الاثنين ١٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٧
بقلم حسين سرمك حسن

قارب الموت والظمأ العظيم

تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (4)

(4)

"كومة ضمير" تحليل قصّة "الكومة"

"إنّ اهتمام الناس بدفن أفكارهم عن الموت لا يقلّ شأناً عن اهتمامهم بدفن موتاهم"

"بوسويه"

في قصّة (الكومة) يضعنا القاص أمام معضلة نفسيّة شائكة ترتبط في جانب منها بشخصية بطلها (القصة تُحكى بضمير الغائب)، في حين يرتبط جانب آخر منها بعوامل أخرى سنلتقطها بعد حين.
فالقصّة تتحدّث عن رجل يمارس هواية الركض الصباحي فجر كل يوم، ووفق منهاج ثابت كتقليد في حياته اليومية. يقتطع القاص حدثاً عارضاً – كعادة القصّة القصيرة التي لا تتحمّل بنيتها، إذا أريد لها النجاح والإقتدار، أكثر من ذلك – يحصل للرجل في ممارسته الصباحية، ويلاحق هذا الحدث العارض لمدة ثلاثة أيام. يستهل القاسمي نصّه بوصف حالة الطقس السلبية حيث العَتَمة التي تلف الأشجار التي يُسقط عليها مشاعر الرجل القلقة فتتراءى له اشباحاً أخطبوطية:

(كانت العَتمة تلفّ أشجار الحديقة العامّة ونباتاتها، فتُخيّل إليه كأشباح طويلة وقصيرة ذوات أذرع متعدّدة متحرّكة مثل أخطبوط هائل داكن) (ص 253). وحيث الوصف المتساوق لحالة الرجل الجسديّة المكدودة (اصطكاكُ أسنانٍ وارتجافُ أوصال) الذي يُظهره وكأنه يؤدّي طقساً قسريّاً، ولكنه يتناغم مع مظاهر البيئة من صقيع وعصف ريح في الحديقة العامة حيث المسرح المكاني للحكاية:

(كانت أمطار الليلة الماضية على الأرض قد تجمّدت، هنا وهناك، صقيعاً يتكسّر تحت وقع قدميه. وعصفتْ رياحٌ ثلجيّة تخترق القلنسوة التي يعتمرها، وتلسع أذنيه وشفتيه فتحيلها حمراء قانية كعُرف الديك. وأخذتْ أنفاسه اللاهثة المتلاحقة تتناغم مع اصطكاك أسنانه وارتجاف أوصاله) (ص 253).

ويلتحم هذا الإيقاع الجسدي الذي يحوّل هذه الجولة من هواية إلى ممارسة مازوخيّة تقريباً، بالوصف العام للمكان الموحش في مشهد تمهيدي أعدّه القاص – على الطريقة الشكسبيرية - لاستقبال نذُر وممثلي "المُثكل" كما يصف جدّنا جلجامش الموت. وقد تمثّل هذا النذير الممثّل للمُثكل بـ "كومة" لمحها الرجل بسرعة في أثناء جريه.. وأهملها:

(وفيما هو يجري مُسرعاً مكدوداً، لاحت له كومةٌ قاتمة على جانب الممرّ. ولم يكن لديه متّسع من الوقت، ليُمعن النظر أو يطيله في تلك الكومة، فاكتفى بأن حسبها مجرّد كومة أحجار جُلِبَتْ لترميم سياج الحديقة العامّة، أو، ركام أغصان تجمّع من جرّاء تشذيب الأشجار. لا يهمّ.) (ص 253).

ومن المستحيل فصل النصّ مهما كان جنسه ونوعه عن مبدعه، ولا يمكن – وبتلك الخفّة البنيوية التي أعلنها "رولاند بارت" – إعلان موت المؤلّف بأي قدر من الإمكان. رأى بارت بأنّ النص – وبمجرّد إنهاء كتابته – سوف لا يكون له شأن بكاتبه إلّا بدرجة ضئيلة جدّاً. ويستطيع القارىء وضع أي تفسير للنص يراه مناسباً. وهذا سيمنح القارىء حرّية كبرى في التأويل وفي إهمال نوايا الكاتب. وقد نظر بارت لمتعة القارىء المُستقاة من هذا اللعب الحرّ مع النصّ بأنّه يشبه المتعة

المستحصلة من الاتصال الجنسي. لكن حتى في هذا الاتصال يجب أن ترى شريكك ويكون من لحم ودم وليس شبحاً ورقيّاً ميّتاً. المهم أن جوهر الأطروحة هي أن بارت يرى أنّ اللغة هي التي تتكلّم وليس المؤلّف. اللغة تخلق المتكلّمين بها، اللغة تعرف الموضوع ولا تعرف المؤلّف. ولا أعلم كيف يقتنع ناقد و"فيلسوف" مثل بارت بفكرة أن المجرّدات (الحروف والكلمات والأصوات) تعقل وتفكّر وتتكلّم، والأشياء الجامدة (الورقة) يمكن أن تشعر وتخطّط وتبلّغ. اللغة هي مطيّة اللاشعور تحت رقابة مضنية من الشعور. ومهما كان المؤلف بعيداً أو "أجنبيّاً" عن المتلقي أو ميّتاً، فأنّه يتمرأى خلف نصّه أمام عيني القارىء كـ "مؤلّف" من لحم ودم.

ولكن قد يسأل قارىء ذكي ومعاند: وإن لم يعرف قارىء (إسباني مثلا) بأن مؤلف هذه القصّة (الكومة) هو علي القاسمي، هل ستفسد متعته وتضعف دقّته في التأويل والإستجابة؟
وللإجابة عن هذا التساؤل الكبير نتحوّل إلى موضوعة مركزية حاولت مدارس نقد استجابة القارىء، بل مدارس ما بعد الحداثة، تدميرها، ألا وهي موضوعة (قصدية المؤلف أو المبدع – intentionality). فـ (حينما تعمد إحدى المدارس النقدية إلى تجاهل المعنى أو الدلالة، كما فعلت الشكلية الروسية والبنيوية الأدبية في تركيز واضح على آليات الشكل وجمالياته في الأولى، وكيفية تحقيق الدلالة في الثانية، يصبح الحديث عن القصدية من باب العبث الصريح. والقول نفسه ينطبق بصورة أكثر إلحاحا حينما تعمد مدرسة أخرى مثل مدرسة التلقي إلى نقل السلطة كاملة إلى المتلقي الذي (يقرأ النص الذي ينتجه هو) أو حينما تعمد رابطة مثل التفكيك إلى تأكيد الغياب في الحضور، وغياب أي مركز للإحالة والمراوغة الدائمة للنص) (10).

ولسنا من السذُّج بحيث نطلب من هذا القارىء الإسباني مساءلة القاسمي عن (قصده) وهو في المغرب، وقد يكون ميتا لا سمح الله. لكننا مثل الكثيرين من النقّاد الذين اتخذوا مواقف مخالفة لفوضى المناهج النقدية، بعد الحداثية (ما بعد البنيوية / التفكيكية / استجابة القارىء.. إلخ) نرى (أن قدرة اللغة على الإيحاء لا تنفي مفهوم القصدية وارتباط اللغة ذاتها بغرض قائلها، على الأقل حسب نظرية فعل الكلام المعروفة – speech act theory، التي تربط فعل الكلام بقصد قائله. ولو تخيّلنا للحظة ان كاتب (الكومة) ليس علي القاسمي، بل - حاشاه - قردٌ نشط ضغط على مفاتيح الآلة الكاتبة، أو لو أننا عثرنا على كلماتها وسطورها محفورة على صخرة على شاطىء البحر بفعل الأمواج أو عوامل التعرية، فإن النتيجة ستكون اختفاء القصدية بسبب غيبة الفعل المقصود / فعل السرد المقصود. ولن يبقى أمامنا غير تفسير وحيد أقرب إلى الصحة هو التفسير الذي يتفق مع قصد المؤلف / القاص، والذي يوجد فقط لو أننا سلّمنا بأن (القاسمي) هو كاتب القصّة، وليس القرد أو أمواج البحر، أي أننا نستطيع أن نرفض فكرة قدرة اللغة على تحقيق معنى، مستقلة عن القصد البشري. ويمكننا تطوير الأفكار السابقة حول أهمية القصدية في النص بالقول: إننا لو عثرنا مصادفة على قسم من الرواية منقوشا على الرمال ثم شاهدنا موجة تغطي الكلمات لتمحوها، مخلفة وراءها القسم الباقي ؛ فسوف يتأكد لنا أن الرواية لم تنتجها قريحة إنسان بل جاءت إلى الوجود مصادفة وبصورة عفوية، وشتّان بين الحالتين: حينما اعتبرنا الآثار على الرمال سردا كنا نفترض صفة القصد فيها، أما حينما اتضح أنها بلا مؤلف فإنها لا تصبح كلمات على الإطلاق ؛ إن حرمانها من مؤلف يعني تحويلها إلى تشابهات عفوية للغة؛ فهي ليست، على رغم كل شيء، نموذجا لمعنى من دون قصد، وفي الوقت الذي تصبح فيه (الكلمات) بلا قصد تصبح أيضا بلا معنى... إن العلامات التي تخلّفها الأمواج وراءها في انحسارها ليست لغة على الإطلاق، بل شبيهة باللغة. إن المعنى دائما مقصود، وإن اللغة لها طبيعة قصدية، ومن ثم فإن محاولات تفسير نص لغوي في عزلة عن المؤلف أو القصدية محاولات عبثية عديمة الجدوى. إننا حين نطلب من النادل فنجان قهوة فإنه لا يرفض، لا يصبه فوق رؤوسنا، بل يحضره إلينا، ما ندّعيه أن التفسير في حضور منتج قول ما والذي يرى أنه تفسير ملائم هو النموذج الصحيح لتفسير قول في غياب منتج ذلك القول) (11).

و (رحم الله عبد القاهر الجرجاني الذي قدم ضوابط التفسير الجوهرية وفي مقدمتها تحمّل النص اللغوي والنص الأدبي للتفسير المختلف، وكأنه كان يتنبأ بفوضى القراءة في القرن العشرين قبل حلول ذلك القرن بما يقرب من تسع مئة عام:

(فأما الإفراط فما يتعاطاه قوم يحبون الإغراب في التأويل ويحرصون على تكثير الوجوه، وينسون أن احتمال اللغط شرط كل ما يعدل به عند الظاهر، فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تقله من المعاني، يدعون من السليم من المعنى إلى السقيم ويرون الفائدة حاضرة قد أبدت صفحتها وكشفت قناعها فيعرضون عنها حبّاً للتشوّق أو قصداً إلى التمويه وذهابا في الضلالة) (12).

وعليه، وبعد هذه المداخلة الطويلة نسبيّاً، لكن الضرورية، والتي استخدمتها في مناسبات سابقة لأنها شافية كافية في تقويض أطروحة موت المؤلّف أقول: إنّ "الارتباك" الذي سيلاحظه السيّد القارىء في صياغة الجمل في الأسطر الثلاثة الأخيرة والراوي يتحدّث عن "الكومة" التي شاهدها الرجل في جريه، ليس ارتباك اللغة بتراصف كلماتها واصطفاف حروفها التي لا معنى لها من دون قصديّة القاص المؤلّف، الحي الذي لا يموت في عمليّة الإبداع، فمن المرّات القليلة التي يكرّر فيها القاسمي مفردةً بهذه الصورة التي تثقل الدلالة وتخرج عن السياقات النحوية التي يعرفها باقتدار:

(لاحت له كومة.. ليمعن النظر في الكومة.. حسبها مجرّد كومة!!) (وعلامات التعجّب منّي)..
فهل هذه الربكة اللغوية الظاهرة تعبير عن تشوّش وجداني على مستوى أعمق في ظلمة اللاشعور يلوب فيها قلق الكاتب من الموت؟ هل جاءت بفعل الانهمام المسبق لدى الكاتب بالمعنى الذي اختزنه للكومة وما يمثّله من رمز أمومي مثلاً؟ ثمّ أي كومة أحجار هذه أو ركام أغصان في حديقة عامة تتم تغطيتها بعباءة؟

تساؤلات كثيرة ومهمّة لا يمكن الإجابة عليها بدقّة وكفاية إذا لم نضع في حسابنا وجود مؤلّف من لحم ودم وراء النص من جانب، وأن لهذا المؤلّف قصديّة مسبقة تحكم مجريات النص من جانب آخر.
في اليوم التالي، وفي الغَلَس (ظُلْمة آخر الليل إِذا اختلطت بضوء الصباح) كما يقول القاص، وهو وقت مُبكّر جدا لممارسة رياضة الجري، ويعبّر عن توقيت مُرتبك، انطلق الرجل كعادته كل يوم في ممارسة رياضة العدو في الحديقة العامة المجاورة لمنزله، هذه العادة التي لم يشر إليها القاص في المقطع السابق حين رأى "الكومة" لأول مرّة من أجل أن لا تُفسد "العادةُ" المفاجأةَ، لأنّ الحديث عن عادة يوميّة يُضعف استقبال الأحوال العاصفة، التي واجهها الرجل لأول مرّة، حين نضع في احتمالنا أنّه يمكنه التراجع عن عادته لصباح واحد. يوحي إصراره بدوافع قلقة تشي بقدر من "فوضى" داخليّة تتسق مع الفوضى الخارجية في الطبيعة والمكان.

ومن جديد، يستخدم القاص مفردة "الغلس" للتعبير عن الوقت الذي خرج فيه الرجل للركض، ولأنّه قد أشار في مقدّمة هذه الفقرة إلى توقيت أعمّ (في فجر اليوم الثاني...)، فإن هذا التخصيص يبدو وكأنّ الرجل فيه قد قطع شوطاً طويلاً في جريه ليصل مرحلة "الغَلَس" التي يأتي تخصيصها لتعزيز "دراميّة" عمليّة لمحه للكومة مرّة ثانية، وهو تخصيص ودلالة تعكس شدّة انفعال القاص بموضوعته خصوصاً أنّ الفعل قد انتقل من المصادفة في اليوم الأول: (لاحتْ له كومة قاتمة على جانب الممر) إلى التصرّف الإرادي: (لمَحَ الكومة ما تزال في مكانها على جانب الممرّ).

كما حصلت نقلة في "التأويل" بين اليومين، ففي اليوم الأول اعتبر الكومة كومة أحجار أو ركام أغصان، ولكن، الآن، في اليوم الثاني، ندّت حركة مُريبة كما يصفها الرجل ـ فافترض أنّها حركة صادرة من واحد من الكلاب أو القطط السائبة التي تتخذ من الحديقة ملجأً. وفي الحالتين يبرّر عدم تقرّبه من الكومة لغرض معرفة ما فيها أو تحتها بعدم وجود متّسع من الوقت لديه. لم يفكّر أبداً في أي احتمال آخر، كأن تكون هذه الكومة المُهملة "إنساناً" مثلاً. أبعد عن ذهنه مثل هذا الإحتمال المُقلق، فهو احتمال قد يثير مخاوف دفينة لديه هو "الراكض" وكأنّه هاربٌ من "شيء" ما يطارده. وفي المرّتين ينبثق "صوت" يختم موقف الرجل في الحالتين بالتعليق: (لا يهمّ). فقد صرنا نشهد انسحاباً لدى الإنسان نحو ذاته، إنسحاب يجعله يضع أولوياته الترفيهية الشخصيّة فوق كلّ شيء. صار الفرد يتوحّد بما يقوم به من أفعال ناسياً كل ما يحيط به أو يصادفه من متغيّرات تستحق الالتفات. إنّ هذا الركض اليومي الذي يعكس انهمام عميق للرجل بصحته وسلامة جسده وكماله يعبّر عن نرجسية مفزوعة من الموت ؛ مفزوعة بتكتّم ينفضح بالحدّ الذي لا يستوقف الشخص ويمنعه من إكمال شوطه الفجري (الغَلَسي) أيّ شيء. طبعاً بالإضافة إلى مبرّر اللحاق بالعمل الذي هو مبرِّر واهٍ لا يمنعه من مجرّد التأكُّد إلّا إذا كان يتوقع بقدرٍ ما أنّ في الكومة "شيئاً" قد يفرض عليه التزامات وتداخلات خارج احتياجات الحجارة أو الأغصان أو الكلب السائب. فلمجرد أنّ الرجل قد فكّر بماهيّة الكومة وقدّم تفسيرات احتمالية لها (حجارة، أغصان، كلب، قطّة) واحتمالا اليوم الأول: حجارة، أغصان، تناقض احتمالي اليوم الثاني: كلب، قطّة، من ناحية حجم وتناسق وثبات الكومة في كلّ منها، فإنه قد أزاح عن ذهنه الاحتمال الأكثر توقّعاً ومنطقيّة. لقد جفّت مشاعرنا واستعبدتنا متطلّبات الحياة، وتمّ تدريبنا – للأسف – على السلوك الهروبي، والانشغال بذواتنا وسلامتها فحسب. لعلّ هذا من الدروس الأخلاقية الكبرى التي يريد القاسمي توصيلها إلى متلقّي نصّه هذا. (لا يهمّ).. هذه الجملة البسيطة تعبّر عن اللااكتراث وتبلُّد العواطف، والانحشار الأناني في خانة ذات منشغلة بذاتها ومتطلّبات حياتها. (لا يهمّ).. هذه الجملة البسيطة هي مفتاح خراب الحياة في أيّ مجتمع، وقد توصل إلى الكوارث الجسيمة التي لن يفيدنا أن (نهتمّ) بها بعد فوات الأوان. وهذا ما حصل في اليوم الثالث، ولا أدري لماذا تكتمل دورات أغلب الأمور في اليوم الثالث وخصوصاً المصائب. ففي اليوم الثالث تراءى للرجل وهو يركض كالعادة مقترباً من الكومة في المكان نفسه على جانب الممرّ، تراءى له ما يُشبه اليد ممدودة منها. ومع ذلك تجاوزها بخطوات، ثمّ تدارك الأمر وعاد أدراجه فإذا بها امرأة عجوز متلفّعة بعباءة سوداء. الآن اتضحت هويّة "الكومة". لم يفكّر هذا الإنسان بأي احتمال غير الاحتمال "المادي".. الإحتمال المرتبط بالعوز والحاجة للمال (الذي قد يكون واحداً من مصادر القلق التي "يركض" منها!). أخرج بعض النقود، ووضعها في اليد الممدودة في العراء، ولكنّها لم تقبض عليها، فسقطت على الأرض.

تُرى ألم ينظر إلى وجه هذه العجوز التي مضت عليها ليلتان وهي في عراء وبرد الحديقة؟ ألم يتمعّن في تعبيرات وجهها قبل أن يفكّر بمتطلّبات "يدها"؟ لقد فكّر في اليد قبل الوجه.. فكّر في اليد الممدودة كتعبير عن الحاجة للمال ولم يخطر بباله أن يكلّم هذا الجسد ليتعرّف على ما يبغيه، فقد يكون في غنىً عن المال، ولديه حاجة أخرى. لم نعد نرى من أخينا الإنسان سوى علامات عوزه وفاقته وجوعه.. لم نعد نسمع نداءات روحه.. تلك النداءات التي لا تسكّنها أوراق النقود ولا تشبعها غير الاستجاية الحيّة من روح إنسان مُعين وصبور ومتعاطف. صار همّنا أن نحصل على بيت دافىء لا نتخلّص فيه من سياط البرد والعواصف حسب، بل نتخلّص فيه من مجرد التفكير بمن لا منازل لهم من إخوتنا. ما الذي حصل لضمائرنا؟ وهل صارت تركض معنا مما يواجهها من مسؤوليات؟ هل صارت ضمائرنا لا تفكّر بـ " الأمانة " التي رفضت حملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها؟ هل هذه هي الأمانة التي تصدّى الإنسان – الغشوم الجهول – لحملها؟ هل سأل رجل القصّة نفسه يوماً ما، أو حين رأى الكومة، عن "أمانته" التي تسلّمها من الله؟

إنّه يصرّ – من جديد - على وضع النقود في يد عجوز الكومة:

(التقط النقود، وحطّها مرّة أخرى في يدها، ونبّهها بالمناداة، ولكنّها ظلّت صامتة، ولم تقبض النقود. لمسَ كفّها وحرّكها بلطف لعلّها كانت غافية وهي جالسة. ولكنّ برودة مريعة سرتْ من يدها إلى أصابعه. وأ﴿شاعت في جسده قشعريرة وتوجّساً. وقبل أن يُتاح له القليل من التفكير، مال جسم المرأة بأكمله مع تلك الحركة الخفيفة، لتسقط على الأرض جثّة هامدة) (ص 254).
وإذا كان في مشهد سقوط جثّة العجوز الأخير الكثير مما شاهدناه في الأفلام السينمائية، فإن السؤال المزلزل الذي سوف يلاحقنا بعد أن ننهي هذه القصّة هو: ألم يكن بإمكان هذا الرجل الركّاض (وهو في الحقيقة "مركوض".. ومن معاني الجذر رَكَضَ الإضطراب والتقلّب المعبّر عن القلق.. والفرار أيضاً ﴿ إذا هم منها يركضون ﴾ الأنبياء/12 – وكلّها تنطبق عليه) التقرّب من الكومة في الغَلَس الأول ومعرفة ما فيها؟

وهل كان من الممكن – لو اكتشف أنّ فيها عجوزاً - أن لا تموت هذه العجوز؟

طبعاً هذا ممكن.. ولكن عندها لن تبقى حكاية أبداً، بل خبراً عابراً باهتاً لا يُرجف أعماقنا ويدفعنا نحو هذه التأمّلات الرهيبة. الموت هو صاحب الفضل الاول والأكبر على الحياة وليس العكس. لا حكاية من دون الموت. وخطاً أن نقول أنّ فلاناً تعلّم من "دروس الحياة". في الحقيقة نحن نتعلّم من "دروس الموت" ؛ الموت هو المعلّم الأوّل والأخير.

إنّ علينا ألّا نستخف بـ "النذر" الصغيرة التي تقابلنا مصادفة. لا توجد مصادفات في دروب المثكِل. ولو تأمّلنا تاريخ البشرية، وحياتنا اليومية على حدّ سواء، لوجدنا أنّ نذر الموت الموصلة إلى الخراب والفناء تكون دائماً بسيطة وصغيرة. خذ الدرس من سيّدة الحكايات: ألف ليلة وليلة. فالعشرات من حكايات الدمار والتمزّق الذي يلحق بحيوات الشخصيات يبدأ بمتغيّر عابر ومبتذل وقد يكون مُحتقراً: شعرة من رأس، رسالة، وشم بسيط، قنينة، خرزة، فردة حذاء... إلى أخره من الأمور والأشياء التي نستهين بها عادة، وفيها يكمن مفتاح فنائنا، وكأنّ سيّدة الحكّائين الفيلسوفة "شهرزاد" تريد تذكير الطاغية شهريار بأن لا يؤمن بعقله المتنفّج كل الإيمان، فتعمى بصيرته عن رؤية حكمة الله والحياة والقدر مبثوثة في أضعف المخلوقات وأبسط الاشياء، وأهمها حكمته العظيمة: في أننا نموت. وأينما نولّي فثمّ وجه الموت. ولأنّ سيّدة الحكّائين هذه أدركت سرّ الحكاية، فقد تناسلت على يدها لألف ليلة وليلة.. بل لمئات السنين حتى يومنا هذا.

تبقى ملاحظة أخيرة في الجانب اللغوي وتتعلّق بالعنوان: "الكومة". فالكومة قاموسيّاً هي مؤنّث " الكَوْم "تعني (كلُّ ما اجتمع وارتفع له رأسٌ من تراب أو رمل أو حجارة أَو قمح أَو نحو ذلك) أو (القِطْعَةُ الْمُتَجَمِّعَةُ مِنَ أَيِّ مَادَّةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)، كَوَّم الفلاّحُ التّبْنَ جمعه وألْقَى بعْضَهُ فوق بَعْض وارتفع له رأس، جعله كومًا:- كَوَّم حجارةً / قمْحًا / الترابَ / الحصى / المتاعَ.

وعليه فإنّ الكومة لا تنطبق على الشيء المُفرد كالكلب أو القطّة، بالإضافة إلى أنّها لا تكوّم بالطريقة المشار إليها أعلاه. وقد يعكس هذا الإستخدام ربكة الكاتب اللاشعورية بفعل ضغوط قلق الموت الذي ينبغي أن نشير إلى أنّه – حين نَعِيه – من أقوى العوامل الخلّاقة الدافعة نحو الإبداع والنضج المعرفي والحضاري.

القصة التي تم تحليلها:

الـكـومـة د. علي القاسمي

كانت العَتَمة تلفُّ أشجار الحديقة العامَّة ونباتاتها، فـتُخـيَّل إليه كأشباحٍ سودٍ طويلةٍ وقصيرةٍ ذواتِ أذرعٍ متعدَّدة متحرِّكة مثل إخطبوط هائل داكن. وكانت أمطار الليلة الماضية على الأرض قد تجمّدت، هنا وهناك، صقيعًا يتكسَّر تحت وقع قدميْه. وعصفتْ رياحٌ ثلجيَّةٌ تخترق القلنسوة التي يعتمرها، وتلسع أُذنيْه وأنفه وشفتيه فتحيلها حمراءَ قانيةً كعرف الديك. وأخذتْ أنفاسه اللاهثة المتلاحقة تتناغم مع اصطكاك أسنانه وارتجاف أوصاله. وفيما هو يجري مسرعًا مكدودًا، لاحتْ له كومةٌ قاتمةٌ على جانب الممرّ. ولم يكُن لديه متَّسع من الوقت، ليمعن النظر أو يطيله في تلك الكومة؛ فاكتفى بأنْ حسبها مجرَّد كومةِ أحجار جُلِبتْ لترميمِ سياج الحديقة العامَّة، أو ركام أغصان تجمَّع من جراء تشذيب الأشجار. لا يهمّ.

في فجر اليوم الثاني، انطلق كعادته كلَّ يوم يمارس رياضة العدو في الحديقة العامَّة المجاورة لمنزله. وفي الغَلَس، لمحَ الكومةَ ما تزال في مكانها على جانب الممرّ. وعندما اقترب منها هذه المرَّة ندَّت منها حركةٌ مريبةٌ. ولم يكُن لديه من الوقت الكافي ليدقّق النظر أو يطيل التأمُّل، إذ كان عليه أن يعود إلى المنزل مباشرة للاستحمام، وتناول طعام الفطور، والتوجُّه إلى مقرِّ عمله في المصنع قبل الساعة السابعة صباحًا؛ ولهذا اكتفى بافتراض أنَّ الحركة صادرة من واحدٍ من الكلاب أو القطط السائبة التي تتّخذ من الحديقة ملجأً. لا يهمّ.

في اليوم الثالث، وفيما هو يركض مقتربًا من الكومة ذاتها في المكان نفسه على جانب الممرِّ، تراءى له ما يُشبه اليد ممدودةً منها. وبعد بضعةِ خطواتٍ، توقَّف عن الجري ليعود القهقرى إليها، ويحدّق فيها؛ فإذا بها امرأةٌ عجوزٌ متلفِّعةٌ بعباءةٍ سوداءَ، تسند ظهرها إلى شجرةٍ كبيرةٍ من أشجار الحديقة. ظلَّ مطرقًا هنيهة، ثمَّ دسَّ يده في جيبه وأخرج بعض النقود، ووضعها في اليد الممدودة في العراء. ولكنَّها لم تقبض النقود، فسقطتْ على الأرض. التقط النقود، وحطّها مرَّة أُخرى في يدها، ونبهها بالمناداة، ولكنَّها ظلّت صامتةً، ولم تقبض النقود. لمسَ كفها وحرّكها بلطف لعلَّها كانت غافية وهي جالسة. ولكنَّ برودةً مريعةً سرتْ من يدها إلى أصابعه، وأشاعت في جسده قشعريرة وتوجّسًا. وقبل أن يتاح له القليل من التفكير، مال جسم المرأة بأكمله مع تلك الحركة الخفيفة، لتسقط على الأرض جثةً هامدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى