الأحد ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٨
بقلم محمد صالح رجب

قراءة في رواية «انحراف حاد»

رواية أشرف الخمايسي

في روايته «انحراف حاد» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2014، والتي دخلت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» عام 2015، يطرح أشرف الخمايسي سؤلا غير منطقي: هل يستطيع الإنسان أن يقهر الموت؟ إجابتك السريعة، والبديهية، بالنفي هي موضوع هذه الرواية، حيث يدعوك الكاتب إلى التريث وإعمال العقل والتفكر وكشف مكامن القوة بداخلك، من خلال شخصية «صنع الله» التي ابتدعها، والتي يقول عنها" لزم الانعزال ،واستمر يدعوا الناس عبر الأزمنة، فرادى، يخترق حياتهم، ويدعوهم إلى اكتشاف قيمتهم الحقيقة، والى قراءة محايدة للكتب التي يقدسونها، وأن يحللوا تصرفات أنبيائهم بعقل مستنير بعلوم حاضرهم، ليعرفوا أن الله مجد الإنسان، وعلى الإنسان أن يخرج مكامن عظمته، كي يعرف كم هو الله أعظم مما يتصور. يدعوهم، فمن يؤمن بقدرة الإنسان على تحصيل الخلود يرسله ليسعى بين الناس بالفكرة المهيبة، ومن لا يؤمن يدفع به إلى ما يؤمن به من موت، فيدبر له سبل القتل، ومن غير رحمه، فنبتة الخلود يجب أن ينقى ما حولها من محبي الفناء، ومقدسيه).

في تلك الرواية، قبض الخمايسي قبضة عشوائية من الشعب المصري، فأفرزت خمس عشرة شخصية، مثَّلت عينة عشوائية من المجتمع وكل منها وراءها قصة، حملت تلك العينة متناقضات وتنوع الشعب المصري، فكان منها المتدين والمنحل، العجوز والشاب، الرجل والمرأة والطفل، كان منها المسلم والمسيحي، المدني والعسكري، الصعيدي والقاهري..استقلوا جميعا سيارة ميكروباص بيضاء ذات إطار فضي، حملت لوحة مرورية رقم 345678 أجرة أسيوط، يقودها أبو أميرة الذي يعمل في تلك المهنة منذ ثلاثين عاما والذي تفنن في الاعتناء بها، فكانت كما كتب على واجهتها "وزيناها للناظرين".

لم يلتزم الخمايسي بالترتيب الزمني للأحداث ولم يعتمد على عمودية السرد حيث التتابع المنطقي للأحداث المفضي إلى نهاية متوقعة، وإنما كانت له مناوراته السردية التي تدفع السأم والملل عن المتلقي، فبعد أن اختار تجمع هذا العدد من شخصياته في سيارة ميكروباص أجره، كانطلاقة، ونقطة بدء، اعتمد المفارقة الزمنية، واستخدم بشكل واسع تقنية الاسترجاع لاسيما الاسترجاع الداخلي، وبدرجه اقل الاسترجاع الخارجي، ليكشف لنا، من خلال راوٍ عليم، يوجه الأحداث ويبدي وجهة نظره ويعرض فلسفته للحياة، عن أحداث جديدة تضيء لنا جوانب من شخصياته الروائية والتي أولاها ما تستحق من عناية باعتبارها العمود الفقري للعمل الروائي، فترك لها الحرية في مواضع مختلفة، لتسرد الأحداث على لسانها ومن وجهة نظرها وعبر مستويات عدة من اللغة. لم يكتف الكاتب بإظهار الأبعاد الخارجية لشخصياته، وإنما تغلغل داخلها ليخرج لنا أبعادها الداخلية وما يختلج في الصدور، ناهيك عن شبكة العلاقات التي ترتبط بها، بما فيها علاقتها بالأمكنة والذي انعكس على سلوكها الشخصي.فحين يتحدث عن"حميد المجري" أخطر نصاب، تحدث عن عشوائية المنطقة التي يسكنها، تلك المنطقة القادرة على إيواء البشر والعقارب والفئران والتي يسكنها خطرون، ولن يغامر الضباط والعساكر بالمشي فيها مسافات طويلة ليداهموا غرفة مسجل خطر.

رحلة الحياة العابرة للوصول إلى الخلود، رحلة شاقة حيث الطرق الصعبة،المنحنية التي تفاجئنا عند كل منحنى بما يدهشنا، ومن ثم فهي في حاجة إلى قائد محنك يمسك بذمام الأمور ويمنعها من الانحراف الحاد، هكذا فعل الكاتب حين أتاح لنا الاندهاش مع كل منحنى دون أن يفقد سيطرته على نصه الذي بدا متماسكا، مترابطا، معتمدا مبدأ السببية، فما كان للمجند "ياسر المبروك" أن يغضب إلا أن العقيد أمعن في سبه بأمه، وما كان "ياسر المبروك" ليحاكم عسكريا لولا أنه رد الإهانة ذاتها إلى العقيد "هاني علي الدين"، وما كان الشارع ليستقطب" سوسن" لولا أنها تاهت صغيرة، وما كانت "نوال" لتسكن القاهرة لولا وجود قريب لها... وهذا السائق المحترف الذي قضى في هذه المهنة ثلاثين عاما من عمره البالغ خمسة وثلاثون، ما كان له أن ينحرف دون الانشغال المفرط بتلك المرأة الجميلة، ومحاولة الربط بينها وبين "سوسن" التي عرفها في لقاء حميمي وحيد منذ سنتين، وما كان النص عموما ليفصح عن مكنوناته وعن تلك التفاصيل المدهشة دون أن يكون الانحراف "حادا"..

كان لافتا أن يكون الشيخ والقسيس في المقدمة، في المقعد الأمامي إلى جوار السائق، فالأمر يبدوا أنه مقصود، لاسيما إذا ربطنا بين ذلك وما جاء على لسان " زياد" في أحد حواراته، حين قال: (سبب المشاكل مش ربنا ؟؟ الناس اللي بتتكلم نيابة عنه)، يقصد أن هؤلاء الذين يتكلمون نيابة عن الله هم سبب المشاكل.وفي حوار الشيخ "الغريب" مع "صنع الله"، يقول" من لا يستطيع العوم لا يتقدم لقيادة السفن"، وكأني بالكاتب يريد أن يقول أن رجال الدين والذين يتحدثون باسم الله هم من يتصدرون المشهد الآن، وهم سبب ما نعانيه من مشاكل، وما يعزز تلك الفرضية هو شخصية "صنع الله" ذاتها، تلك الشخصية التي تسعى إلى تعظيم الله، وتتحدث باسمه، لكنها تدعوا الناس إلى ما يخالف شرع الله، فتعظيم الله الذي تسعى إليه، مؤكد لن يكون بمعصية الله، وإنكار الموت،والبعث، والحساب.. وهذا يحيلنا إلى العنوان مرة أخرى "انحراف حاد"، أي انحرف حاد كان يقصد؟ أهو انحراف الوسيلة والنهج؟ أم انحراف القصد والهدف، أم أن الانحراف الحاد كان في طرح مثل تلك القضايا التي تمس المقدسات؟.

ورغم أن الأسئلة العديدة التي فجرها النص ظلت حائرة، دون إجابات، إلا أنه نجح في هز العقول هزة عنيفة وبشكل قاسٍ، ودفع أصحابها للتفكير واستخدام نعمة العقل التي هي منحة من الله، فالشخص الذي يكتشف قدراته مؤكد سيكون أكثر تعظيما لمن وهبه الحياة..

رواية أشرف الخمايسي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى