السبت ١٦ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم محمد جمال صقر

فِي مَقَامِ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِ «3»

ومن قياس مهارتي الاستماع والتحدث الذي يطورهما، أن أعدد عليكم التجارب وأغيرها، فبمعالجة التجارب الكثيرة المختلفة تتكون الخبرة العميقة، وتتطور المهارة الصادقة التي ينتقل فيها الماهر من مقام عدم الإحساس بالخطأ إلى مقام عدم الإحساس بالصواب، ويا بُعْدَ ما بين المقامين، مثل بعد ما بين العلم والجهل، والصحة والمرض، بل مثل بعد ما بين الحياة والموت!

وفيما يأتي أتحدث إليكم بكلام آخر جديد عليكم -أو ينبغي أن يكون جديدا عليكم حتى تستقيم هذه التجربة أيضا- أحب من خلاله أن أقيس درجة مهارتي بالتحدث، ودرجة مهارتكم بالاستماع، بالأسئلة الآتية التي لا تمنع اقتراح غيرها:

-لِمَاذَا كَثُرَتْ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْأَعْلَامُ؟
-مَاذَا حَفِظْتُمْ مِنْ أَعْلَامِ النَّاسِ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟
-مَا جُمْلَةُ الْحَالِ الَّتِي حَوَّلَتْ أَحْدَاثَ هَذَا الْكَلَامِ؟
-كَيْفَ ائْتَلَفَتْ فِي هَذَا الْكَلَامِ آرَاءُ الصَّحَابَةِ الْمُخْتَلِفَةُ؟
-مَا الْأُسْلُوبُ الْمُسْتَوْلِي عَلَى بِنَاءِ هَذَا الْكَلَامِ؟
- مَا أَلْطَفُ مَظَاهِرِ الْقَصِّ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟
- كَيْفَ تَأَسَّسَ عَلَى التَّكْرَارِ هَذَا الْكَلَامِ؟
- هَلْ تَعَثَّرْتُمْ بِغَرَابَةِ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْكَلَامِ؟
- هَلْ تَعَثَّرْتُمْ بِغَرَابَةِ مُرَكَّبَاتِ هَذَا الْكَلَامِ؟
- أَيْنَ يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ؟

وعل رغم اختلاط أساليبِ التفكير (حركة أفكار المتحدث)، والتعبير (حركة عبارات المتحدث)، والتقويم (حركة أحكام المستمع)، في أجوبة هذه الأسئلة كذلك، أميز فيما يأتي بعضها من بعض، فأتحدث إليكم بالكلام نفسه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لأسألكم بعد المرة الأولى عن أسلوب التفكير، وبعد المرة الثانية عن أسلوب التعبير، وبعد المرة الثالثة الأخيرة عن أسلوب التقويم.
فَاسْتَمِعُوا أَوَّلًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّفْكِيرِ:

"قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ قَالَ لِي أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ، آخِذٌ بِأَيْدِيهِمَا يَا عَبْدَ الْإِلَهِ، مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ الْمُعْلَمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ!

قَالَ: قُلْتُ ذَاكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ!

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَوَاللَّهِ إنِّي لَأَقُودُهُمَا، إذْ رَآهُ بِلَالٌ مِعَى، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ، فَيُخْرِجُهُ إلَى رَمْضَاءِ مَكَّةَ إذَا حَمِيَتْ، فَيُضْجِعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَا تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُ بِلَالٌ أَحَدٌ أَحَدٌ -قَالَ- فَلَمَّا رَآهُ قَالَ رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا!
قَالَ: قُلْتُ أَيْ بِلَالُ، أَبِأَسِيرَيَّ!
 
قَالَ: لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا!
 
قَالَ: قُلْتُ أَتَسْمَعُ، يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ!
 
قَالَ: لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا -قَالَ- ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا -قَالَ- فَأَحَاطُوا بِنَا حَتَّى جَعَلُونَا فِي مِثْلِ الْمَسَكَةِ، وَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ -قَالَ- فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السَّيْفَ، فَضَرَبَ رِجْلَ ابْنِهِ فَوَقَعَ، وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ -قَالَ- فَقُلْتُ انْجُ بِنَفْسِكَ وَلَا نَجَاءَ بِكَ؛ فَوَاللَّهِ مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا -قَالَ- فَهَبَرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ، حَتَّى فَرَغُوا مِنْهُمَا -قَالَ- فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا؛ ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي[1]، وَفَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ"!
لِمَاذَا كَثُرَتْ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْأَعْلَامُ؟
 
الأعلام جمع عَلَمٍ، وإن العلم هو "الاسم الموضوع لمُعَيَّنٍ لا يتناول غيره، من ذلك أسماء الشخوص والمدن والأنهار والجبال والشهور"[2]، وهو قسم من أقسام الاسم، الذي هو قسم من أقسام الكلمة الثلاثة (الاسم، والفعل، والحرف)، التي أعاد بعض علماء اللغة المعاصرين توزيعها على سبعة أقسام، ثم على ثمانية[3].

ولقد ذُكِرَ في هذا الكلام مِنَ الأعلام، ما يُوشِكُ أن يكون خُمُس ما فيه من كلمات على العموم، وهذا مقدار كبير! ولكن إذا انتبهنا إلى أنه حكاية طرف من أحداث غزوة بدر الكبرى، التي احتشد فيها أعلام الإسلام والكفر، وتنازعوا بينهم الغَلَبَة- فهمنا سبب كثرة الأعلام التي تُعَيِّن الأشخاص[4]؛ فلا غنى في وصف المعركة عن تعيين أعلام المتقاتلين، ثم لا غنى في نقل ذلك الوصف للخالفين، عن تعيين أعلام من تناقلوه خالفا عن سالف.
ولقد كان للأَخْبَارِيِّينَ المسلمين منهج صارم، يسندون به الرواية إلى رواتها حتى يصلوا بها إلى أصحابها الأوائل، لا نملك له إلا العجب والإجلال! ولا ينخلع من حرصهم القديم على حفظ الأنساب، فكأنهم هنا ينسبون الرواة بعضهم إلى بعض!

مَاذَا حَفِظْتُمْ مِنْ أَعْلَامِ النَّاسِ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟

لا يخفى على أيٍّ من المستمعين أن أهم أحداث الحكاية من هذا الكلام، هو قتل بلال بن رباح وإخوانه -رضي الله عنهم!- لأمية بن خلف -لعنه الله!- ولهذا كان اسماهما أظهر على ما سواهما؛ فتردد اسم بلال خمس مرات، واسم أمية أربع مرات.

ثم إن أهم الأعلام بعد ذلك، من شهد الحدث، وشارك فيه، ثم رواه فيما بعد لمن لم يشهده، ولم يشارك فيه- عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه!- الذي تردد اسمه ثلاث مرات، ومرةً رابعة حَرَّفَه إلى "عبد الإله"، أميةُ بن خلف، كفرا بالرحمن الذي تَسَمَّى به، وقد عرفه من قبل في مكة وصادقه بعَبْد عَمْرٍو[5]!

ثم إن ها هنا لعَلَمًا من أعلام غزوة بدر، لا يُنْسى -وإن لم يذكر غير مرة واحدة- حمزة بن عبد المطلب أسد الله -رضي الله عنه!- الذي فعل بالكفار الأفاعيل كما اعترف أمية! أما اسم رسول الله (محمد) -صلى الله عليه، وسلم!- فهو نظام أسماء المسلمين كلها (سلك حبات عقدها)، الذي يحميها أن تنفرط، وإن لم يذكر هنا غير مرة واحدة!

ولن نعدم بين يدي كل خبر، طائفة من أسماء الأعلام، ربما لم نعرفها نحن، ولكنها عند الأخباريين والمؤرخين والمحدِّثين ومن إليهم، أهم من أسماء أنفسهم- هي أسماء رجال السند، الذين رووا الخبر بعضهم عن بعض، ومنهم هنا ابْنُ إسْحَاقَ، وعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، وسَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ.

مَا جُمْلَةُ الْحَالِ الَّتِي حَوَّلَتْ أَحْدَاثَ هَذَا الْكَلَامِ؟

تنطلق الأحداث، ثم تتعثر فجأة؛ إذ تطرأ على المشهد حال شديدة، تسيطر على الأحداث، فتحول حالها، وتوجهها غير وجهتها؛ فإذا استقلت بذلك جملةٌ من الكلام كانت مفتاح الفهم، ووجب أن تكون عنوان الرسالة.

لقد عرف عبد الرحمن هذه الحال، منذ لقي في أطراف المعركة أمية بن خلف؛ فأراد أن يهرب به من القتل إلى الأسر، وهيهات؛ لقد رآه بلال، فرأى حاله التي دام له عليها زمانا، كأنها وصاحبها شيء واحد (جملة "كَانَ هُوَ الَّذِي... أَحَدٌ أَحَدٌ"، حال من هاء "رَآهُ"، وواو "وَكَانَ" واو الحال):

" رَآهُ بِلَالٌ مِعَى، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ، فَيُخْرِجُهُ إلَى رَمْضَاءِ مَكَّةَ إذَا حَمِيَتْ، فَيُضْجِعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَا تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُ بِلَالٌ أَحَدٌ أَحَدٌ".

إنه "أَثَرُ الصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ" -وبهذه العبارة ينبغي أن يُعَنْوَنَ النص- التي رَزَحَ بلال تحتها (سقط من الإعياء)، حتى إذا حان الحَيْن (الموت)، وحارت العَيْن (غَلَبَها الخَطْب المُدْلَهِمّ)- عَلَا بلالٌ الصبورُ الصخرةَ حتى تمكن منها، فقذفها على أمية الجزوع، ويا بعد ما بين صبر المؤمن وجزع الكافر!

كَيْفَ ائْتَلَفَتْ فِي هَذَا الْكَلَامِ آرَاءُ الصَّحَابَةِ الْمُخْتَلِفَةُ؟

لقد تَبَيَّنَ من الكلام السابق ولا سيما إذا وضعناه في سياق ما بلغنا عن غزوة بدر الكبرى، اختلافُ صحابة رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- في أسرى بدر من أئمة الضلال والإضلال، على رأيين:

 أَسْرهم حِرْصًا من افتدائهم على ما يقيم حياة المسلمين.

 قَتْلهم إطاحة برؤوس الكفر وإقامة لأركان الإسلام.

رأى عبد الرحمن بن عوف الرأي الأول كما ورد في الكلام السابق، ورأى بلال بن رباح الرأي الآخر. ولقد أخذ رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- بالرأي الأول، ثم أَيَّدَ الوحي الرأي الآخر، بقول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"[6]. ولو كان القرآن الكريم من "كلام محمد" كما يزعم غير المسلمين، ما خالف به هنا عن رأيه!

وعلى رغم ذلك كان عبد الرحمن بن عوف كُلَّما ذكر ما كان من بلال قال: "يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا؛ ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي، وَفَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ"! ولا ريب في أنه إنما أراد تعظيم مكانة بلال[7]، الذي اهتدى دونه إلى ما يرضي الحق -سبحانه، وتعالى!- وتأنيب نفسه التي تعلقت بعَرَضِ الدنيا الزائل!
ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَانِيًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّعْبِيرِ: ...

مَا الْأُسْلُوبُ الْمُسْتَوْلِي عَلَى بِنَاءِ هَذَا الْكَلَامِ؟

لقد جرى هذا الكلام على الحوار (دوران أطراف الكلام بين المتخاطبين، بحيث يتحدث بعضهم ليستمع بعضهم، ثم تنعكس الحالان؛ فيتحدث المستمع، ويستمع المتحدث، وهكذا دواليك)؛ فإضافة إلى بناء كتب السيرة العربية الإسلامية على إسناد الرواية، بحيث تبدو حوارا بين رجال السند بعضهم وبعض، ثم بين مُـتَأَخِّرِهِمْ وصاحب الكتاب- يختص مقام هذا الكلام بقسمين متفاصلين من الحوار:

 أحدهما يديره عبد الرحمن بن عوف.

 والآخر يديره بلال بن رباح.

وإنما تفاصلا من أجل اختلاف غايتيهما؛ فأما حوار عبد الرحمن بن عوف فمن أجل حماية الأسير حتى يُفْتَدَى، وأما حوار بلال بن رباح فمن أجل قتل الطاغية المتكبر المتجبر قبل أن يُفْتَدَى!

ولقد دل على تفاصل الحوارين غضب عبد الرحمن الذي حمله على سب صاحبه بلال، لما لم يعبأ بسماع كلامه!

مَا أَلْطَفُ مَظَاهِرِ الْقَصِّ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟
ينتهي سند رواية الأحداث إلى راو واحد، هو هنا عبد الرحمن بن عوف، ويبدأ براو واحد مثله، هو ابن إسحاق، ولكن تختلط بينهما الأحداث والأقوال، فيخشى الراوي الأول أن يفلت من المتلقي عنه حبل الرواية الذي في يد الراوي الأخير، فيكرر دائما فعل القول على جهة الاعتراض، تحقيقا للرواية، وتنبيها على الراوي.

لقد اعترض بفعل القول "قَالَ"، ست مرات:

1 بين عبارتَيْ "فَيَقُولُ بِلَالٌ أَحَدٌ أَحَدٌ"، و"فَلَمَّا رَآهُ".
2 وعبارتَيْ "قَالَ: لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا"، و"ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ".
3 وعبارتَيْ "ثُمَّ صَرَخَ (...) لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا"، و"فَأَحَاطُوا بِنَا".
4 وعبارتَيْ "فَأَحَاطُوا بِنَا (...) وَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ"، "فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السَّيْفَ".
5 وعبارتَيْ "وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ"، و"فَقُلْتُ اُنْجُ بِنَفْسِكَ".
6 وعبارتَيْ "فَقُلْتُ اُنْجُ بِنَفْسِكَ (...) مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا"، و"فَهَبَرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ".

ولا يخلو هذا المظهر القصصي من لطافة خفاء فعل القول بين طوايا الكلمات! إنه أسلوب عربي قديم؛ فيه أثر المشافهة التي تحولت عنها الرواية إلى المكاتبة الخالصة.
كَيْفَ تَأَسَّسَ عَلَى التَّكْرَارِ هَذَا الْكَلَامِ؟

من حكم البلاغيين الدَّوَّارة في كتبهم القَيِّمَة، قولهم: كَثْرَةُ تَرْدِيدِ اللِّسَانِ عَلَامَةُ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ! أي كثرة نطق اسم الشيء أو ما يعبر عنه، دليل اشتغال الناطق به، محبوبا كان هذا الشيء أو مكروها؛ فإنه إذا كان محبوبا اشتغل الناطق برغبته في وجوده، وإذا كان مكروها اشتغل برغبته في زواله!

ولقد تردد في الكلام السابق أربعَ مرات، قولُ بلال بعدما رأى أمية: "لَا نَجَوْتُ، إنْ نَجَا"؛ إذ قاله أولا ليَجْمع أَقْطَارَ نفسه، وقاله ثانيا وثالثا ليرفض طلب عبد الرحمن، وقاله رابعا ليحمل أصحابه على قتل أمية.

ولقد كانت هذه العبارة المترددة من اللطافة بحيث تلفت انتباه المستمع؛ إذ بدأها بلال بالدعاء على نفسه، وهو ما لا يتوقع من الخصم القوي المنتصر إذا رأى خصمه الضعيف المنهزم- وختمها بشرطِ جملةٍ شَرْطيَّةٍ، يدل على جوابها الدعاءُ المتقدم عليها، فينقلب المعنى إصرارا شديدا على قتل أمية، يدعي فيه بلال أنه يسأل الله ألا يبقيه في هذه الحياة إن أفلت من يديه أمية! لقد رتب بلال ظاهر العبارة على ذلك النحو اللطيف، ليكون باطنها هو: إن أفلت مني أمية قتلت نفسي! ولما لم يكن لمسلم أن يقتل نفسه، وجب على أصحابه أن يعينوه على قتل أمية، وقد كان!

لقد كان لهذا المظهر من التكرار، مثل أثر السحر في ذلك المقام، ثم في كل مقام من مقامات روايته، وإن كان في الكلام السابق من التكرار مظاهر أخرى لا تخلو منها الأخبار المروية على الطريقة القديمة:

 من ذلك عَنْعَنَة أوائل الأخبار المروية نصا على سند روايتها.

 ومنه أفعال الأقوال التي حافظت على اتصال حبل الرواية.

ثُمَّ اسْتَمِعُوا ثَالِثًا، لِتُمَيِّزُوا أُسْلُوبَ التَّقْوِيمِ: ...

هَلْ تَعَثَّرْتُمْ بِغَرَابَةِ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْكَلَامِ؟

من مظاهر التطور اللغوي المعروفة المقبولة، تَوَارُثُ المُفْرَدَات المُعْجَمِيَّة (الكلمات الدالة التي تشتمل عليها ذخيرتنا اللغوية، وتمدنا بها في مقامات التعبير الكثيرة المختلفة)؛ إذ ترث المفردة غيرها مما كان مستعملا قبلها فيما صارت تستعمل فيه دونها. تؤدي إلى ذلك أسباب كثيرة لا تخفى على من يتأمل كلام الشباب هذه الأيام مثلا، كيف يخرج على كلام الشيوخ، ليصير هو فيما بعد كلام شيوخ المستقبل الذي يخرج عليه كلام شبابه، سنة الله، "وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا"!

فمن ذلك في الكلام السابق كلمة "رَمْضَاء"، المصوغة بحيث تدل على شيء مؤنث متصف بالرَّمَض (الحر الشديد المفضي إلى السخونة الشديدة)، وسُمِّيَتْ بها قديما الرمال المتعرضة لحر الشمس. وربما وجدنا من المعاصرين من يسميها المِقْلاة أو المِشْواة -وكلا الاسمين على وزن مِفْعَلَة صيغة اسم الآلة- تعبيرا عن معنى قَلْي أرجل الماشين أو شَيِّها.

وكذلك كلمة "المَسَكَة"، التي تشبه في استعمال المعاصرين كلمة "الحَلَقَة"، وزنا ومعنى، ولكنها دلت على الإحاطة بما فيها من دلالة على التماسك، فأما "الحَلَقة"، فقد دلت على الإحاطة بدلالتها على الاستدارة؛ وكما يكون الانتصار بالاستدارة بالمهزوم، يكون بالتماسك عليه، هذا هو باطن الانتصار، وتلك الاستدارة هي ظاهره!

وكذلك كلمة "أَخْلَفَ"، الدالة على الرَّمْي خَلْفًا، وفيه يرمي المقاتل يده إلى خلفه، ليشهر السيف المُغْمَد من غِمْده، من غير أن يُتْنَبَه إليه. وعلى رغم دقة الكلمة وجواز استعمالها في غير السيوف من الأسلحة، لم تعد تستعمل، لأن المعاصرين لا يعرفونها، ولو عرفها بعضهم لم يجرؤ على استعمالها، لأن المتلقي عنه لن يفهمها، بَلْوَى لغوية عامة، وما أكثر بلايا من لا يدركون قيمة ما بين أيديهم!

ثلاث الكلمات تلك هي التي غلب على ظني أنها أغرب ما في الكلام السابق على المعاصرين، وقد تَكَفَّل السياق بتعويض ما أحدثته من خَلَلٍ مُعْجميٍّ، فلم يعد يجوز الإعراض بها عنه أو عن مثله!

لقد سبق في زمان قوة البيان العربي، أن استغرب سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه!- كلمة "أَبًّا" في قول الحق -سبحانه، وتعالى!- من سورة عبس: "فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ". ولا يخفى أن سياق الآيات ينبه على متاعين من الطعام:

 الفاكهة، وهي من أحب ما تخرج الأرض إلى الإنسان.

 والأب، وهو للأنعام بمنزلة الفاكهة للإنسان.

فلما مضى فيها عمر بن الخطاب، وقف على كفاية السياق في تعويض خفاء الأب عليه؛ فرجع عن استغرابه سريعا، وكأنما أساء إلى جناب السياق العالي!

ذلك ما قدرت من أغرب الكلمات، فأما دلالة "المُعْلَم بِرِيشَةٍ" على المُعَلَّم بِها، و"أَذُبُّ عَنْهُ" على أدفع عنه، و"هَبَرُوهُمَا"، أي قَطَّعُوهما- فقريبة مفهومة مستعملة في كلام بعض المعاصرين، غير أن "هَبَرُوهُمَا" إذا استعملوها، لا تخلو من معنى السخرية، وقد دلت في الكلام السابق على المبالغة!

هَلْ تَعَثَّرْتُمْ بِغَرَابَةِ مُرَكَّبَاتِ هَذَا الْكَلَامِ؟

تتكون من تلك المفردات المعجمية مركبات تشتمل عليها، وتدل على أفكارٍ كبيرة، لا معانٍ صغيرة. وكما اتفقت بيننا وبين غيرنا مفرداتٌ واختلفت مفرداتٌ أخرى، اتفقت مركباتٌ واختلفت مركباتٌ أخرى؛ فاتصل بالاتفاق بيننا وبينهم حبلُ التفاهم، وانفتح بالاختلاف بابُ التشوُّف والتطلُّع والتأمُّل.

أما المتفق بيننا وبين أصحاب الكلام السابق فقد أغنانا فهمه عن الاشتغال به هنا، غير قول عبد الرحمن لبلال: "يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ"، الذي تجاهله بلال، ولم نكن نظن أن يكون من عبد الرحمن!

لقد غضب عبد الرحمن على بلال أَنْ لم يعبأ بسماع كلامه، فسَبَّه بسواد أمه، وأين سوادها من عدم سماعه! وربما لصقت بالمسبوب المسبة حتى تَعَوَّدَها وسكت عليها؛ فكانت أضغان، وفسدت أنفس، فنُهِيَ عن ذلك، حتى إنه لما سب أبو ذر الغفاري غلامه بأمه قائلا: "يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ"، قال له رسول الله –صلى الله عليه، وسلم!-: "يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ (خدمكم)، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْـُه مِمَّـا يَأْكُـُل، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"[8].

وأما المختلف بيننا وبين أصحاب الكلام السابق، فهو الذي يستحق الوقوف عليه.

من ذلك قول أمية:

 "مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ الْمُعْلَمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ".

الذي اشتمل على شبه الجملة الحرفي "مِنْكُمْ"، حالا من "الرَّجُلُ"، دلت فيه أداة الجر "مِنْ" على كون ما قبلها بعض ما بعدها، وافتضح بها حقد أمية على المسلمين أن كان منهم هم ولم يكن من قومه!

ومن ذلك قول عبد الرحمن:

 "فَوَاللَّهِ إنِّي لَأَقُودُهُمَا، إذْ رَآهُ بِلَالٌ مِعَى".

الذي اشتمل على "إِذْ"، الكلمة المؤهَّلة على حسب مُرَكَّباتها، للدلالة على معان متعددة، يُسْتَعمل الآن بعضها دون بعض. ربما ظن المستمع أن "إِذْ" ظرف زمان أو أداة تعليل، وأن الجملة القسميَّة -وهي جُزْآن: قَسَمٌ، وجوابٌ يؤكده القسم- مشتملة في جوابها عليها. حتى إذا راعى موضع "إِذْ" من مُرَكَّبها في سياقها، أدرك أنها أداة مفاجأة، تدل في صدر جملتها الجديدة بعد انتهاء الجملة القسمية بجزأيها، على مفاجأة رؤية بلال لأمية مع عبد الرحمن، وأن عبد الرحمن لو قَدَّرَ أن بلالا يراهما لسَلَكَ طريقا آخر حرصا على أَسْرِ أمية دون قتله.

ومن ذلك قول عبد الرحمن:

 "يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ".

الذي اشتمل على حرف الجر "عَلَى"، المشهور في الدلالة على استعلاء ما قبله على ما بعده، كما في قولك: الْكِتَابُ عَلَى الْمَكْتَبِ، أي فوقه. ومعنى الاستعلاء الخالص ممتنع في الكلام السابق؛ إذ دخل فيه حرف الجر "عَلَى" على "تَرْكِ الْإِسْلَامِ"، الذي هو غاية تعذيب أمية لبلال؛ فدل على أن الرغبة فيما بعده هي علة حدوث ما قبله، وأن دلالة حرف الجر في سياق هذا الكلام، مَشُوبة بالتعليل، غير خالصة للاستعلاء.

والتعليل مشهور في اللام، كما في قولك: آتيك للعمل؛ فربما خطر لبعض المستمعين أن لو استعمل المتحدث اللام دون "عَلَى" لأبان أحسن مما أبان، ولم يدر أن الحرف ("على" أو غيره)، حين يشتمل في سياقٍ ما على معنَى غيرِه (اللام أو غيره)، لا ينخلع من معنَى نفسِهِ، بل يضم المعنى إلى المعنى، وهذا (جَمْع المعاني) هو شِعار البلاغة.
ومن ذلك قول عبد الرحمن على لسان أمية:

 "لَا تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمَّدٍ".

الذي اشتمل على حرف العطف "أو"، المشهور في التَّخْيِير كما في قولك: اشْرَبِ الْمَاءَ أَوِ الْعَصِيرَ. ومعنى التخيير الخالص ممتنعٌ في الكلام السابق؛ إذ دخل فيه حرف العطف "أَوْ"، على مفارقة دين محمد[9]، التي لا كَفَّ لأمية عن تعذيب بلال إلا بها؛ فدل على استثناء ما بعد "أو"، مما قبله، وأن دلالة حرف العطف "أو" مشوبة بالاستثناء، غير خالصة للتخيير. وفي العبارة من جَمْع المعاني مثلُ ما في غيرها مما سبق ويلحق.

ومن ذلك قول عبد الرحمن:

 "أَبِأَسِيرَيَّ".

الذي اشتمل على بعض مُكَمِّلات الجملة (متعلِّقاتها، والمراد هنا الجار والمجرور)، وبعض مُلَوِّنَاتها (أدوات المعاني الطارئة عليها، والمراد هنا همزة الاستفهام)، ولم يشتمل على ركنيها اللذين لا تستقيم دونهما جُمْلَة! ولكن بسياق الكلام السابق ما يدل على أن عبد الرحمن يستنكر أن يَفْجَعَه بلال بأسيريه (أن يقتلهما فيصيبه بمصيبة فاجعة)، فلما كان ذلك حَذَفَ ركني الجملة المفهومين ومعهما ضميره المفعول به (تَفْجَعُنِي)، ولا سيما أنه كان أحرص على ذِكْر أسيريه منه على ذِكْر رُكْنَيْ جملته المفهومين، واستغنى عن ضميره المفعول به، بذكره مضافا إليه في مركبه الإضافي "أَسِيريَّ"، المتكون قبل الإضافة من كلمتَيْ [أَسِيرَيْنِ، إِيَّايَ]، المتحولتين إلى المركب بحذف نون الأول، وتحويل صورة انفصال الثاني إلى صورة الاتصال المناسبة.

حتى إذا ما ذهب ذلك السياق، وبقي عبد الرحمن بعده يروي للناس هوله، اضطُرَّ إلى ذكر ركني الجملة، كما نص الراوي من آخر الخبر: "فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا؛ ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي، وَفَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ"!

ومن ذلك قول عبد الرحمن:

 "مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ".

الذي اشتمل على ظرف الزمان "قَطُّ" المبني على الضم، المستعمل قديما في نفي الزمان الماضي كما في الكلام السابق، المهمل حديثا من الاستعمال اكتفاء بظرف الزمان المنصوب "أَبَدًا"، المستعمل من قديم إلى حديث في إثبات الزمان المستقبل ونفيه؛ تقول: سَأَفْعَلُهُ أَبَدًا، لَنْ أَفْعَلَهُ أَبَدًا، لَمْ أَفْعَلْهُ قَطُّ؛ فكل ذلك صواب. ولا تقول: سَأَفْعَلُهُ قَطُّ، لَنْ أَفْعَلَهُ قَطُّ، لَمْ أَفْعَلْهُ أَبَدًا؛ فكل ذلك خطأ!

إن في العربية من المفردات والمركبات، ما يمكننا من التعبير عن أقسام الزمان ودقائقه وأحواله، تعبيرا معجزا لغير العربية من اللغات، فَرِح بضبطه أستاذُنا الدكتور تمام حسان في كتابه "اللغة العربية معناها ومبناها"، العظيم القيمة في ثقافتنا المعاصرة، وأستاذُنا الدكتور فاضل السامرائي في محاضرته لنا خريف العام الجامعي 12/2013م، بجامعة السلطان قابوس، الناهلة من معين كتبه القيمة.

لقد وجدت الدكتور السامرائي يشقق المفردات والمركبات، حتى أوفى على عدد كبير جدا، كما أوفى قبله الدكتور تمام حسان، دَرَّجَ به دقائقَ الزمان تدريجا عجيبا، وكان في أثناء ذلك يقول: كما تعرفون...، كما تعرفون...، كما تعرفون...! فقلت له: ولكننا لا نعرف يا أستاذنا! كيف نعرف ما لا نستعمل! إن اللغات تحيا وتموت: تحيا بالوَصْل (الاستعمال) كما يحيا الأحباب، وتموت بالهَجْر (عدم الاستعمال) كما يموتون، وربما بُعِثَ ميِّتُها باستعماله، وأُمِيتَ حَيُّها بعدم استعماله، وهكذا دواليك!

أَيْنَ يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ؟

قد سبق التنبيه في شأن الكلام السابق، على أنه أحد روايات الأَخْباريِّين العرب المسلمين، عما كان من أحداث غزوة بدر الكبرى؛ فمن ثم ينبغي أن يقع بـ"كتب التاريخ العربي الإسلامي"، ولا سيما "كتب السيرة" التي تختص من ذلك بما يخص رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- وصحابته وتابعيهم ممن أقاموا دولة الإسلام، وكانوا أئمة الهدى الذين أُمِرْنَا أن نقتدي بهم لنهتدي إلى رب العالمين.

لقد ورد الكلام السابق في فصل "مقتل أمية بن خلف"، من باب "غزوة بدر الكبرى"، بكتاب "السيرة النبوية"[10]، لابن هشام، أبي محمد جمال الدين عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، المجهول المولد، المتوفى سنة 213 أو 218 الهجرية، الذي اعتمد فيه اعتمادا كبيرا على ابن إسحاق، أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار المدنيّ القرشيّ، مولى قيس بن مخرمَة، المولود على الأرجح سنة 85 الهجرية، المتوفى بَين سنتي 150 و153الهجريتين. وأستحسن فيما يأتي أن أورد من هذا الكتاب نفسه، خبر مقتل أبي جهل.

"قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: (...) قَالَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ: سَمِعْتُ الْقَوْمَ وَأَبُو جَهْلٍ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ (...) وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبُو الْحَكَمِ لَا يُخْلَصُ إلَيْهِ -قَالَ- فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فَصَمَدْتُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَطَنَّتْ قَدَمَهُ بِنصْف سَاقه، فوالله مَا شَبَّهْتهَا حِينَ طَاحَتْ إلَّا بِالنَّوَاةِ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضَخَةِ النَّوَى حِينَ يُضْرَبُ بِهَا -قَالَ- وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَى عَاتِقِي، فَطَرَحَ يَدِي، فَتَعَلَّقَتْ بِجِلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي الْقِتَالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي وَضَعْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا -قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ- ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ وَهُوَ عَقِيرٌ، مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، فَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ. وَقَاتَلَ مُعَوِّذٌ حَتَّى قُتِلَ، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِأَبِي جَهْلٍ، حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى (...) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ (...) وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: قَالَ لِي لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ-قَالَ- ثمَّ احْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ -قَالَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!-: آللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ -قَالَ- وَكَانَتْ يَمِينَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ! ثُمَّ أَلْقَيْتُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ!- فَحَمِدَ اللَّهَ"[11].

[1] أراد أَدْرَاعًا (والدِّرْعُ مفردها، كسوة حديد تقي الجسم من ضربات السيوف)، غَنِمَها قبل أن يرى أمية بن خلف، ثم تركها ليأسره هو وابنه.

[2] عبادة (الدكتور محمد إبراهيم) "معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض والقافية": 186.

[3] هو الدكتور تمام حسان، الذي قسمها في كتابه "اللغة العربية معناها ومبناها"، على اسم وفعل ووصف وضمير وظرف وأداة وخالفة- وتلميذه فاضل الساقي، الذي زادها قسم المصدر، في رسالته بإشراف الدكتور تمام حسان نفسه الذي قبل زيادته.

[4] وكلمة أشخاص كافية هنا، فهي جمع شخص، وهو كل ما شَخَصَ (بَرَزَ للعِيَان) شُخُوصًا، إنسانًا كان أو حيوانا أو نباتا أو جمادا.

[5] ابن هشام "السيرة النبوية"، بتحقيق السقا والأبياري وشلبي: 1/631.

[6] سورة الأنفال: 67.

[7] وكان بلال عظيم المكانة في المسلمين على سَبْق رِقِّه، قال فيه عمر بن الخطاب : "أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا".

[8] البخاري "الصحيح"، نشرة دار إحياء التراث العربي: 1/14.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى