الأربعاء ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
بقلم الهادي عرجون

قراءة في المجموعة الشعرية ما لم تسقط من العمر لم تعد خضراء

أن يمتطي حصان الشعر ويسابق المعنى، وهو يحمل ثقل المكان ليقتفي حزنه، ليعيد نبض المشاعر على قلق انساني نبيل تجاه هذا الوطن، وليشعل لنا الشاعر عمر دغرير شموع العمر التي انطفأت، ويعيد لأوراق الخريف نظارتها وهو يخيط قميص القصائد لتولد من رحم هذا الزخم مجموعته الشعرية التي اختار لها من الأسماء " ما لم تسقط من العمر...لم تعد خضراء..." الصادرة عن دار المنتدى للنشر سنة 2020 وقد ضمت بين طياتها 129 صفحة، وقد قامت بتقديم هذه المجموعة الكاتبة اللبنانية رلى عادل العريان، تحت عنوان ورقات تحتضن الهمسات دمعا و" شتاء لم يتدفأ".

يحملنا الشاعر منذ البداية من سؤال مبهم إلى أسئلة مفتوحة على نوافذ البوح ليفضح سر الدمع المنسكب على خطوط الورقة وتجاعيد النقاط التي تقتفي أثر السطور، ليحترف العشق، عشق هذا الوطن المنهوك لتظهر آراء الشاعر وأفكاره السياسية التي تتواتر بين الحين والآخر حين يقول (ص46):

"ترى...
من رأى ثورة ترتجف...
تجر الخطى فوق خد الحطام...
بكل اللغات
لكل الجهات

أقول:

أعيدوا لتونس عبير الزهور ...
فلون الورود إذا احمر شوقا
يعيد الحياة لنبض الكلام..."

كما أن القارئ لن يجد صعوبات كثيرة وهو يقرأ الصفحة تلو الأخرى ليحدد ما غاب من المعنى، ليكتشف عمق خلفية الشاعر عمر دغرير الثقافية والمعرفية والسياسية التي يركب أمواجها لبث آرائه التي تجعلك تبحر في عالم يوقفك أمام مجموعة من الإشارات والرموز، وذلك بقوله، في نص (ربيع الخراب) ص59:

"ربيع الخراب أظنه طال
وعيناه ظلت تراودني عن ثمالة شعر
على طرف شفتي ما تزال...
فيا امرأة لا تهاب جنون الخيال
وتحتلني مثل جيش مريع
تمرس في الغزو والاحتلال"

والشاعر وهو يستحضر وجع هذا الوطن الذي لا يفصله أبداً عن ذاته، ولعل هذا هو السبب الرئيسي في حرارة نصوص المجموعة التي بدت مفرطة في الوجدانية والتي ظلت تطل بين الحين والاخر، متلبسة ذلك الصدق الفني والعاطفي في وجدان عمر دغرير الذي لا يخطئه حس القارئ المتأني. وذلك في قوله، (ص29):

"وجعي الآن يحمل جرحه كالوطن...
لا تغاريد للطيور فوق الأشجار...
ولا ابتسامات في عيون الأطفال
في كل الشوارع في المدن...
وقد نتهجى صرختنا الأخيرة بعد كل المحن..."

حيث تظهر في طيات النص وفي معانيه الصور الفنية التي تعمق رؤية الشاعر، وتضفي عليها جمالاً ورونقاً نابعاً من صدق التجربة واضطرام القلق والمعاناة، لتصبح الدلالة الشعرية معادلاً موضوعياً ودقيقاً للموقف الذاتي من مختلف القضايا المصيرية التي يعيشها الوطن(تونس).

فالشاعر عمر دغرير يحاول تكثيف مفهوم الوطن بما فيه من تقلبات، إلا أنه تخطى هذه المفاهيم فكانت نصوص المجموعة تحوم حول صورة الوطن المنهوك تارة والباحث عن رؤيا جديدة، تارة أخرى، فالوطن هو الملهم رغم ما فيه من مآسي وأحزان.

والمتأمل يلاحظ ظاهرة التكرار التي اعتمدها الشاعر في بلورة أفكاره، والتي تعتبر ظاهرة اسلوبية تلفت الانتباه في نصوص المجموعة الشعرية " ما لم تسقط من العمر...لم تعد خضراء"، حيث ينهض التكرار خاصة على مستوى التركيب اللغوي وعلى بناء النص الشعري ليعبر بذاته عن مبعث نفسي لدى الشاعر، كما يساهم في تمتين وحدة النص وتماسكه بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر، وما يريد أن يبعثه من رسائل ومضامين فكرية. وقد أراد من خلالها الشاعر التعبير عن خوالجه بتكرار الجملة مرتين أو أكثر لغرض في نفسه.

حيث كرّر الشاعر لفظة (أنت أيتها) و (أنت يا امرأة) في مستهلّ بعض المقاطع، وهذا النوع من التكرار الذي يأتي في مستهلّ المقاطع الشعرية لتعميق الدلالة، والتكثيف والانطلاق والتحرّر من هذا الواقع المتدهور. وذلك بقوله: (ص 102):

"أنت يا امرأة
منحوتة في الكلمات
أراك تجلسين على حافة الحلم والأمنيات...
وتضحكين كصخرة يغازلها الموج في كل حين...
يا بسمة تلتقط الحب في الأفراح والمسرات..."

فبين هذا وذاك ترى الشاعر يحاور القصيدة تارة والمرأة تارة أخرى، فالقصيدة أنثى تحيا بأنغامها، وتتجول مسافرة بين صدى الموسيقى ورجع المشاعر المثقلة بالأحاسيس، يخيط منها الشاعر حبه ومشاعره. والوطن أنثى يعاقر من أجله الشاعر خمور الأحزان ويسكب له أباريق الشعر ليكون الوطن تلك الشتاءات التي تؤدي إلى شوارعه المبللة بالأحلام، ليرتشف ماء الشعر وزلال الكلمات، بقوله:" اتركوا لي هذا القصيد... وحده الشعر إمامي والوطن..."(ص38).

فحينما يشم عبير الوطن المستباح، رغم أن الشاعر أضاع دفعة واحدة عواطفه الشخصية والوطنية تجاه قطعة من الأرض التي نسميه الوطن، حين يقول (ص46):

"أعيدوا لتونس عبير الزهور...
فلون الورود إذا احمر شوقا
يعيد الحياة لنبض الكلام...
حرام...
ورب السماء حرام: بلادي عزيزة
ولا عاش من يدعي حبها في الظلام...".

كما نلاحظ تكرار الجملة أو ما يسمى بتكرار التركيب، وهو تكرار يعكس الأهمية التي يوليها الشاعر لمضمون وماهية تلك الجمل المكرّرة بوصفه مفتاحاً لفهم النص الشعري والمرامي التي يرمي إيصالها الشاعر إلى المتقبل، والملاحظ من هذا التكرار أن الشاعر ربما اختار هذه الجملة كمرتكز وأساس الذي قام عليه بناء النص الشعري والدلالة التي يرمي إليها.

والتكرار يقوم بدور كبير في بلورة الخطاب الشعري وهو كذلك يعكس التجربة الشعورية الانفعالية التي ترافق الشاعر لحظة كتابة نصه.

مع العلم أن مثل هذا التكرار يمكن أن يكون مستهجنا، فيجئ في غير مكانه اللائق، ولكنه يتطلب دقة ولمسة من أنفاس الشاعر الذي ينفخ الروح في الكلمات، وهنا تكمن براعة الشاعر في ملء البيت لتطل الأنغام وموسيقى النص، لتكون قيمة التكرار وأهميتها هي الدافع في إحداث موسيقى ظاهرية كما في قوله: "سحابة صيف تمر ويبقى البلد..." وكذلك في قوله:" سحابة صيف تمر ويبقى الوطن...". حيث تكررتا بالتداول في مطلع كل مقطع قرابة 31 مرة، ليعمل تكرار هذه اللازمة على ربط أجزاء القصيدة وتماسكها ضمن دائرة إيقاعية واحدة، وكأنّها قالب فني متكامل في نسق شعريّ متناسق.

كما يكشف هذا التكرار عن إمكانيات تعبيرية تغني المعنى وتثريه، خاصة أن هذا التكرار قد جاء في موضعه، بحيث يؤدّي خدمة فنيّة إيقاعية مبنية على الصدى والتردد على مستوى النص، وهو ما يؤكّد أن التكرار الذي يبدأ من الحرف ويمتد إلى الكلمة أو العبارة، وكل جانب يعمل على إبراز جانب تأثيري خاص للتكرار.
كما أن المتأمل في نصوص المجموعة يلاحظ أن الكتابة الشعرية عند الشاعر عمر دغرير هي فعل وجود، فهو حين يهدهد حزنه ينتظر من القصيدة أن ترق لحله وترفع عنه نزيف السنين العالق في وجدانه الحزين، ويظهر ذلك من خلال قوله: (ص62):

"جرعة... جرعة... أهدهد حزنك حزني
عسى أن يرق لحالي القصيد
ويرفع عني نزيف السنين...
وقد استحم في دمع بكاه...
بعدما ابتسم
ويرحل هذا الربيع الكئيب...
وتغدو الحروف في منتهاه"

ليعبر بنا الشاعر إلى عمق المعنى، وهو يسكب نبيذ قصائده بوعي شعوري يرتكب جريمة الرقص على وتر الحزن، عندما يتعلق الشعر بحزن الشاعر وشجن الحياة التي تحاول من حين لآخر أن يرتشف الأمل القابع في قاع القمقم الذي يسمى الوطن، والذي تلطمه الأمواج فلا يستقر على حال، ليصحو الشاعر عن كابوس، هذا الكابوس الذي حرك وجدان الشاعر، ليرسل تراتيله الحزينة في شكل قبسات يحاول من خلالها التعبير عن موقفه و لكنه في ذلت الوقت نقد، و تجسيد لما يعيشه الوطن من آلام وأحزان، ومن خلاله لينفتح على ما يعيشه الوطن العربي من تقلبات وأحزان جراء الثورات العربية التي حصلت، ومبشرا بالثورة التي يريدها لتغيير العالم.

كما لا يفوتني أن أشير بأن قصائد الديوان مزجت في أغراضها بين العاطفي، والوطني، والسياسي، والاجتماعي، كما تتناسق وتجتمع الأغراض في قصيدة واحدة في أغلب الأحيان بانسيابية مدهشة. لتعبر عن خوالج النفس الذاتية من ناحية ومن ناحية أخرى لتعبر عن تجارب وأحاسيس جماعية.

لتطفو مع هذه الأغراض مسحة الحزن ومعانيه في قصائد عمر دغرير، وهو ما انعكس على صفحات مجموعته الشعرية (ما لم تسقط من العمر...لم تعد خضراء)، حيث بدا معجم الحزن والألم والقلق طاغيين، وهذا ليس بجديد على شعراء عصرنا، حيث عبر عن ذلك اسماعيل عز الدين بقوله: "وفي شعرنا المعاصر استفاضت نغمة الحزن حتى صارت ظاهرة تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إن الحزن قد صار محورا أساسيا في معظم ما يكتب الشعراء المعاصرون من قصائد".

وختاما يمكن القول بأن الكتابة الشعرية عند الشاعر عمر دغرير التي تعددت فيها المواضيع، لتجتمع في موضوع واحد يتمثل في (الوطن) بكل ما فيه من أحزان وأفراح، وهو ما جعل شعره يمثل تجربة حياتية غير مخصوصة منفتحة على القارئ.

لينحو منحى الوظيفة الأولى للشعر –لاسيما المعاصر- بتعبيره عن الواقع بكل ما فيه، ونقل معاناة الناس وطموحاتهم من خلال صوت الشعر، فجاءت معظم أغراضه كما أشرنا وجدانية وإنسانية ووطنية، يظللها الشاعر بسحابة سوداء قاتمة طغت على صفحات الكتاب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى