الخميس ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٠

قراءة في رواية «الخروج من الصمت»

نائلة أبو طاحون

رواية عن المرض والفساد للكاتب المغربي (معمر بختاوي)

لعلّ الخروج من الصمت كالخروج من قمقم، فقصة البطل مع مرضه جعلته يتقوقع حول نفسه، فلم يعد يرى من الحياة، غير كمية هائلة من خلايا مصابة تفتك به، وكم هائل من الحقن والأدوية والصور التشخيصية، والآلام المبرحة التي عانى منها البطل، التي صاحبته طيلة فترة العلاج، مرورا بالحالة النفسية للمريض وعائلته، والآثار الجانبية للعلاج الكيماوي ومضاعفاته النفسية والجسدية، التي عايشناها مع الكاتب بقلوبنا، وأحاسيسنا المرهفة، تدفعنا اللهفة للمتابعة متأملين أن نلمح إشراقة للأمل بين طيات آلامه.

معه عشنا وَأْدَ أحلامه الورديّة التي كان يسعى لتحقيقها، فبعد اكتشافه للمرض الذي نخر جسده، غدا هاجسه الوحيد التفكير في الموت وفي أسرته التي ستعاني من بعده، إن ما انقضّ الموت عليه فجأة، كما داهمه المرض فجأة، كيف ستكون حياتهم من بعده بلا معين أو معيل؟

"كان السؤال الذي يلاحقني منذ أعلن المرض الحرب عليّ هو : كيف ستعيش اسرتي من بعدي، من سيعطف على ابنيّ عندما أغادر هذا المسرع فجأة، وينتهي دوري كأي شخصية في دراما مأساوية؟ .......من سيحميهما من نفسيهما ومن المجتمع المليء بالأشرار والمفاجآت" ص(42)

أتراه يستسلم للمرض؟ ويمضي في رحلة اللاعودة، مُسدلا الستار على ما مضى من حياته! أم يعلن التمرد على ضعفه، ويقف متسلحا بالإيمان في وجه خصم عنيد هو الأخطر على الصحة في العالم أجمع؟ ها هو يتشبث بأمل نبع من إيمانه الذي تعمّق بعد محنته، صوت المؤذن لصلاة الفجر يعلن أن الصلاة خير من النوم، وكأنه يسمعها لأول مرة يتفتح قلبه، يخترقه النور الآتي من إيمان لا يشوبه شائبة حتى وإن أخذته دوامة الحياة بعيدا.. يقول:

"لا إله إلا الله.. كنت أرددها كالببغاء وراء المؤذن، ولم أكن أقف عند سِحرها كما أقف عندها الآن في هذا السَّحَر"

"هذه المشاعر كانت فيّ ولم أكن أدركها"

كنت كسائح من شرق أوروبا يكتشف الإيمان لأول مرة" ص(58)

نـوّه الكاتب منذ البداية إلى أنّ وقائع الرواية تجربة حقيقية، يرويها للمرضى المصابين بداء السرطان ولذويهم، لعلهم يجدون فيها الأمل والنجاة من براثن هذا المرض الفتاك، دارت أحداثها ما بين "الرباط" و "وجدة" حيث يقيم البطل، ليجعلنا أكثر قربا وتعاطفا مع شخصيات روايته، ننتقل معه في رحلة الذهاب والإياب المكوكية التي استمرت ست سنوات من العلاج، عبر قطار يقطع المسافات ببطء شديد، عشر ساعات مدة الرحلة، هذا إن لم يتعرض القطار لأعطاب توقف مسيرته وتزيد الرحلة طولا... فلا يهمه حال راكبيه من المرضى، فمنهم من يود لو يطير ليصل بأسرع وقت ممكن، ويصف لنا رحلة الذهاب والعودة:

"السفر قطعة من العذاب" ص(25)

وأثناء سفره؛ نعيش معه حالة الضياع بعد سرقة هاتفه الذي دون فيه أرقام الأطباء والعيادات الطبية اللازمة له، وخلال الأحداث يُظهر الكاتب جليا التآلف الذي يحدث بين المرضى وذويهم، وهم ينتظرون دورهم لأخذ الجرعة المقررة، فيتبادلون النكات ويضحكون، يتحدون عن المرض، ويُطمئنوا ذوي المرضى الجدد القادمين للعلاج، يفتح كل منهم قلبه ليروي تجربته مع المرض، مشيرا الى أنّ بعض المصابين هم من المدخنين و المدمنين، ك"علال" "ومحسن" ...لكنه كان بعكسهم، فهو غير مدخن و يمارس التمارين الرياضية باستمرار.

يطرح الكاتب عبر روايته قضية اجتماعية خطيرة، من خلالها يدقّ ناقوس الخطر، ويشير بإصبع الاتهام، لكل من يغض الطرف عن محاسبة أولئك الذين يُروّجون المخدرات، ويمتصون دماء الفقراء، يطرح قضية فساد تمثلت في شخصية الامبراطور "السي رحال" ، الذي عمل عنده "محسن" ثم تخلى عنه بعد مرضه، ولم يقدم له غير مبلغ بسيط لا يفي علاجه لشهر واحد فقط، مما اضطره لرهن بيته لتوفير مصاريف العلاج في مشفى مختص، وهو أحد أولئك الذين قفزت ثروتهم إلى آلاف الملايين من تجارة المخدرات وحبوب الهلوسة بأنواعها، وترويجها بين الناس مستغلا حاجة الفقراء للعمل وتوفير لقمة العيش.

يصف الكاتب الضحايا على لسان "محسن"بقوله: " ملايين من ضحاياه هاموا في الطرقات، خرجوا عن الخط الأحمر ومشوا على هامش الحياة، شيد بعظامهم طوابق وعمارات من الشهرة والمجد وملأ بأموالهم المصارف والبنوك، وأصبح عنده مال قارون الذي لا ينقضي." ص(81)

مشيرا إلى أنّ تفشّي هذه الظاهرة بين الشباب وهم أمل المستقبل سيُسهِم في تأخّر بلدهم عن الركب في مجالات التقدم والتطور والرفعة.

كذلك تطرق للأخطاء الطبية التي تحدث في التشخيص، وفي تحديد خطوات العلاج اللازمة منذ البداية، كما حدث مع بطل الرواية، وتهرب الطبيب المسؤول عن مريضه وإتلاف ملفه من المشفى الذي تلقى فيه العلاج، ليبدأ البطل دوامة العلاج من الصفر، بعد تطور المرض معه لينتقل إلى أماكن أخرى، وأشار بإيجاز للأوضاع المزرية في المستشفيات العامة.

جاء الإهداء لزوجته التي كانت له السند والمعين في محنته، وعصاه التي يتكئ عليها إن ما أصابه الوهن، ومكمن أسراره إن ما اشتكى، امرأة تستحق التقدير والاحترام ويحق لبطلنا أن يفخر بها، فمهما كانت المآسي مريرة، فلا أجمل من أن يجد الإنسان رفيقا لدربه في طريق محفوفة بالأشواك والآلام يقول عنها: "هذه المرأة كنز صاف...ملاك أرسله الله إليّ من السماء، في محنتي لم يعرفني غير أمي وأخَوَيّ أحمد ومصطفى وهذا الملاك الطاهر" ص (124)
تنتهي الرواية بانتصاره على المرض بعد فترة علاج طويلة، ولم يتبق إلا فحوصات دورية للتأكد من سلامته. من فرحته يكاد يصرخ للدنيا بأكملها: أنا قد شفيت، كم أنت عظيم يا رب.
لغة الرواية: سردية منسابة، ممتعه ممتنعة، امتازت بالسهولة والمرونة، شملت صورا فنية بديعة متعددة.

جاءت الرواية على لسان البطل، ولقد وظف الكاتب الحلم للتعبير عن هواجسه ومخاوفه من حالته المرضية.. "وكأن الدنيا أصبحت صحراء على امتداد البصر.. كنت أتنفس بصعوبة شديدة، رفعت يدي نحو الأعلى، كنت أغرق وسط الرمال.. أفقد البوصلة، أعيش على أملٍ واحدٍ في النجاة.. ازداد عطشي.. ازداد تعبي. الصحراء تحولت إلى غابة سوداء، أشجارها كثيفة.. فيها بوم وغربان وكلاب وأفاع.. اختلطت أصوات الحيوانات فما عدت أميّز شيئا. وراء الغابة مياه صافية كالكوثر، تصعد منها بخور وألوان قوس قزح. تساءلت كيف عبور هذا العطش وهذه الأشجار؟ وهذه البخور إلى الضفة الأخرى؟"ص(20)

كما وظّف المونولوج الداخلي وحديث النفس لِنَفْس الغرض.

مستفيدا من مخزونه الثقافي الذي يبدو واضحا وجليا، وظّف الكاتب التناص الديني والأدبي والتراثي في روايته، في عدة مواقف، مما أسهم في اثراء عمله الأدبي.

* تنويه وملاحظة لا بدّ منها، فإن النص القرآني الذي استشهد به الكاتب صفحة (41) (بحاجة للمراجعة والتدقيق)

خلاصة القول لأولئك المصابين بهذا المرض العضال، أن المرض والشفاء أمران مقدران من العليّ القدير، يظل الأمل بالله هو الدافع للتحدي ، ومهما قست الحياة سيزهر الأمل يوما، فلا تفقدوه.

نائلة أبو طاحون

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى