الثلاثاء ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٣

قراءة في رواية «الحاسة صفر» لأحمد أبو سليم

مصطفى بشارات

دعوة للعودة للبدايات والسؤال عن حقيقة ما حصل

في الرياضيات لا قيمة للصفر على اليسار، لكن في الفلسفة، يمكن أن يتراءى لنا كنقطة معلقة في الهواء، أشبه بسؤال مفتوح على كل الاحتمالات، وجميع الاجابات.

في اللغة، إذا كان الصفر نقطة في نهاية جملة، فإنه قد يكون مؤشر على بداية حتمية لجملة أخرى.
لذلك، ربما لذلك تحديدا، اختار أحمد أبو سليم "الحاسة صفر" عنوانا لروايته. كأن أبو سليم أراد أن يقول لنا، من غير أن يصرح، بضرورة العودة للبدايات – إلى نقطة الصفر – كي نعرف لماذا حصل ما حصل، وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟!

يدور الجزء الأكبر من أحداث رواية "الحاسة صفر" في بلدة عيتات اللبنانية في قضاء عاليه. وكانت البلدة بمثابة خط تماس في جبل لبنان، خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي وضعت أوزارها عام 1989 بتوقيع اتفاق الطائف.
تغطي الرواية ما دعيت بـ "حرب الجبل" عامي 1984 و 1985، لكنها تتناول، في العموم، الفترة التي أعقبت مغادرة غالبية الفصائل الفلسطينية للبنان عام 1982، وتثير جملة من الأسئلة في مركزها سؤال يستقصي (لماذا كان ذلك الخروج هزيمة، وهل يخدم انكار الهزيمة، أو تمويه تسميتها وتسمية غيرها من الهزائم، هل يخدم القضية؟!).

تتنقل شخوص الرواية بين الأردن ولبنان وسوريا وفلسطين، لكن نقطة البداية فيها – دعوني أصطلح على هذه النقطة بـ "صفر" – ترسمت بدقة، عندما فقدت آثار (عيسى) الذي انتمى لحركة فتح، وقاتل في الأغوار وجرش، وعايش الحقبة التي شهدها الأردن عام 1970 والمسماة "أيلول الأسود"، قبل أن يغادر إلى لبنان مع كثيرين ذهبوا للقتال في صفوف الثورة الفلسطينية.

شبه الكاتب الصفر بالشمس وقال إن غيابها هو "أول الصفر"، وعودتها "بداية الحياة". وفي موقع آخر قال إن الصفر هو "أول الموت" و "أول الحياة". وفي حين أتى الروائي على ذكر الصفر كثيرا، فإنه لم يأت على ذكر "الحاسة صفر" إلا مرة واحدة.

قال أحمد أبو سليم على لسان بطل الرواية الرئيس (سعيد أحمد محمود الدوري) إن الحاسة صفر هي "حاسة القلق والشك والألم" ص 151.

تلك المرة الوحيدة التي أتى فيها أبو سليم على ذكر "الحاسة صفر"، وهو اسم روايته – صدرت في طبعتها الأولى عن دار فضاءات في عمان عام 2012 – لكن، برأيي، فإن هذه المرة اليتيمة كانت كافية لوحدها، كي تشرح المقولة التي ذهب إليها الكاتب في روايته، بل لتفصل كل مكونات "الرصفية" التي "انبنت" عليها هذه المقولة.

اختفاء (عيسى) كان صاعق التفجير لكل أحداث الرواية التي واكبها الكاتب في الرحلة التي بدأها (سعيد) – بطل الرواية الرئيس – في البحث عن شقيقه، وخلالها تعرف إلى "التنظيم"، وأصبح عضوا فيه، وتدرب في صفوفه، ومارس الحراسة لسنوات في معسكري "الخمسين" و "الستين" التابعين له في بلدة عيتات، وخاض غمار عمليتين: الأولى – انطلقت من الشواطئ اللبنانية وصولا إلى نهاريا، والثانية- وقعت في الأردن التي غادرها في البداية بحثا عن (عيسى)، وعاد إليها أخيرا؛ لاغتيال بيرس، عندما كان الأخير في زيارة إلى عمان؛ ردا على الهزيمة التي مثلها الخروج من لبنان وما تبعها من اتفاقات سلام، وفق (سعيد) أو (الكاتب).

أثناء ذلك، تعرف (سعيد) على "التنظيم": فكرا، وممارسة، وشخوصا. ومن بداية الرواية، إلى نهايتها، بقي اسم "التنظيم" مبهما، معلقا على علامة استفهام مثل المرحلة، حتى لو خاطب أفراده بعضهم بعضا بصفة رفيق، دلالة أنهم ينتمون لحزب يساري، وأظن أن أحمد أبو سليم تعمد هذا الابهام؛ ليقول إن "الخراب" الذي شهده وانتقده (سعيد) في "التنظيم"، لا زال يحدث، ولم تسلم منه كل الفصائل الفلسطينية، وكان هو المسؤول عن "المجهول" الذي ذهب إليه الفلسطينيون بعد الخروج من بيروت عام 1982، وأصبح بعدها اليمين واليسار سيّان.

"أبو رمزي قال في لحظة صدق وتجلي إن اليسار ما عاد يسارا، واليمين ما عاد يمينا، الخطوط الفاصلة بينهما بهتت، وكادت تنمحي، فالدنيا انقلبت بعد الخروج، والثورة تطيش الآن على شبر ماء، والناس عاجزون عن الاحساس والرؤيا، لكنهم سيبكون ذات يوم دما على الخروج من بيروت" ص 256.

أحمد أبو سليم (الكاتب) أو سعيد الدوري (بطل الرواية الرئيس)، شخّصا أسباب الخراب الذي بدأ يستفحل في جسد " التنظيم" – كيف انفصل عن أهدافه وجمهوره و"تكلّس" – وأدى في النهاية إلى الهزيمة التي واجهها مع نهاية الحرب دون أن يعترف بذلك، ومعه كل الفصائل، وبشكل ما "العقل الجمعي الفلسطيني"؛ لأنه يصر على رفض تسمية الأشياء بمسمياتها!

كان "ثمة من يأخذ دفة الثورة إلى مكان قصي دون أن ننتبه" ص 176.

"الفكرة العمياء التي كنا نتحدث عنها، أن نذهب في الأشياء إلى أقصى ما نستطيع" ص 177.

"المشكلة تكمن في الهوة بين النظرية والتطبيق" ص 178.

"الثورة – أصبحت – مجرد ملكية فردية، تماما كالحكومات والدول في هذا الوطن – العربي – الكبير" ص 179.
رفع ذريعة الأمن – أمن الثورة – لتبرير كل أسباب القمع.

"دكتاتورية الحزب" و "حرية مجموعة صغيرة مقابل عبودية الآخرين".

تلك هي بعض أعراض "المرض"، وكثيرون من أعضاء "التنظيم" شخّصوه، واكتووا بناره، لكنهم آثروا السكوت: إما خوفا من العقاب، أو خشية من الشعور بالخيبة والانكسار، وتحمل عبئ البدء من جديد والعودة إلى النقطة صفر، نقطة البداية.

لم يطق، بالمقابل، (سعيد) الصمت، وحين تحدث هو وآخرون، فقط تعبيرا عن رأيهم كي يتوقف الخطأ، دفعوا ثمنا باهظا!

"لم تعجبهم تساؤلاته – رفيقه في الحفرة التي وضعوه فيها – فسجنوه، ولم يعجبهم سكوتي – رفض (سعيد) قبول تبريراتهم – فسجنوني" ص 249.

خلال رحلة البحث عن (عيسى )، سالت دماء كثيرة، واُثرى كثر، وتكشفت أيضا حقائق كثيرة.. سقط من سقط، واستشهد من استشهد، وبقي من بقي، وغادر من غادر، وبقيت بيروت على حالها أشبه بـ "كعكة العرس" تتقاسمها ألف يد ويد.

(ميشيل) الذي كان يتستر خلف هويتين، واحدة في جيبه اليمين يبرزها أمام "القوات"، والثانية في جيبه اليسار يخرجها أمام الفصائل، لم يسعفه حذره ووقع في المحظور عندما أخرج الهوية الخطأ، في التوقيت الخطأ، أمام العنوان الخطأ، فقتلته "رصاصة عمياء"!

"عبثا حاول أن يقنعهم بأنه ينتمي إلى التنظيم بعد أن أخرج الهوية الأخرى وقدمها لهم، لم يحاولوا أن يصدقوه، فقتلوه!" ص 272.

(جورج) الذي أتى من فرنسا ليلتحق بالثورة، عاد أخيرا إلى والده في تونس، وأصبح عضوا في اللجنة المكلفة بالتفاوض مع "إسرائيل".

(وحيد) التحق بوالده الشهيد.

(زينب) التي قدمت نفسها على أنها ابنة الفران وتزوجها (عيسى) قبل أن يموت بأسبوع وأنجبت منه طفلا، تبين أنها ليست كذلك، فابنة الفران ماتت منذ سنوات، وهذه الـ (زينب) لم تكن إلا شقيقة ابن التنظيم، (أبو الفوز)، أراد لها أن تحوز على راتب الشهيد حتى "لا تمد يدها للناس الذين كانوا إذا أعطوها ساوموها؛ لأن زوجها مات بقذيفة حرب، وذنبه أنه لم يكن قد سجل اسمه مع أي تنظيم كبقية الناس الذين اتخذوا من التنظيمات مصدر رزق وتكسب" ص 276.

(ليلى)، والتي أحبها سعيد وكانت تعرضت للاغتصاب خلال مذابح صبرا وشاتيلا، تزوجت قبل الحصار بشهر واحد من (رجب): مجنون، أشعث الشعر، رث الثياب، كان يطوف الشوارع، يستدر عطف المارة ليعطوه سجائر.

(دلال) – والدة (ليلى) التي كانت شاهدة على المجزرة ونجت منها بأعجوبة – ماتت لاحقا بقذيفة.

كل هذا الضياع والدم، هذه الخسائر الجسيمة والتحولات الكبيرة، وقعت عشية الخروج من بيروت، وتكثفت بعده. لقد أثقلت كاهل (سعيد)، وأصبح ينوء تحت وطأة حملها.

"كيف أستطيع أن أفر من الحرب؟

كيف يمكن للأحلاف أن تبنى وأن تهدم مثل جدار من رمل، كيف يمكن للدم أن يتعمد مع الدم ثم ينفصلان، ويصبح لكل منهما منبع وقناة ومصب؟" ص 312.

"كنت أريد أن أهرب من الماضي، وأرسم لنفسي مستقبلا جديدا بيدي، دون تدخل من أحد.

الماضي هو الشيء الذي لا يمكن لك أن تخرج منه؛ لأنه دثارك الذي يغطي عورتك، فإن سقط انكشفت عورتك" ص 313.

خلال ذلك، في تلك الفترة الأكثر انكسار وتوترا، يلتقي (سعيد) بـ (سامي)، شقيقه الثاني بعد (عيسى) الذي ابتلعته الحرب.

"لست أدري من أين انشقت الأرض ذات يوم وأخرجته من بطنها، حاملا معه كل الماضي على كتفيه" ص 313.

"رحنا نتبادل الحديث، كأنه تعارف جديد، كأن الزمن عاد إلى الصفر" ص 314.

نعم. عاد الماضي الذي يعتبر الهروب منه مجرد وهم - هذه مقولة الراوي أو الكاتب الرئيسة!

عاد (سعيد) إلى النقطة صفر، عندما أخبره (سامي) بسر عداوة جدته لأمه، وكيف جاءت من الخليل إلى الأردن لتخبره كل ما كانت الأم تحاول إخفاءه عنهم طوال عمرها.

"قالت إن أمي اغتصبت ليلة الخروج من حيفا" ص 319.

"قال إنها حينما جاءت إلى الخليل لم تكن عذراء، وأنهم اكتشفوا فيما بعد أنها حامل بعيسى، وكان عليهم أن يقتلوها، لكن جدي رفض، وراح يدافع عنها، ولا أحد يدري كيف استطاع أن يقنع أبي – ابن أخيه – بالزواج منها لكي يستر على فضيحتها.

تزوجها أمام الجميع، ظل معها ثلاثة عشر عاما صورة بلا أصل، وحين قرر أخيرا أن ينسى الماضي، ويطويه إلى الأبد، نهض الماضي من الرماد" ص 320.

مردخاي الذي كان ليلة سقوط حيفا ملازما هو من اغتصبها، وعندما أصبح قائدا عسكريا لمنطقة الخليل تعمد أن يذكّر الجد بالحادثة لإهانته، واعتقل الجد وعذّب ورفض الرواية، لكن مردخاي أشاع الخبر بين الناس، فضعف الحاج، انكسر، ولم يقوى على التحمل، ومات في اليوم التالي لخروجه من السجن.

"كل ما بناه كان بيتا للعنكبوت! كل ما حاول أن يخفيه طوال تلك السنين انهار دفعة واحدة.

طردتنا أمي إلى الشارع، فوقفنا أمام الباب مذعورين لا نعرف سببا لتلك الثورة المفاجئة العمياء التي أصابت أبي، صار مثل قطعة قماش سوداء، جافة، ومات في الصباح الباكر" ص 321.

ها هو أحمد أبو سليم يفاجئنا – ربما تفاجأ هو نفسه – أن نقطة البداية – النقطة التي استأذنتكم حين اصطلحت عليها بالنقطة "صفر" – لم تترسم بفقدان آثار (عيسى)، بل كان جذرها يمتد إلى نقطة أبعد وأعمق من ذلك بكثير، تشكلت بؤرتها في الماضي، عندما اغتصب مردخاي والدته ليلة سقوط حيفا، واتسعت، وكبرت البؤرة، ولا تزال تتسع، وتكبر.

كأن أبو سليم يقول لنا إن هناك، دائما، نقطة وهمية يجب أن نكون حذرين من الانخداع بها، وعلينا البحث عن النقطة الحقيقية التي اصطلح عليها بـ "الحاسة صفر"، وأن لا نخشى القلق والشك والألم الذي قد نتكبده خلال ذلك؛ لأن هذا هو الدرب الوحيد للوصول إلى الحقيقة، دون رتوش أو تزويق، لمعرفة لماذا حدث كل الذي حدث، ولماذا لا زال يحدث.

كأن أبو سليم يعيدنا إلى عام 1969، إلى رائعة غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، عندما سأل "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله".

أما لماذا اختار الكاتب اسم (عيسى)، بالذات، فتلك حكاية أخرى. ولا تناقض، بالمقابل، أن يزرع المقاتل شجرة في المعسكر، وطفلا في رحم امرأة!

مصطفى بشارات

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى