الاثنين ١٩ أيار (مايو) ٢٠٠٨
السياق الجمالي للعقاب
بقلم محمد سمير عبد السلام

قراءة في أقلب الإسكندرية على أجنابها

تحتل فكرة العقاب حيزا كبيرا في اللاوعي الجمعي للإنسان، وكذلك النصوص الأدبية، والتاريخ، والدراسات الثقافية، والتفكيكية المعاصرة، بل إنها تمتد من الشعور بالدونية أمام قوة الطوطم في النقوش الجدارية القديمة، حتى تضخم عقدة الذنب، وتناميها شكليا دون ذنب حقيقي داخل الإنسان المهمش في المجتمع المعاصر.

ارتبط مفهوم العقاب في التراث الإنساني بالجسد، والممارسات الجنسية، والموت، ونقصان المال، والرغبة الدفينة في قتل الأب أو الأم، والتكفير عن الذنب الأول، وتكوين الجهاز النفسي انطلاقا من تقمص الأب عند فرويد، وتناقضات عملية تفكيك المركز في علاقتها بالإيروس عند جاك دريدا.

و يمكننا قراءة ديوان " أقلب الإسكندرية على أجنابها " لمهدي بندق – الصادر عن دار تحديات ثقافية بمصر – من خلال إعادة إبداع مهدي بندق لفكرة العقاب في سياق جمالي جديد يكتسب من الماضي قوة الانسحاق الإنساني حتى تبلغ ذروتها فيما يتجاوزها، وهو السياق الجمالي للعقاب، وفيه نلمح طاقة خفية صامتة تنبع من المحو، والتدمير المستمر للأنا شكليا، في صورة عبثية تحمل تاريخ الذنب دون الذنب نفسه.

ما يهمنا إذا هو المعنى الثقافي الجمالي المنتج للتو من اكتمال المحو عند مهدي بندق، ولكن لا يمكن إنتاج هذه الدلالة في القراءة دون المرور على لغة فرويد التأويلية للجهاز النفسي ؛ فهو يرى أن الأنا الأعلى يغوص في أحشاء الهو، إذ إنه مضطر إلى أن يتصل به ؛ لأنه وريث عقدة أوديب، وهو أبعد عن النظام الإدراكي من الهو، وأكثر ارتباطا بالدونية، وعقدة الذنب، والماضي، والتوحد بسلطة الأب ( راجع – فرويد – محاضرة تمهيدية جديدة في التحليل النفسي – ت عزت راجح – مكتبة مصر – ص 60 و72 ).

إن قوة المنع الكامنة في الأنا الأعلى عند فرويد، تتحول عند مهدي بندق إلى سلطة ثقافية لا حدود لها بحيث تترك الأنا، وقد تم استبداله تماما بالفراغ. هذا الفراغ هو أثر المعاقبة، والذات التي تخلصت من هامشيتها عن طريق إدراكها لجماليات المحو في القصيدة.

و لأن الأنا الأعلى يقهر الانجذاب الإيجابي، أو السلبي نحو الأنوثة، فقد تعقدت علاقة المتكلم بالأنثى / الإسكندرية، والأنثى / القصيدة، فنراه يتطرف في الاتجاهين الجنس، وقتل الأم، أو الأب معا كنوع من مقاومة الأنا الأعلى الثقافي، وممارسة الرغبة الدفينة في تدمير القوة ؛ ولهذا نراه يتماس مع أوديب، وأوريست ليحقق الخطيئة، أو يقتل كليمنسترا ليستعيد قوة أجاممنوم الأب في اتجاه مضاد للأبوية المطلقة، وتنتصر قوة المحو كحل أخير في الديوان لسلطة العقاب، وذلك بتحويلها إلى قوة جمالية.

لقد ارتكز الأدب الروائي والشعري الحديث على الرغبة في اختفاء الذات التي تنتظر العقاب ؛ فبطل الجريمة والعقاب لدوستوفسكي حريص على أن لا يرى أبدا، وبطل الحمامة لباتريك زوسكيد يخاف من الحمامة، وأخيلتها المزعجة لوحدته السرية، وكذلك نلمح في الشعر آلام بودلير الملحة، وجحيم رامبو، وغيرهما.

و لكن المتكلم عند مهدي بندق قد فرض عليه المحو قبل أن يتقمص قوته الجمالية، فجاء الانفصال بين الحالتين كبيرا، ومجسدا لحالة مريرة من الصراع غير المبرر بين الأنا والسلطة ؛ ولهذا كان التحول باتجاه المحو أكثر براءة، وإيغالا في الأداء لا التأمل البطيء لعمليات الانعزال، والاختفاء الاختيارية التي كشف عنها الأدب الأوربي.

في نص " عيون المطر " يستشرف المتكلم البهجة الموعودة، كفضاء يتحد فيه بالقصيدة خارج الغياب، والتمرد معا، ولكن الذات الأخرى بما تملك من قوة شعرية، وكونية معا تنبع من الإحساس بالتمرد، والانسحاق معا لتتجاوزهما في سياقهما الجمالي الذي يرتبط عند الشاعر باستدعاء صور الخصوبة مثل الأنوثة، والمطر، والانطلاق المميز للغرائز ؛ يقول:

" حتى انقسمت اثنين / فواحدٌ هو للغياب ِ من الولادةِ للوفاةِ فلا يُحِسُّ الكارثة / وواحدٌ يلقى بيقظته المسوخ... برحيق الخطر../ فمالك لا تـُطلقين القصائد َ سهما ً فسهما ً/ إلى أن تُطل من الصخر ِ يوما ً / عيون ُ المطر ".

الشعور بالانقسام يجسد الصراع بين العقاب، وما وراء العقاب من تمرد بهيج يسهم في إعادة تكوين المتكلم باستمرار انطلاقا من صخب التحول، والصراع، والتفكك.

وفي نص " ظل الملك " تأتي عقدة الذنب شكلية، وفارغة من مضمون الجريمة، والعقاب معا، وكأنها إعادة تأويل لمأساة أوديب، في اتجاهين:

الأول: ارتباط التاريخ الأوديبي بلحظة نشوء المتكلم في القصيدة، وكأنه حمل جرم أوديب دون أن يعيش تفاصيل المأساة، ومن ثم تتكرر دائرة العقاب شكليا، وتاريخيا، ونصيا في الوقت نفسه بحيث تشكل بداية مستمرة لتوحد الأنا بالظل، أو الهامش.

الثاني: توليد القصائد من داخل حالة الخضوع، والهامشية، ومن ثم تناميها جماليا كسياق مضاد للعقاب من خلاله. هل يستعاد أوديب بصورة تمثيلية جمالية مجردة ليتمرد على تاريخه؟ أم أنه يحاول قتل المعرفة في ذاته من خلال الآخر لكي يستبق قتل الأب؟

يقول:

" القطاراتُ خادعة ٌ كلها / (نحن نعلمُ) / أوراقنا مِزَقٌ كلها / (نحن نعلمُ) / بينا ترفرفُ منا القبورُ/ وراء ظلال القطار الأخير / قال لي غامضًا:أنت لم تقتل الأبَ عند الحدودِ / ولم تستبح غرفةَ الملِكةْ / فاجلس إلى ظل نخلتك البدويةِ بين / غيوم البلاء ِ/ ورَتِّلْ قصائدك المستديمةََ / يشتد عودُ التسلط فيها / ويرتدْ غصنُ الخضوع إليك خيوطًا ".

إن استعادة مهدي بندق لتراث الإدانة من الفن، والتاريخ تؤكد مقاومة البعد الجمالي لحتمية العقاب الشكلي الموروث في الوعي، واللاوعي. هذا البعد الجمالي يشكل إشارة ثقافية لرغبة خفية في التمرد، وهدم المركز مثل التي نجدها داخل كل من أوريست، وإلكترا باتجاه الأم كليمنسترا. يبدو هذا واضحا في نص " كرمة الإدانة "، يقول:

" أسأل ُ عن سيِّدٍ تنكَّرَ / (في هيئة سيف ودرع) / بينما هو في داخله مُزْنَة ٌ/ تقطـِّرُ الضياءَ في العيون المطفأة / سألتهم عنه / فثبّتوا مفاصلي / في اللحم بالحديد / في الغداةِ / سوف أذبح كليتمنسترا.. لكي يعود لي أبي / وها أنذا ألطمُ وجه شقيقي / ليدرك الجمالَ المختبئَ الأزليَّ / في طلحةِ العصيان ".

لقد اقترن ذوبان الجسد، واختفائه الأولى بتنامي الحنين الدفين للخطيئة / قتل مركزية الأم المسيطرة، ومن ثم محاولة استبدالها وفقا لقوة العقاب المتجدد الذي يشبه المركز، ولكن في صورة نصية وثقافية مضادة.

إن الرغبة المزدوجة في الاندماج بالأم، وتدميرها أو استبدالها تبلغ ذروتها في نص " أقلب الإسكندرية على أجنابها " فالمتكلم يكتسب وجوده في العالم انطلاقا من أنوثة المكان، وأخيلته، ولكن هذا التوحد ينطوي على رغبة في المحو، والحذف أيضا باتجاه تلك القوة التي صارت جزءا من المتكلم يكشف عن تعالي الوعي وانهياره معا ؛ يقول:

" أنا هذي المدينة ُ في زجاجة / رسالتها التي لا تقرأُ، انبقعتْ بلحمِ غلافها الأختامُ، ترحلُ في سفينة بعلها الأعمى/ غَْررّتْ بي/ هذه الإسكندرية ُ في الصبا / أوعزتْ أنْ سوف تأتي بالأحبة / ثم ولت / مثل وجهٍ ذاب في فنجان قهوته الصباحية /أتلف التذكارَ صحوٌ فاترٌ منه ".

تلتحم الإسكندرية بأنوثة مجردة تكمن فيها الذات المتجاوزة للتهميش، ولكن في سياق التناقض التكويني بين القتل والتوحد، الانسحاق والرغبة في استبدال القوة.

وفي نص " الكمائن " يقترن التفرد، والاختلاف بحتمية المحو، وكأن الأخير يمارس دوره منذ البداية، منذ أن قرر المتكلم أن يحفر الأثر / الذات أو القصيدة.

هذا الأثر علامة للتمرد، وما يتبعه من هدم للمركز، وتحقق المتكلم، وهو علامة نهايته، وعقابه المتجدد ؛ يقول:

" مثل قطار ذي دخان أسود كنت / وذات يوم قلت أخرج قليلا ً عن القضبان /.. قطار ذي دخان خرج قليلاً عن القضبان / فكان ضروريا ً أن تؤدي الممحاة ُ وظيفتها ".

وفي نص " جاء دوري " يتسع الفضاء المتجاوز للذات المعاقبة ليحتوي قوة الأنوثة، وجماليات الموسيقى الكامنة في ضربات القدر لبيتهوفن، وبحيرة البجع لتشايكوفسكي، فتبرز أمامنا دائرية المحو وحدها في المشهد، وقد حولت تاريخ القهر إلى جمال لا مرئي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى