الثلاثاء ٨ شباط (فبراير) ٢٠٢٢
بقلم أسامة الأشقر

في وداع الشيخ محمود الصمادي اللوباني

كم أحزنني هذا النعي الذي أنبأنا به صديقنا الأستاذ القاص خليل الصمادي اليوم السادس من فبراير 2022 عن رحيل سنديانة لوبانية فلسطينية لطالما أحببنا لقاءها، وانتفعنا بملْقاها، واستأنسنا بذكراها.

كان أول ما عرفناه عن الشيخ محمود إبراهيم الصمادي أنه موسوعة معرفية، ومثقف قديم، وكُتبيّ عريق، يعرف الكثير من المواضع والبلدان، وحظي بلقاء المئات من الشخصيات العلمية والسياسية والمؤثرة في أقطار عديدة ارتحل إليها، فحرصنا على لقائه في منزله بمخيم اليرموك قرب ساحة الريجة غيرَ بعيد عن جامع الرجولة الذي أسسه وأمّ فيه وخطب عبر ولده الأديب الأستاذ أبي عمرو خليل الصمادي حفظه الله الذي هو أشبه أولاده به في العناية بالثقافة والمعرفة ومتابعة مراصد الكتب، واشتدت رغبتي في لقائه لكثرة ما أثنى عليه أستاذنا الشيخ الراحل محمد محمد حسن شراب قبل ذلك، وكتب عنه في معجم العشائر الفلسطينية الذي وصفه بأنه شيخ عشيرة الصمادية في لوبية، وأنه لو كتب عن البلدان التي دخلها لكان كتابه مثل معجم البلدان لياقوت الحموي، وأنه كان مصدراً لأكثر المرويات عن منطقته قبل النكبة.

وعند لقائنا به كان حاضر الذهن ذكيّ الفؤاء وضيء المحيّا حسن اللقاء، وكان حذراً أول الأمر، وما لبث قليلاً حتى كاشفَنا بعلمه المكتوم ومعرفته التفصيلية التي كان يحدثنا عنه الأستاذ شرّاب رحمه الله بحضور بعض أولاده وأحفاده الأستاذ سميح وخليل وسهيل...، فالشيخ الراحل بحقّ مدونة تاريخية وموسوعة جغرافية وله نظر في الفقه والحديث لا يخفَى، وكان آنذاك يخفي ميوله إلى الحنابلة، وإلى رفيقه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رغم أنه يفارقه في مسائل لاسيما أن الألباني كان من سكان مخيم اليرموك آنذاك، كما كان قريباً من الشيخ عبد القادر الأرناؤوط وهو من علماء الحديث المشهورين؛ وقد انتفع بثلة من علماء دمشق كالشيخ محمد بهجة البيطار ومحمد أحمد دهمان، وتوثقت صلته برجالات الإسلام مثل أبي الحسن الندوي ومحمد محمود الصواف... مما أثرى معرفته العلمية وزاد من رصانته في التحقيق ومعاينة التراث، وكان أبرز ما أنتجه سلسلة عظماء الإسلام التي حوت سير ثلاثين من أئمة الصحابة والتابعين ورجالات الإسلام.

ولد الشيخ محمود الصمادي في قرية لوبية بناحية طبرية عام 1928 وهي القرية التي مسحت عن الوجود بعد النكبة عام 1948، واضطر للهجرة من قريته المحتلة وهو في العشرين من عمره، بعد أن شارك في جبهات القتال حاملاً سلاحه مع محمد علي العورتاني ورئيسه توفيق الإبراهيم في كتيبة مكونة من 200 مقاتل، وجرح في معركة معلول قرب الناصرة، ونقل بعدها إلى مشافي الناصرة وبيروت ودمشق، وبحث مطولاً عن زوجته وابنته حتى وجدهما في بعلبك مع مولود ثالث له في قصة عجيبة كان يرويها ، وانتقل بعدها إلى دمشق قرب سوق الهال ثم إلى جوبر من قرى دمشق، واستقر قبل هجرته إلى مصر في مخيم اليرموك حيث لقيناه مراراً، واشتغل في التربية والتعليم ثم اشتغل بعد تقاعده ورّاقاً في بيع القرطاسية والكتب في دكان له في المخيم ، وكانت له مكتبة عامرة إلا أنها تفانت لكثرة ما وزعها وبقي لديه القليل الذي تركه بعد هجرة أهالي مخيم اليرموك الموجعة في أحداث سوريا الأخيرة، وانتقل إلى مصر مهاجراً حيث توفي، ولم يكن ليخرج من المخيم الذي ظلّ رافضاً أن يخرج منه حتى بات المقام فيه مستحيلاً بنزوح أهله بكاملهم منه، وما تزال صورته وسط ركام المخيم مشهورة متداولة.

وقد حدثني مطولاً عن ذكرياته في حرب النكبة ودونتُ بعض ما ذكره لي في مقالة سأضع رابطها في أول تعليق؛ كما شرح لنا قليلاً عن ذكريات الطفل في ثورة 1936 وما بعدها وكيف كان يجمع فوارغ رصاص المقاتلين إعجاباً بدورهم ونضالهم، وكيف كان ذلك سبباً في الأذى الذي لحق بوالده ووالدته آمنة العيساوي
كان الشيخ محمود الصمادي ممن شارك في المعارك بعد قيام الثورة الفلسطينية وكان له اسم معروف فيما سمي بمعسكرات الشيوخ بين عامي 1967-1968 وشارك في بعض معارك غور الأردن مع الشيخ ذيب أنيس وغيره من أعيان العلماء والمتفقهين.

كتب عنه ولده الأستاذ خليل الصمادي كثيراً، وكتبت عنه ابنته هدى الصمادي كتاباً بعنوان: "رحلة لاجئ من لوبية إلى بولاق الدكرور" ونشرته دار صفحات بدمشق؛ ويستحق هذا الراحل الفخم أن يتعرّف الناس سيرتَه أكثر ، وأن يصدروا ترجمة مرئية ومكتوبة عنه توثّق ما فات من تراثه رحمه الله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى