الأربعاء ٢١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٢
بين الواقع والفانتازيا: ضمير الثورة وذكرى الشهداء

قراءة في رواية «قبل أن أنسى أني كنت هنا»

علاء نجدي أبو المجد

توطئة:

لقد تلاحمت المتناقضات في رواية (قبل أن أنسى أني كنت هنا) للكاتب المبدع إبراهيم عبد المجيد لتشكيل عالم سردي يعبر عن ضمير الثورة، فيستعيد ذكرياتها، ويبكي لشهدائها، وفي الامتزاج بين الواقعية والفانتازيا، تركيبة عجيبة وخلطة سردية أبدع الكاتب في حبْكِها، وَمَزْجِها بالحس الإنساني لأشخاص عاصروا أحداث الثورة، وعاينوا واقعها، وعاشوا مرارة الحزن والألم لفقد الأحبة الذين استشهدوا، فالرواية تعد بمثابة مرثية، وبكائية على الشهداء، وإننا من خلال القراءة نجد أن الكاتب قد وظَّف العجائبية للتعبير عن فكرة تلح على رأسه باعتباره شاهدًا على زمن الثورة وأحداثها، وما دام الثوار قد عجزوا عن الأخذ بالقصاص، فالاستنجاد بالقدر والقوى الخارقة التي تنتقم للشهداء، هو الحل البديل، يقول الراوي على لسان إحدى الشخصيات: "أنا لست خائفة الآن، أنا أعرف أن هناك انتقامًا يحدث من ممن قتلوا أصحابنا. أشعر بأن الأمور ستزداد تعقيدًا، وربما تنتهي مرحلة هروب الأشجار إلى هروب الأعمدة ثم سقوط البيوت، هل يمكن أن تنهدم البلاد على من فيها؟"(الرواية ص52).

 الشهداء الأحياء

في الرواية بدا ضمير السارد منشغلًا بأمر الشهداء، حزينًا على فقدهم، وقد زاد حزنه بسبب عدم القصاص لدمائهم، ومن ثم نجد ذكراهم حاضرةً في ذهنه، وكأنهم أحياء يعيشون بين جنبات وجدانه، فعبَّر عن تلك الحياة في الرواية من خلال عدة شخصيات ترسم لنا حزن الأهل والأحبة على فقد أحبائهم؛ بدءً من البطل نور الحزين على وفاة حبيبته (نادين) التي استشهدت في يوم جمعة الغضب، والزوجة (نجوان) التي فقد حبيبها (طارق)، ووالد الشهيد (سامح بكير)، و(حسن العبودي)، الرجل الخمسيني الذي فقد ابنته، والمرأة الغريبة التي قُتِلت ابنتها، وأجبرتها الشرطة أن توقع على شهادة تفيد أن ابنتها ماتت ميتة طبيعية.

فقضية الشهداء وفقدهم كانت من أهم القضايا المركزية في الرواية، وكأن ثمة رسالة مفادها إن دماء الشهداء لعنة توشك أن تصيب البلاد، يقول الراوي على لسان نور بطل الرواية: "حاصرني من جديد هاجس أن كل ذلك يمكن أن يرتفع إلى السماء تاركًا الأرض الظالمة لظالميها يبابًا" (الرواية ص14).

وفي الرواية نجد توجيه السرد تجاه الحديث عن الشهداء، وملابسات استشهادهم، وأثر فقدهم على أهلهم وذويهم، وأيضًا من خلال حديث الشهداء لشخصيات الرواية، أو رؤيتهم كأنهم أحياء في بعض الأماكن، وقد بدأ ظهور الشهداء الأحياء في منذ الصفحات الأولى؛ حيث نجد بطل الرواية (نور) يتلقى مكالمة عجيبة من حبيبته (نادين) التي برغم موتها، فإنها حادثته في مكالمة هاتفية، وسألته عن سبب تأخيره في الاتصال بها، والسؤال عنها، وبعد انتهاء المكالمة يتذكر أن زوجته (نادين) استشهدت يوم الثامن والعشرين من يناير، في يوم الغضب وكأن الشهيدة في هذه المكالمة الهاتفية تكلمه من العالم الآخر، عالم الشهداء الذين بدا للسارد أنهم يعيشون بيننا ولم يرحلوا عن دنيانا، وينتظرون منا أن نقتص لدمائهم، ونحقق أهداف الثورة التي ضحوا بأرواحهم فداءً لها.

ومثلما حدث مع (نور قنديل) بطل الرواية وتحدثت إليه زوجته الشهيدة (نادين)، فإن (حامد شحاته) صديق (نور) قد هاتفه صديقه (جابر نبوي) الذي استشهد يوم الثامن والعشرين من يناير، فكتب تغريدة على موقع تويتر يقول فيها: "إن مكالمة جاءته في وسط الليل، فرد عليها فوجد من يحدثه هو صديقه جابر نبوي. جابر نبوي كما تعرفين استشهد يوم 28 يناير أيضا" (ص26).

ثم انتشر الخبر، وشاع أن أكثر من شخص يؤكد أنه قد جاءته مكالمات هاتفية من شهداء الثورة يتصلون بأصدقائهم وبعض من أهلهم، ويمكن القول إن كلام الشهداء واتصالهم بأحبائهم من الأمور العجائبية التي اعتمد عليها السارد في بناء عالمه الحكائي في الرواية، وكأن اتصالهم الهاتفي هو نوع من التواصل الروحي بين الثوار وبين الشهداء الذين يعيشون في وجدانهم؛ فالشهداء لم يفارقوا عالمنا، ولم يموتوا، بل أحياء داخل الثوار يتنفسون، وفي ضمائرهم يعيشون، ومن ثم فهم يهاتفون أحباءهم، وذويهم.

 الأشجار المتهاوية/الطائرة

بكاء الأشجار وسقوطها على الأرض، ثم طيرانها في السماء من الفانتازيا والأمور العجائبية التي اشتملت عليها الرواية، وهي ظاهرة عجيبة يمكن تفسيرها في إطار حالة الحزن على مصير الثورة، وعدم الأخذ بالقصاص للشهداء، ففي معركة الحرية، وفي خضم الصراع بين الثورة والثورة المضادة، بدت القوى غير متوازنة، بين الشباب الثوار الذين لا يملكون سوى حناجرهم التي يهتفون بها، في مقابل السلطة التي تمتلك من أسباب القوة الغاشمة، فقتلت الشهداء، وعجز الثوار عن القصاص لهم، وقد بدا السارد وكأنه يستنجد بالقوى الخارقة، والفانتازيا للتعبير عن العجز أمام الواقع، فالأشجار في هذا الإطار رمز للخطر الداهم الذي قد يحل بالبلاد إذا لم تتحقق العالة ويتم القصاص للشهداء.

وقد تخيل الكاتبُ الشهداءَ في صورة أشجار تسقط الندى على العابرين أسفل منها، والندى الذي تخيله ما هو إلا دموع الشهداء وأنينهم، وشكواهم بسبب ضياع حقوقهم، يقول الراوي في حوار بين (نور) وضابط شرطة: "سيارة شرطة كانت تجري في الشارع الخالي، نزل منها ضابط شاب، ينظر إلى الشجرة ويقول: أخيرًا وقعت الشجرة الملعونة. نظرت إليه مندهشًا. قلت: لا بد أنها شجرة عجوز.

 ربما، لكنها كانت مسحورة. بعد أن ينتصف الليل كل ليلة يسمع منها الناس صوت بكاء. هل ترى هذه المياه حولها؟
 إنه ندی.
 لا ليس ندى. إنها دموع"(الرواية ص6).

لقد كثرت أحاديث الناس، وتواترت الروايات حول الشجر الذي يبكي ويئن على الشهداء، ثم ما يلبث أن تقع هذه الأشجار وتسقط متهاوية على الأرض، "هذا ما قاله أيضا أحد الشبان للناس، كان هناك من السكان من يريد خلع الشجرة، لكن تصدى له أكثر من رجل وامرأة بعد أن سمعوا كلام الشاب. قالوا لن يقطع الشجرة أحد، هذه الشجرة تبكي على أولادهم الذين قتلهم البوليس يوم 28 يناير. أجل، هكذا سمعت أن أمين شرطة حصل على البراءة من المحكمة، وكان قد قتل العديد من الشباب في هذا الشارع!" (الرواية ص28). والملاحظ في هذا المقطع أن الراوي قد ربط بين الأشجار المتهاوية وبين أرواح الشهداء التي سقطت في أحداث الثورة، فكانت كل شجرة تسقط ترمز إلى روح شهيد أو شهيدة ارتقى في يناير.

وتتصاعد الأحداث، ويزداد عدد الأشجار التي تُقْلتَع، وبدلًا من السقوط على الأرض، إذا بها تطير في الجو، فتزيد أحداث الرواية توترًا واشتعالًا، وتشعر الشخصيات بالخوف والرعب والاضطراب، وكما طارت الأشجار في القاهرة، فإن الأشجار أيضًا طارت في الإسكندرية وطنطا والجيزة، ومختلف ربوع البلاد، (ص73 -123).

فبكاء الأشجار وطيرانها صورة تعبر عن الحس الفانتازي العجائبي؛ لتعكس الواقع السياسي المشحون، واستشهاد الأبرياء بدون ذنب اقترفوه، "وصرخت امرأة: إلى أين ستذهب هذه الأشجار؟ فأجابتها امرأة أخرى تبكي وهي تجيب: إلى الله، حيث يعيش الأطهار، وتزداد بكاء، وهي تقول: يا رب كنا ننتظر رحمتك بيننا من زمان، ماتخليش على الأرض ظالم؛ بنتي مش قادرة أنساها، بنتي أخذتها من المشرحة مضروبة بالرصاص وخلوني أمضي على إقرار إنها موتة طبيعية"(ص124).

 الرسومات التي تعاود الظهور

اللوحات الزيتية (الجرافيتي) التي رسمها فنانو الثورة على الجدران أثناء أحداث يناير، من أهم الملامح التي ارتسمت في وعي الثوار، فكانت بمثابة الحلم والأمل الذي يرسم على وجه المستقبل الذي يتمناه الثوار، بيد أن هذه اللوحات والرسومات قد تمت إزالتها من الجداران بعد الثورة، ومن الأمور العجائبية التي رسمها الكاتب إبراهيم عبد المجيد في الرواية أننا نجد هذه الرسومات قد عادت إلى الظهور على الجدران وارتسمت بفعل فاعل مجهول، يقول الراوي واصفًا ظهور هذه الرسومات: "أنا الآن في شارع محمد محمود، الشارع تقريبا خالٍ من السيارات المارة، لكني رأيت رسومات الجرافيك التي مسحتها المحافظة كلها مرسومة على حائط الجامعة الأمريكية. نفس وجوه الشهداء القديمة، لقد اقتربت منها فلم أجد شيئا، ابتعدت إلى الرصيف الآخر فرأيتها تعود"(ص21). وكما رأى نور هذه الرسومات قبل أن تختفي، فإن والد الشهيد (سامح بكير) من شخصيات الرواية التي رأت هذه الرسومات تظهر مرة أخرى (ص33).

من خلال القراءة المتعمقة لرمزية هذه الصور المرسومة على الجدران، يتبين لنا أنها تشير – رمزًا – إلى روح الثورة الكامنة التي تخشاها السلطة، وتَحْذَر أن تعود مرة أخرى، وقد أبدع الكاتب في رسم هذه الصورة؛ فهي تظهر وتختفي، وفي البداية لا يراها إلا رجال الشرطة، أما غالب الناس فلا يرونها أول الأمر، وكأن روح الثورة أمر وعته السلطة وتخافه وتحذر منه، فهي تعمل على عدم تكراره مرة أخرى، أما معظم الشعب لا يرون هذه اللوحات المرسومة في البداية، وكأنها قد غلفت عن ثورتها وحلمها في التغيير.

 الحيوانات المفترسة/ المستأنسة

لقد زاد توتر الرواية وتصاعدت الأحداث، وزادت الأمور الفانتازيا وتصاعدت العجائبية؛ حيث هربت الحيوانات من حديقة الحيوان بالجيزة، الأسود والنمور والذئاب والثعالب والزرافات، وغيرها من الحيوانات، فرَّت كلها، وانطلقت في الشوار، مما أدى إلى انتشار الخوف، وامتلأت القلوب بالرعب، وسادت حالة من الذعر؛ بسبب مشاهدة الحيوانات في الشوارع والميادين ومحطات المترو، وتستمر العجائبية، فنجد غزالة تقف في وسط الشارع، فيفتح لها عامل المقهى الباب، ويتقدم إليها، ويمسكها من قرونها، فتطيعه، وتتقدم معه، دون خوف أو محاولة الهرب.

وإننا من خلال قراءة، نجد أن الحيوانات المفترسة (الأسود والنمور والفهود) التي ظهرت في ميدان التحرير وقتلها القناصة، لم تؤذ الناس، أو تفتك بهم، بل إن أحد الأسود استجاب للمرأة ومشى معها مسالمًا، ويمكن القول إن هذه الأسود ربما تعد رمزًا يشير إلى جموع الشباب الثائرين، الذين خرجوا في أحداث الثورة وامتلأ بهم ميدان التحرير في ثورة هادرة، بيد أن النظام قد قام بترويضهم بعد قتل بعضهم، بالقتل العشوائي من قبل القناصة؛ نستجلي ذلك من تساؤل بطل الرواية: "لماذا إذن تم قتل الحيوانات ما دامت مسالمة؟ سألت نفسي: ألم ير القناصة المرأة وهي تمشي بالأسد في اطمئنان؟ لا بد من أن الموضوع الآن مثار على الإنترنت، على الأقل من سكان الميدان المحاصرين في بيوتهم. فتحت صفحة فيسبوك من موبايلي، ووجدت من كتب: (امرأة مجهولة تمسك بأسد فيمشي معها، وتخرج من الميدان إلى شارع محمد محمود، ولا يعرف أحد أين اختفت)، تعليقات لا تصدق وتعليقات ضحك وتعليق يسأل أسئلتي (لماذا والمرأة استطاعت أن تصحب الأسد يتم إطلاق النار على بقية الحيوانات؟ لماذا يتم قتل المسالمين دائما؟)" (ص109).

 المرأة الغامضة/الأم التي لا تنسى أبناءها

شخصية (المرأة الغامضة/امرأة الزاوية الحمراء) التي تحتفظ بالشهداء في مكان سري، استعدادًا للوقت المناسب لإطلاقهم؛ ليأخذوا بثأرهم ممن قتلهم، من الفانتازيا والسرد العجائبي في الرواية؛ فقد حرص السارد على توظيف تلك الشخصية ذات الأقوال والأفعال العجيبة الغريبة، والقوى الخفية، والقدرات الساحرة التي تستطيع أن تفعل بها ما عجز عنه الثوار، فقد رآها (نور) "ترسم أحد الشهداء على ورقة بيضاء، ثم تركت الورقة بهدوء على الأرض فخرج من بينها الشهيد طفلًا صغيرًا يمشي حولنا لا يشعر بنا، قالت: لا تخف، أستطيع أن أعيده إلى عمره الحقيقي، لكن لن أفعل ذلك الليلة، سأفعله يوم أقرر أن أعيدهم جميعا إلى الحياة، ثم أتركهم في الشارع يبحثون عن قاتليهم لينتقموا منهم" (ص92).

فهذه المرأة العجيبة، رسمها الكاتب في صورة غامضة، وكأنها تمتلك صندوقًا سحريًا يحوي أسرار الثورة والشهداء، ويتطور الأمر وتتصاعد الفانتازيا، وتزداد الدراما والأحداث العجائبية المرتبطة بشخصية امرأة الزاوية الحمراء، ففي وقت خروج الحيوانات وهروبها من الحديقة وانطلاقها في الشوارع والميادين، ووصولها إلى ميدان التحرير، يفاجأ بطل الرواية بهذه المرأة وقد سارت بين السباع والحيوانات المفترسة، فلا تخاف من الأسود والنمور، بل إن أحد هذه الأسود يطيعها، ويسير خلفها، فتدخله الشقة التي تخفي فيها صور الشهداء، وتتركه يحميهم؛ خوفًا على صور الشهداء من أشخاص يدخلون الشقة فيحرقون صورهم، فلا تستطيع إعادتهم للحياة مرة أخرى.

من خلال قراءة الرواية، ومتابعة الخط الدرامي فيها، وتتابع الأحداث، يتبين لنا أن الكاتب قد قام بتوظيف صورة المرأة العجيبة/امرأة الزاوية الحمراء باعتبارها رمزًا يشير إلى ضمير الثورة وذاكرة الثوار، فهي تحفظ أسماء الشهداء، وتعرف أعدادهم في كل محافظة من محافظات مصر، بل إنها تعرف أسماء الذين قتلوهم، وتتوعد أن القصاص قادم لا محالة "وقالت أيضا: لكن تأكد أن الله بالمرصاد، لقد بدأ الله برحيل الأشجار، الأيام المقبلة سترى رحيل الأشجار عن كل هذه الأحياء وغيرها مما لم أقله لك، وعندما تعرف أن شجرة طارت في شارع ما أو بلد ما مما لم أذكره لك، فاعرف أن جوارها قُتل شهيد" (ص118).

علاء نجدي أبو المجد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى