِ سعداءُ تغمرُ أرواحَهم نشوةُ الإيمانِ ولا يُبالونَ بعرضِ الدُّنيا، لأنّ سعادتَهم الحقيقيّةَ في عبادتِهم وإيمانِهم الرّاسخِ وقناعتِهم التّامّةِ بأنّ الحياةَ ما هيَ إلّا مرحلةُ عبورٍ إلى دارِ القرارِ والنّعيمِ، ففي وضوحِ رؤيتِهم تتجلّى سعادةُ الإيمانِ وطمأنينةُ النّفسِ، كمَا قالَ تعَالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وهذهِ السّعادةُ تنبعُ كذلكَ من وضوحِ أهدافِنا في الحياةِ كمَن يمتَطي البحرَ في نزهةٍ إلى جهةٍ محدَّدةِ الموقعِ والمعالمِ الجغرافيّةِ والسّياحيّةِ، أو كمَن يبحثُ عن كنزٍ وقد عرفَ موطنَه، فتراهُ في نشوةِ السَّعادةِ بالرّغمِ من أنّ المعولَ قد أنهكَ قواهُ في الحفرِ والتّنقيبِ للوصولِ إلى هدفِه، وهذا ما عبّرَ عنهُ الشّاعرُ الألمانيُّ الكبيرُ غوته بقولِه: "وضوحُ الغايةِ عندَ الإنسانِ يسبّبُ له الاطمِئنانَ ويؤدّي إلى السّعادةِ".

وقد يَحْظى الإنسانُ بساعاتٍ من السّعادةِ والانتشاءِ الرّوحيِّ بعيداً عن الحياةِ المادّيّةِ المشُوبةِ بالتّعاسةِ، فيَحْيا بنفسِه حياةً أجملَ وأكملَ، وتنتَشي روحُه بمشاعرَ لم تذُقْها نفسُه من قبلُ، ويعجزُ لسانُه عن وصفِها، وتغمرُ ذاتَه لذّةٌ لا يعرفُ ما هيَ، فهو يعيشُ لحظاتٍ وكأنّه في عالمٍ من السّحرِ ينفثُ فيه هاروتُ سحْراً، ولعلّ من أهمِّ هذهِ اللّحظاتِ السّاحرةِ تلكَ الّتي نحْياها في غمرةِ التّأمّلِ النَّفسيِّ، وفي نشوةِ الاستِماعِ إلى الموسيقَا، وفي لذّةِ خفقاتِ القلبِ بالحبِّ، وفي هُنيهاتِ الاستغراقِ في العبادةِ والتَّبتُّلِ والمناجاةِ، فها هو الأديبُ والمفكّرُ الإسلاميُّ الكبيرُ عليّ الطّنطاويّ يصفُ تلكَ اللّحظاتِ خيرَ وصفٍ قائلاً: "تمرُّ على الإنسانِ ساعاتٌ بل لحظاتٌ ينْسى فيها هذا العالمَ المادّيَّ وهذهِ الحياةَ النّاقصةَ، ويُحسُّ كأنّه يعيشُ بنفسِه حياةً أكملَ وأجملَ، تُخالطُ نفسَه مشاعرُ لا عهدَ لهُ بها، ولا يَقْدرُ على وصفِها، وتغمرُ قلبَه لذَّةٌ لا يعرفُ أيَّ شيءٍ هي، فيشعرُ أنّه انتقلَ إلى عالمٍ سحريٍّ جنيٍّ عجيبٍ، كهذهِ اللّحظاتِ الّتي تمرُّ عليْنا في غمرةِ التَّأمّلِ النَّفسيِّ، أو في هزّةِ الموسيقَى، أو في نشوةِ الحبِّ، أو حينَ الاستغراقِ في العبادةِ والمناجاةِ".

وللسّعادةِ الحقيقيّةِ مفاتيحُ إذا امتلكَها الأفرادُ والجماهيرُ والحكوماتُ، وصلُوا إلى مكامنِها، فهي ثمرةُ الأخلاقِ العظيمةِ الّتي تُحصِّنُ الفردَ والمجتمعَ من كلِّ ما يُنغّصُ نقاءَهما من أوبئةِ الفسادِ والانحلالِ، ويأتي العلمُ والكفاءةُ في المقامِ الثّاني بعدَ الأخلاقِ في قطفِ ثمراتِ السّعادةِ، ويُخْطئُ مَن يظنُّ أنّ العلمَ الّذي بُنيَ على رقيِّ الإنسانِ وفكرِه وحضارتِه هو مصدرُ شقاءٍ وتعاسةٍ، ولكنَّ الحقيقةَ أنّ الجهلَ هو منبعُ الشَّقاوةِ والعذابِ، وهذا ما عبّر عنهُ المفكّرُ الإسلاميُّ مصطفى السِّباعي بقولِه: "الأخلاقُ أوّلاً ثمَّ العلمُ والكفاءةُ، هذا هو مفتاحُ السّعادةِ للأفرادِ والحكوماتِ والجماهيرِ".

فإنْ امتلكَ المرءُ خصالَ الأخلاقِ الحميدةِ في نفسِه وسلوكِه، باتَ سعيداً مطمئنَّ البالِ مرتاحَ الضّميرِ وهو يَسْعى إلى كسبِ رزقِه بعرقِ جبينِه بكلِّ أمانةٍ وشرفٍ، وفي هذا خيرُ دليلٍ ما قالَه الأديبُ الكبيرُ مصطفى لُطفي المنفلوطيّ: "حسْبُكَ من السَّعادةِ في هذهِ الدُّنيا: ضميرٌ نقيٌّ ونفسٌ هادئةٌ وقلبٌ شريفٌ وأن تعملَ بيديكَ".

ومن مصادرِ سعادةِ الإنسانِ في حياتِه الرِّفقُ والتّأنّي، ففي العجلةِ التَّخبُّطُ والنَّدامةُ فالشَّقاءُ، وفي التّأنّي الطُّمأنينةُ والسّلامةُ فالهناءُ، وبالصّبرِ والأناةِ تتحقَّقُ الطُّموحاتُ وتُثمرُ الأهدافُ، فيُولدُ النَّجاحُ، وترفرفُ بيارقُ السّعادةِ، على نحوِ ما نراهُ في قولِ الإمامِ عليّ بن أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه:

الرِّفقُ يُمْنٌ والأناةُ سعادةٌ
فتأَنَّ في أمـــــــــــرٍ تُلاقِ نجَــاحَا

فلا تُتعِبْ نفسَك لاهثاً وأنتَ تَجريْ خلفَ السَّعادةِ؛ لأنّ السّعادةَ ستُرفرفُ بجناحَيها في ذاتِك إنْ كنتَ تعيشُ في أناةٍ ورويَّةٍ تتجلّى فيها طمأنينةُ النّفسِ، وتتولّدُ من رحمِها شرانقُ السّعادةِ، فالسّعادةُ مثلَ فراشةٍ لن تستطيعَ الإمساكَ بها مهْما لاحقْتَها، ولكنّها ستحطُّ على كتِفيكَ وأنتَ في طمأنينةِ الهدوءِ، كمَا في قولِ الكاتبِ الرّوائيِّ الأمريكيِّ ناثانيال هاوثورن: "السّعادةُ مثلَ الفراشةِ، في حالِ ﻻحقْتَها، فلنْ تُمسِكَ بها، ولكنْ إن كنتَ هادئاً ستأْتي وتحطُّ على كتفيكَ".

والآنَ أحلِّلُ ما اشتُهرَ على أقلامِ الأدباءِ والمفكّرينَ والفلاسفةِ والفقهاءِ من أقوالٍ في مفهومِ الشَّقاءِ وأسبابِه؛ لأصلَ من ذلكَ إلى رؤيةٍ واضحةٍ تعكسُ حقيقةَ الشّقاءِ، وتضعُ تحتَ المجهرِ الأيديَ الّتي تلوِّثُ نقاءَ الحياةِ بخلقِ التَّعاسةِ؛ نتيجةَ بؤسِهم النَّفسيِّ الّذي يُواري في أعماقِهم جهلاً ووهْماً، أو حقداً وبغضاً، أو طمعاً واستئثاراً، أو استعلاءً وغطرسةً، أو عنجهيّةً وتجبُّراً وطغياناً..

ومن المأثوراتِ المشهورةِ الّتي تبعثُ على الأملِ وولادةِ السَّعادةِ من رحمِ الشّقاءِ قولُهم: ما بعدَ الضّيقِ إلّا الفرجُ، وما بعدَ اليأسِ إلّا تجدُّدُ الأملِ، هذهِ سنَّةُ الحياةِ، إن جاهدْنا وصبرْنا وسعَيْنا، ولم نستسلِمْ للأوهامِ ونوازلِ الأيّامِ. من ذلكَ ما نراهُ في قولِ الفيلسوفِ والمؤرّخِ البريطانيِّ برتراند راسل: " أقْصى الآمالِ تولَدُ من أقْصى الشَّقاءِ". ومنهُ قولُ الشّاعرِ الأندلسيِّ المعتمدِ بنِ عبّادَ (ثالثُ وآخرُ ملوكِ بني عبَّادٍ على إشبيليّةَ):

لا بُدَّ مِـــن فــرَجٍ قَــريبْ
يأتيكَ بالعجَبِ العَجِيبْ
ويقولُ الإمامُ الشّافعيُّ رحمهُ الله:

وَلَــرُبَّ نازِلَــةٍ يَضــيقُ لَهــا الفَتى
ذَرعـــاً وَعِنــدَ اللَهِ مِنها المَخْـــرَجُ
ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَتْ حَلَقاتُها
فُرِجَــتْ وَكُنْــــتُ أَظُنُّها لا تُفْــــرَجُ

ومن أجملِ ما قيلَ في انفراجِ الشِّدّةِ والضّيقِ والشّقاءِ ما قالَه الإمامُ الأندلسيُّ الزّاهدُ الشَّهيرُ محيي الدّينِ بنِ عربيّ:
إذَا يَضــيقُ بِنــــا أمـــرٌ ليُزعِجَــنا
نَصــبرُ فإنَّ انتهاءَ الضِّــيقِ يَنْفــرجُ
بــذاكَ خــالقُـــنا الــرَّحمنُ عـوَّدَنا
في كلِّ ضيقٍ لهُ قـــدْ شــاءَهُ فــرَجُ
ألَا ترى الأرضَ عن أزهارِهَا انفرَجَتْ
كمَـــا السَّــماءُ لهَـــا في ذاتِها فـــرَجُ

أمّا أسبابُ التّعاسةِ والشَّقاءِ فعديدةٌ ومتنوِّعةٌ، منها ما تسبِّبُه المحنُ ونوازلُ الدَّهرِ، ومنها ما يصنعُه شياطينُ الإنسِ بطمعِهم وأنانيَّتِهم وطغيانِهم وبشاعةِ جرائمِهم وانتهاكاتِهم وقسوةِ نفوسِهم وخلوِّ قلوبِهم من الإنسانيَّةِ والرّحمةِ، ومنها ما يكونُ سببُها هو الإنسانُ نفسُه الّذي يضيقُ ذرعاً بالحياةِ ولا يَني منِ الشَّكْوى والتأفُّفِ والضَّجرِ ورميِ الظّروفِ والآخرينَ بالاتّهاماتِ، وهم قادرونَ على قلبِ التّعاسةِ إلى سعادةٍ، لو أنّهم أدركُوا نعمَ اللهِ، وركنُوا إلى صِلتِهم بربِّ السّماءِ، وأطاعُوا تعاليمَ الهدايةِ الّتي تغرسُ في النُّفوسِ بذورَ الرّاحةِ والسّعادةِ، وتجتثُّ من أعماقِها أشواكَ التَّعاسةِ والشَّقاءِ.

ولعلَّ أجملَ ما وقعَ فكْري عليهِ من مطالعاتٍ في أسبابِ شقاءِ البشرِ فيما يتحدّثُ عنهُ النّاسُ ما قالهُ فضيلةُ الشَّيخِ الدّكتور أحمدُ الشّرباصيّ الأستاذُ بجامعةِ الأزهرِ رحمَه اللهُ، وإليكمْ ملخَّصَ هذهِ الأسبابِ بتصرُّفٍ شديدٍ وعنايةٍ بجوهرِ الأفكارِ:

أوّلاً: ضعفُ الإيمانِ والصّلةِ بين العبدِ وربِّه، وشحُّ التّوكُّلِ عليهِ، وقلّةُ الثّقةِ به، وانقطاعُ الوشائجِ الرّوحيّةِ بين الإنسانِ وخالقِه. يقولُ تباركَ وتعَالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطّلاق: 2 ـ3).

ثانياً: الوهمُ الكاذبُ المسيطرُ على عقولِ النّاسِ وأرواحِهم من خلالِ التّفكيرِ في المستقبلِ والبحثِ في الغيبيّاتِ، ونسيانِ ما هُم عليهِ من نعمٍ في حاضرِهم، فلا هُم انتفعُوا بما في أيديْهم، ولا هُم استطاعُوا اختراقَ حجُبِ الغيبِ، فعاشُوا في بهتانٍ وتعاسةٍ وشقاءٍ.

ثالثاً: محاولةُ تطهيرِ الدُّنيا من الشّرِّ نهائيّاً، مع أنّ ذلكَ غير مُمكنٍ، وقد فطرَ اللهُ الكونَ على نظامٍ دقيقٍ يقومُ على الصِّراعِ بين المتناقضاتِ كالخيرِ والشّرِّ والنِّعمةِ والنِّقمةِ.. وذلك حتّى يَجزيَ الّذين أساؤُوا بما عمِلُوا، ويَجزي الّذين أحسنُوا بالحُسْنى، فلو أنَّ الإنسانَ استمتعَ بالنّعمةِ وحدَها، وكفَرَ عندَ الابتلاءِ، لاستوجبَ لنفسِه الشَّقاءَ: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7).

رابعاً: الضّيقُ السّريعُ عندَ الأزماتِ الخفيفةِ وعدمُ علاجِها بسرعةٍ، فتتراكمُ عليهِ وتُثقلُ كاهلَه، فلا يستطيعُ الخلاصَ منها، وقد كانَ سلَفُنا الصّالحُ في أوقاتِ الشّدَّةِ يهتفُون: " غَمَراتٌ ثُمَّ يَنْجَلِينَ" أيْ تأتي الشَّدائدُ فنلقَاها ونصبرُ لها، ونعملُ على التّخلُّصِ منها، حتّى تزولَ وتنْجلي.

خامساً: سرعةُ اليأسِ، وهذا أخطرُ داءٍ يُصابُ به الإنسانُ في الحياةِ؛ لأنّه لا حياةَ مع اليأسِ، ولا يأسَ مع الحياةِ. قال تعَالى: (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (الزّمر:53).

سادساً: عدمُ تذكُّرِ نعمِ اللهِ عندَ المتاعبِ القليلةِ، ولو تذكّرَ الإنسانُ هذهِ النّعمَ حينذاكَ لهانَتْ عليهِ تلكَ المتاعبُ، قال تعَالى: ﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم: 34)، ولكنَّ الإنسانَ طمّاعٌ لا يملأُ عينَه إلّا التُّرابُ، فالإنسانُ بجشعِه يصنعُ الشّقاءَ لنفسِه، ولو آمنَ المرءُ بربِّه، واعتمدَ عليهِ، وبذلَ جهدَه، واحتملَ ما يُساقُ إليهِ، وتطلَّعَ إلى الوجودِ بعينِ الأملِ والرّجاءِ، لعاشَ عِيشةَ السُّعداءِ.

وثمّةَ آراءٌ أُخرى نجدُها في ثنايا أقوالِ المفكّرينَ تعلّلُ أسبابَ الشّقاءَ الإنسانيِّ على نحوٍ يُقْنعُ الفكرَ، ويضعُ الحقائقَ ناصعةً أمامَ أشعّةِ الشّمسِ، من ذلكَ ما نراهُ في قولِ الأديبِ والمفكّرِ والفيلسوفِ المهجريِّ ميخائيلَ نعيمةَ، إذ يرى أنَّ شقاءَ البشرِ في علاقاتِهم المادّيّةِ القائمةِ على المتاجرةِ، على نقيضِ العلاقاتِ الإنسانيّةِ القائمةِ على فضائلِ الأخلاقِ: "في البيعِ والشِّراءِ شقاءُ البشرِ. وفي الأخذِ والعطاءِ مفتاحُ الخلاصِ".
ومن أهمِّ أسبابِ الشَّقاءِ الإنسانيِّ هو عدمُ التَّناسبِ بينَ قدراتِ الإنسانِ وبينَ رغباتِه وطموحاتِه، على نحوِ ما عبَّر عنهُ الكاتبُ الصَّحفيُّ المصريُّ عبدُ الوهَّاب مُطاوع.

وكذلكَ فإنّ الكراهيةَ بين النّاسِ تبعثُ على الشَّقاءِ، كما نرى في قولِ الشّاعرِ الإنكليزيِّ جُون كيتس: "الحبُّ استمراريَّةٌ ونقاءٌ، والكراهيةُ موتٌ وشقاءٌ".

ولا ننْسى هؤلاءِ الحَمْقى الّذين يشوّهُون جمالَ الحياةِ بنشرِ الشَّقاءِ في حنايَاها من خلالِ أفعالِهم ومرامِيهم السَّوداءِ، كما يرى الكاتبُ المغربيُّ الطّاهرُ بن جلون: "الحياةُ جميلةٌ وإنْ كان كثيرٌ من الحمْقَى يستعجِلُون رمْيَها بالشّقاءِ، ونَشرَهُ في حناياها".

وتظلُّ المعاصِي من أهمِّ أسبابِ الشَّقاءِ الإنسانيِّ، وواهِمٌ مَن يظنُّ أنّ هؤلاءِ العُصاةَ في سعادةٍ، وإنّما هُم في ضَنْكٍ وشقاءٍ، على نحوِ ما عبّر عنهُ الأستاذُ محمّد مصطفى عبدِ المجيد: "ما أشْقى أهلَ المعاصي حينَما يحسبُهم أناسٌ أنّهم في سعادةٍ، وهم إنْ أطلعُوك على خبايا صدورِهم عرفْتَ أنّ من الشّقاءِ والضّنكِ ما لا يُمكنُ وصفُه بكلامِ البشرِ".

ختاماً أقولُ: إنّ السّعادةَ والشّقاءَ من ثنائيّاتِ التّناقضِ في الحياةِ لا يُمكنُ أن يمحُوَ أحدُهما الآخرَ، وكلُّ ما نراهُ في عالمِنا اليومَ من شقاءٍ هو منْ صنائعِ البشريّةِ الخَرقاءِ من أراذلِ النّاسِ والحمْقى والمغفَّلينَ والقانِطينَ من رحمةِ اللهِ، فاللهُ جلَّ في علاهُ لم يخلقْ آدميّاً في شقاءٍ، فليسَ مَن امتلكُوا نعمَ الصّحّةِ والمالِ أسعدَ ممّن حُرِمُوا منهُما، فالسّعادةُ هي سعادةُ النّفسِ، والثّراءُ هو غِنى الرّوحِ، والمقْعَدُون ليسُوا مَن حُرمُوا نعمةَ الحركةِ، بل المقْعدُون همُ الّذين شلَّتْ حركةَ أفهامِهم العبوديّةُ والتَّبعيَّةُ للآخرينَ، وليسَ العُميانُ مَن فقدُوا نعمةَ البصرِ، وإنّما العميانُ مَن لا يرونَ في الحياةِ إلّا ظلامَ نفوسِهم اليائسةِ فينعَبُون للرّحيلِ، وليس الخُرسُ من فقدُوا نعمةَ الكلامِ بآفةٍ، ولكنَّ الخُرَساءَ مَن عجزُوا عن إشْهارِ الحقيقةِ والدّفاعِ عن الحقوقِ المسلوبةِ، وليس الصُّمُّ مَن حُرمُوا نعمةَ السَّمعِ لعلّةٍ، إنّما الصُّمُّ همُ الّذين تُمطِرُهم الحياةُ بالدُّروسِ والعِبرِ، فلا يفْقَهُون درساً من دروسِها، ولا يتَّعِظون بموعظةٍ من مواعظِها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى