الأربعاء ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٢
بقلم نجمة خليل حبيب

قراءة في قصيدة «مأساة النرجس وملهاة الفضة» لمحمود درويش.

قراءة في قصيدة «مأساة النرجس وملهاة الفضة» لمحمود درويش. [1]

من المعلوم أنّ هذه القصيدة قيلت احتفاء بانتفاضة الحجارة عام [2]1987 التي تُعتَبر عودة للثورة بعد أن غُيِّبَتْ عام 1982 إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، إلا أن كثافة الصور التي تحيل إلى موضوع العودة، جعلت البعض يعتقد أنها كتبت احتفاء بالعائدين إلى غزة والضفة الغربية إثر قيام عملية السلام. وسواء كان العائد هو الشخص أو الحدث، يبقى لطقوس العودة حيز واسع ورؤية شمولية مميزة. وعلى عادة درويش، فهو يبتدئ موضوعه بالعادي ويتصنع الصوت الخفيض ليقول رؤيته المتوهجة.

تبدأ القصيدة بوصف حال العائدين، فهم ليسوا أبطالاً ولا منقذين. ولم يأتوا على دق الدفوف والصنوج. لم يعودوا مملوئين بالفرح كما هي الحال في عودة المنفي الذي انتصر على منفاه بل عادوا من الاستثناء الطارئ، (أساطير الدفاع عن القلاع) إلى الأصل المقيم.(البسيط من الكلام والاحتفاء بماء الوجود) [3]

"عادوا. . .
من آخر النفق الطويل إلى مراياهم. . وعادوا
حين استعادوا ملح إخوتهم، فرادى أو جماعات، وعادوا
. . .
من أساطير الدفاع عن القلاع إلى البسيط من الكلام
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم، ويرتبوا هذا الهواء
ويزوجوا أبناءهم لبناتهم....
ويعلقوا بسقوفهم بصلاً، وبامية، وثوماً للشتاء
. . .
عادوا على أطراف هاجسهم إلى جغرافيا السحر الإلهي". (419)

يشحن درويش تحت هذه اللغة التي رأى فيها بعضهم فنية متواضعة معاني النصر والبطولة والفخر. مرّة عن طريق المفردة وأخرى بواسطة الصورة الشعرية المركبة. لقد عمل التكرار المكثّف للفظة "عادوا"، والإتيان بها بصيغة الماضي الذي يفيد وصول الحدث إلى تمامه، على إيصال فكرة بسيطة في ظاهرها عميقة في مدلولاتها. فالعائدون البسطاء يكتنزون خصائص الشعب الأصيلة: ابن الأرض اللصيق بها، المعتز بعطائها يعرضه كالتحف الثمينة في أعالي البيوت. ابن الحياة المُصِّر على استمراريتها بتزويج البنين للبنات. المحاذر الذي ملأته الخيبات المتكررة بالقلق والتوتر فعاد على "أطراف هاجسه". والشاعر هنا لم يذهب في فكرته الى منتهاها بل لامسها لمسة خفيفة مواربة، وغيبها بتغييب أحد أطراف التشبيه (أطراف الأصابع)، وأخفى معاني القلق والحيرة والمحاذرة تحت لفظة "هواجس"، فبدت الفكرة في غيابها أكثر حضوراً والتعبير أشد إدهاشاً.

نسب أكثر من ناقد قصيدة "مأساة النرجس وملهاة الفضة" إلى جنس الغنائية الملحمية. منهم عبده وازن الذي يعتبرها قصيدة الانتفاضة بحق، تغنّيها دون أن تسميها، وتتغنى بالحجر من دون أن تدل عليه. وفائز العراقي الذي اعتبر تعدد الأصوات وتنوعها، والحركة الصراعية داخلها، ذا طابع درامي ملحمي مُمتزج "بالغنائية العذبة التي عرف بها درويش في كامل تجربته الشعرية". وأكده درويش بقوله: "أتمسك بغنائية تطل على تخوم الغنائية الملحمية" [4]. وإن كان الفخر والتغني بالبطولات من أبواب هذا الجنس الرئيسية، فإن درويش حقق ملحمية قصيدته بغير هذه الصفات، ولم يأت على ذكرها إلا مواربة. فالفعل فيها صامت، والبطولة الحقيقية للأرض التي اكتفت من أدوار المقاومة بالإصرار على الحضور، والاستمرار في القيام بدورها الطبيعي دونما صخب ولا ادعاء. فهي رغم كل ما تعرضت له من انتهاكات على أيدي أعتى الغزاة من هكسوس وتتار، ورغم المنجنيق وعنف الخيول والرماح، ظلت تمارس طقوسها المعتادة، وظل عنفوان الحياة فيها قادراً على إنبات الزهرة من قلب الصخر. لم تغير وجهاً من وجوهها: بحرها وجبلها وأريج نباتها ظلت على حالها. كما أن درويش أعاد إلى الارض طفولتها، علاقتها الفطرية التي كانت قائمة بينها وبين ناسها قبل أن تطرأ على الجنس البشري شهوة التملك، عندما كان الإنسان واحداً من مخلوقاتها خاضعاً لنواميسها. ثم أن درويش يكسر فجأة نمطية السرد بالانتقال من الإخبار الى التساؤل المسْتَهْجَن (كم مرة ستكون رحلتنا البداية؟)، لِيُذكِّر بمأساة الفلسطيني/ة الذي يصّر، على عادة البطل المأساوي، على المواجهة وهو يعلم أنّه محكوم بالخسارة: "[كانوا]. . .يٌطيّرون حمائم الذكرى إلى أبراجها الأولى، ويصطادون من شهدائهم نجماً يسيِّرهم إلى وحش الطفولة. كلما قالوا: وصلنا. . . خرّ أولهم على قوس البداية. أيها البطل ابتعد عنا لنمشي فيك نحو نهاية أخرى. فتباً للبداية (421-422).

ولعل في الصورة الشعرية، "يصطادون من شهدائهم نجماً يسيِّرهم الى وحش الطفولة"، مثلاً على ما تكتنزه القصيدة من طابع دراميّ ملحميّ. فالحركة الصراعية اللامعقولة الموجودة في جعل الشهيد صيداً، والسعي لبلوغ حالة طفولية وحشية، سمة من سمات العمل الملحمي. وقد تتجلى هذه الحركة بشكل أوضح عندما تخرج الطفولة من ضعفها وبراءتها إلى نقيضها، "الوحشية". أو عندما يكون الوحش (المخلوق غير المروض)، هو الذي انزاح عن معناه فَعِوَضاً عن أن يكون رمز القسوة والعنف والبربرية صار البراءة، بدء الشيء قبل أن تلوِّثه تعقيدات الحضارة وتغذي فيه قِيَمها الربحية، من استقواء وجشع وتسلط. وقد عرف الخطاب الجمالي العالمي تمجيداً للوحشية، وتفوّقها في المعرفة الحدسيّة التي تُمكِّن المرء من إدراك المعنى الكلي للوجود. يحضرني، ما نسبه الكاتب الأسترالي "دافيد معلوف" للطفل الوحش في روايته حياة متخيلة Imaginary Life من تفوق بالكشف على الشاعر المتَحضِّر. فقد استطاع الطفل الوحش الذي تربى بين الذئاب أن يعّلم الشاعر المتمدن لغة الطبيعة ويقوده في رحلة الكشف عن كنه الوجود الحقيقي. [5] واستطراداً نذِّكر أنها ليست هذه هي المرة الأولى التي نسب فيها المبدع الفلسطيني إلى الطفولة قسوة ووحشية، فالظروف القاسية التي عاشها الفلسطينيون في منافيهم جعلت أطفالهم ينضجون قبل الأوان، وقد رأينا ذلك في كتابات غسان كنفاني في قصص مثل "كعك على الرصيف"، والمنزلق، وزمن الاشتباك، وغيرها. قد يتبادر إلى الذهن أن هذه العبارة (يصطادون من شهدائهم نجماً يسيِّرهم الى وحش الطفولة) إدانة لسذاجة الفلسطيني الذي لم يتعلم من إخفاقاته المتكررة، وأنها ليست إلا لغة صامتة للأخرى الصاخبة التي أطلقها غسان كنفاني في مسرحية "الباب" [6]. غير أنّ المساءلة العاجزة التي أعقبتها، "كم مرّة ستكون رحلتنا البداية؟" تحمل تظلُّماً أكثر منها لوماً.

رغم ابتعاد الشاعر عن بلاغيات العربية في الحماس والفخر التي تقتضيها البطولة، ظلت دلالاتها مبثوثة لماحة في معظم الأحيان، عالية في أمكان قليلة:

"يا نشيد! خذ العناصر كلها
واصعد بنا
سفحاً فسفحاً
واهبط الوديان-
هيا يا نشيدُ
فأنت أدرى بالمكان
وأنت أدرى بالزمان
وقوة الأشياء فينا" (421).

ورغم أن الشاعر لم يستعمل لغة التبشير ولكنه أوحى به بطريقة مواربة:

"إن الأرض تورث كاللغة!
. . . ونشيدهم حجر يحكّ الشمس" (422).

حرّر درويش العودة من معاني الانكسار والانسلاخ عندما رفع الأرض إلى مستوى اللغة. فاللغة والكائن البشرية ملتصقان التصاقاً عضوياً. فكما تتغلغل اللغة في ذات صاحبها ولا يقوم بينهما فكاكاً، هكذا هي الأرض. لذلك هي عائدة، أو بالأحرى، هي لم تُهْجَر لأنها موجودة في الوجدان كاللغة. ومما يزيد من بروز هذا المعنى دخول حرف التوكيد "إنّ" على الجملة، وهو لغوياً، ينكر ما قبله ويثبت ما بعده. فبدخوله أنكر ما قبله (المضمر هنا)، الادعاء القائل بسقوط حق الفلسطينيين في الأرض، وأثبت ما بعده، "الأرض تورث كاللغة". [7]

لم يستسلم الشاعر كلياً إلى هذا التجريد في معاني العودة بل ردها إلى معناها التقليدي، ولكن بطريقة غير تقليدية. بشّر بها دون أن يسميها أو يبرز تفاصيلها الجزئية. اكتفى بالإيحاء، وذلك عندما جعل الحجر نشيداً يحكُّ وجه الشمس. فالمجد الذي وصل إليه الحجر (وجه الشمس)، هو الذي سيحقق العودة. ولا يخفى ما في كلمة نشيد من معانٍ ترتبط بالحرب والحماسة والتحريض على البطولة. وخوفاً من أن تسقط القصيدة في المعاني التقليدية المباشرة من فخر وحماسة، عدل الشاعر عن لغة المفاخرة إلى لغة الغياب. فهو لم يُسّجِ بطله على أكاليل الغار والمجد، بل على البسيط والضروري والأصيل (أرغفة الشعير، وصوف اللوز). وهو لم يَعِدْهُ بالأخذ بثأره دماً مقابل دم، بل وعده بالوفاء لذكراه، وخرج عن المألوف الشعري في معاني البقاء فجعله تحنيطاً. ولا يخفى ما للتحنيط الماديّ من تفوق في الحضور على الآخر المعنوي، الذكرى. وزاد على ذلك بأن جعل هذا التحنيط مزيجاً من رقة وعنفوان كنّى عنهما بزهرة الليمون والريشة المقلوعة من طائر الفينيق:
"أيها البطل المسجى فوق أرغفة الشعير وفوق صوف اللوز، سوف نحنِّط الجرح الذي يمتص روحك بالندى: بحليب ليل لا ينام؛ بزهرة الليمون، بالحجر المدمى؛ بالنشيد- نشيدنا؛ وبريشة مقلوعة من طائر الفينيق-" (422).

لا نقرأ في قصيدة "مأساة النرجس وملهاة الفضة" تحسراً وبكاء على المكان المفقود أو تغنيّاً بمجد كان، بل قفزاً عن الواقع المؤلم الى الحلم أو الرؤيا أو الذكرى للخروج من مأزق التاريخ:

لكنهم عادوا قوافل
أو رؤى،
أو فكرة،
أو ذاكرة" (425).
. . .
"وكأنهم عادوا
البحر يهبط عن أصابعهم وعن طرف السرير" (438).

ففي أداة التشبيه "كأنهم"، التي تفيد التوَّهُم، خروج من الواقع المهزوم وانتصار عليه بالحلم (الخيال) الذي من خلاله كانوا يعودون إلى بيوتهم، ويسمعون ثغاء ماعزها، ويتبادلون الهال، ويتذكرون أيام غربتهم، ويرقصون على الحقائب ساخرين من سيرة المنفى البعيد، ويتذكرون المنافي في التاريخ ويهزأون منه. كما نقرأ المستقبل والإصرار على الحضور في التاريخ والثقافة العالميين. وقد شحن درويش الكثير من الرموز التي تؤكد هذا الحضور (قدم الحرير، توراة كنعان، طريق رائحة البخور، غزالة الابد، سومر الخلود...) مما أوحى للبعض بأنه يقوم "بعرض عضلات معلوماتي ثقافي". [8]

يتبنى درويش في هذه القصيدة مفهوماً آخر للعودة، فهي ليست "رداً على رحيل" و"لا مقايضة أيام أو جهات"، وهذا الفارق برأيه "صنعته الثورة. فبالثورة تُغيِّر لفظة العودة معناها الوراثي وتشحن نفسها إلى الأمام. تصير: ذهاباً إلى فلسطين المستقبل. لأن الانسان الذي تخلقه الثورة هو إنسان مُنجِز لا وارِث. لا يقيس مسافته بالمعنى الإقطاعي للتراب. وإنما يقيس إبداعه على هذا التراب."

"عادوا إلى ما كان فيهم من منازل، واستعادوا
قدم الحرير على البحيرات المضيئة، واستعادوا
ما ضاع من قاموسهم: زيتون روما في مخيلة الجنود
توراة كنعان الدفينة تحت أنقاض الهياكل بين صور وأورشليم
وطريق رائحة البخور إلى قريش تهب من شام الورود
وغزالة الأبد التي زفت إلى النيل الشمالي الصعود
وإلى فحولة دجلة الوحشي وهو يزف سومر للخلود", (428-429)

ولهؤلا العائدين قوة في ضعفهم. هم يتفوقون على أعدائهم المنتصرين بالمعرفة الأصيلة التي لا بد منها لصنع الحياة (الزراعة) التي يصغر أمامها التفوق الطارئ، الآلي، المتغيّر (خوذة الجندي). لذلك سيكون انتصارهم مجرد ملهاة عابرة.

"سوف نلقِّن الأعداء درساً في الزراعة وانبثاق الماء من حجر. . سنزرع فلفلاً في خوذة الجندي. . نزرع حنطة في كل منحدر لأن القمح أكبر من حدود الإمبراطورية الحمقاء في كل العصور" (441).

ولا يخفى لما في هذا الدور من معاني التفاخر والدلالة على الحضور الأصيل والباقي في التاريخ بقاء القمح بعد زوال الإمبراطوريات.

والعائدون، كما يريد لهم الشاعر، منصرفون للحياة. خبروا ما فيها من قيمة حقيقية تلاشى أمامها البعد الماورائي: "ما شأنهم إن كان اسماعيل أم إسحاق شاةً للإله؟" (423). وهم أيضاً حكماء، خبروا عمق التاريخ وعرفوا أن العدواة القائمة بين الشعبين، الفلسطيني واليهودي، مؤقتة. فهم أبناء تاريخ واحد. معاً حاربوا الشمال ومعا "رفعوا جسر العبور من الجحيم إلى انتصار الروح فيهم كلهم". واللافِت أن الشاعر تغاضى، في هذا المشهد، عن الواقع والتاريخ، فقلَّص الصراع الى صراع ماورائي، وساوى بين الفلسطيني واليهودي-الإسرائيلي، في المسؤولية عن استمرار حالة العداء. والجدير بالذكر أن هذا الطرح، إذا أُخِذ بظاهره، لا يجافي الطرح المبدئي للقضية الفلسطينية فقط، بل كل ما قاله الشاعر سابقاً في هذه القصيدة وغيرها.

وحيث أنّ كتابات درويش السابقة واللاحقة لا تستقيم وهذه الأطروحة، وحيث أن الشاعر يقول رؤيته تلميحاً لا تصريحاً، فإن الرؤية التي يمكن استشفافها من وراء المعنى الظاهر، هي رؤية شمولية تستخف بالصغائر التي قام عليها العداء، وتهزأ به. فهو ليس أكثر من خلاف عبثيّ: "على مواعيد القيامة". هي ترى البعد الكليّ للصورة. الأصل الواحد للشعبين، الجنوب (الجزيرة العربية)، مقابل الآخر المغاير، الشمال (أوروبا). وترى ماضيهما المشترك: ظُلْمُهما أمام التاريخ. فبمثل ما سُبِي وشُرِّد اليهود في التاريخ القديم، سُبي الفلسطينيون وشُرِّدوا على أيدي الغزاة من كلدانيين وأشوريين وفراعنة وغيرهم. وبمثل ما اضطُهِدوا ومورست عليهم محارق في الغرب الحديث، اضطُهِد الفلسطينيون ومورست علينا حروب استعمارية بالأيدي نفسها. بهذا كان:

"تاريخهم تاريخنا/ لولا الخلاف على مواعيد القيامة!" (432).

إنها رؤية الشاعر المتطورة التي بدأت ملامحها تظهر منذ ثمانينات القرن العشرين حين أخذ يقترب من "الإدراك الشعري للتجربة الإنسانية"، فيتدرج، من شاعر فلسطين، إلى شاعر الوجود. ومن شاعر الأرض والقضيّة، إلى شاعر الإنسان في يأسه ورجائه، في انتمائه ولاانتمائه.

يقول درويش في إحدى المناسبات: "إن الزمن يعلمني الحكمة والتاريخ يعلمني السخرية" لذلك كانت هذه المسيرة الفلسطينية ملهاة ومأساة في آن معاً. هي حلقة من سلسلة المآسي التي عرفها هذا الشرق على مر تاريخه. كل مرة تأتي بوجه جديد، تأتي مأساة وترحل ملهاة. ويعدد الكاتب هذا التسلسل التاريخي: حصار قرطاج، سقوط صور، الحروب الصليبية، غزو هولاكو، الاستعمار الحديث، وصولاً الى الحالة الفلسطينية التي تعيد القصة من أولها.

في كل ما تقدم ينتصر المغزو على الغازي ويجابه الضعف القوة، ويكتسب الضعيف في استكانته حكمة ونضجاً إنسانياً: يواجه الحجر البدائي التكنولوجيا المتطورة، والطفل الأعزل الجنود المدججين. ويهزأ المغزوون من تاريخ هذا العالم وأساطيره بالإصرار على التذكر، ويسخرون مما أضافه ترف الفكر إلى جوهر الأشياء من زوائد. هم لا يهمهم من النهر إلا صفته الأصلية سواء عندهم إن غاض أو فاض، تلعثم أو تقدم، ولا تهمهم تأويلات التاريخ والأسطورة لتبرير حضورهم أو عدمه. يهزأون من التأويل كأنما يقولون: أيوجد برهان على الحضور أكثر من الحضور. وهي مأساة لأن ما يهزأون منه يسبب مأساتهم.

"كانوا يعيدون الحكاية من نهايتها إلى زمن الفكاهة
قد تدخل المأساة في الملهاة يوماً
قد تدخل الملهاة في المأساة يوماً
في نرجس المأساة كانوا يسخرون
من فضة الملهاة كانوا يسألون ويسألون
ماذا سنحلم حين نعلم أن مريم امرأة"؟ (439).

فطن درويش للإشراقة الكامنة في المأساة التي منها يخرج الحلم، ولكنه بدل أن يبرز موضوعه ويمنحه درجة عالية من الوضوح، انحرف عنه ولمّح إليه تلميحاَ خفيفاً بقوله: "ماذا سنحلم حين نعلم أن مريم امرأة"؟. كما فطن إلى بعد آخر في موضوع العودة، هو العودة إلى الذات بعد رحلة الضياع. فالفلسطينيون الذين ضيعت المنافي بعضاً من هويتهم، يعودون الآن إلى هذه الهوية. فالمبعد الذي لا تزال تعيش فيه ملامح بلده، هو عائد، ومنتصر على نفيه وذاته التي ضعفت ذات بَيْن.

لخص درويش قصيدته في ثلاثة أفعال قدمت رؤيته المتميزة للعودة يمكن ترتيبها في ثلاثة أشكال: الشكل الأول أعطى الأولوية للمعرفة، ثم يليها الحلم، وبعدها الرجوع. الشكل الثاني، وفيه الأولوية للحلم، ثم المعرفة، ثم الرجوع. الشكل الثالث، وفيه يقوى الحلم، ويكون وحده الطريق إلى العودة. إلا أن درويش لم يجعل أفعاله متراتبة بل جعلها تتردد بشكل دائري بحيث لا يكون فيها أولوية لفاعلية على أخرى.

أعطت هذه النهاية بعداً جديداً للقصيدة وكشفت عن رؤية كلية للوجود نصَّب فيها الشاعرُ الخيالَ (الحلمَ)، قوة فاعلة، قادرة على الفعل والخلق. قوة تحوِّل الحلم إلى فعل. فكأن درويش يقول، يكفي أن نؤمن بالعودة حتى تتحق. فهي، وإن لم تتحّقق بعد، إلا أن الإصرار على الحلم سوف يحققها. وهنا يحق لنا أن نتساءل، هل تأثر درويش بالترانسدنتالية، وآمن بها، ورأى فيها خلاصاً من مأزق العالم المتصارع على الماديات؟. ربما. "فقد أعلن درويش أكثر من مرة وعلى صفحات مجلة الشعراء في لقاء مع شعراء فلسطينيين قالوا له: كيف خرجت من سطوة الموضوع، والموضوع هو فلسطين؟ قال: [تخيلوا أن فلسطين ليست تحت الاحتلال واكتبوا]" [9]. وهذا ما حدا بفئة من قاريء شعر درويش إلى الاعتقاد بأن الشاعر جنح بعد اتفاق أوسلو إلى التباس في شعره. بمعنى ان القصيدة الدرويشية صارت تحمل أكثر من تفسير . . .". [10]

يعرف درويش أن رؤيا كهذه هي فانتازيا لا يجيزها الواقع، لذلك دعا الى التمهل في التخلي عن البطولة فنحن لم ننتصر بعد ولم نبلغ حُلُمنا، وما زلنا نهاب ونقلق (ما زال فيهم خريف الاعتراف/ ونرجس رخو يخاف من الجفاف)

"يا أيّها البطل الذي فينا . . تمهل!
عش ليلة أخرى لنبلغ آخر العمر المكلل
ببداية لم تكتمل؛
عش ليلة أخرى لنبلغ رحلة الحلم المضرج
يا تاج شوكتنا؛ ويا شفق الأساطير المتوج
ببداية لا تنتهي. يا أيها البطل الذي فينا . . تمهل!
عش ساعة أخرى لنبلغ رقصة النصر المنزل
لم ننتصر، بعد، انتظر يا أيها البطل انتظر
فعلام ترحل
قبل الوصول بساعة؟
يا أيها البطل
الذي
فينا
تمّهل! (444-445).

تنتمي هذه القصيدة إلى فترة زمنية يعتبرها درويش فترة نضوجه الفني، وفيها صنع حداثته الخاصة، فنأى بقصيدته عن الإغراق في المناخ الحداثي الممعن في فانتازيا التجريب واكتفى منه بالعمل على تطوير أدواته التعبيرية والأسلوبية، فكان بدل أن يبتعد عن التراث ويرفضه، يعمل على تحديثه لتظل قصيدته تنبع من سياق تاريخ الشعر العربي وإيقاعاته ومن داخل جماليات اللغة العربية. [11] لقد علم الشاعر أنّ الحداثة بمفهومها الغربي لا تلائم المجتمع العربي الذي يعيش ما قبل الحداثة، وأنّ القصيدة الحداثية يجب أنْ تظل هامشية ومجازية في الوقت ذاته. فلو قرأنا المشهد السابق "يا أيّها البطل الذي فينا . . تمهل!" لأحسسنا بمناخ الشعر الحماسي القديم. فالشاعر بدعوته للبطل الجمعي (الذي فينا) للتمهل يستحضر صفات البطولة التقليدية بما فيها من شجاعة وإقدام. وفي رجائه له بالعيش ساعة، استدعاء لصفة تقليدية أخرى هي الاندفاع واستسهال الموت. ولو أصغينا الى الإيقاع لرأيناه إيقاعاً عادياً يقوم على ازدواجيات تقليدية (العمل المكلل/ النصر المنزل) يشيع جواً تقليدياً، ولكنه، على حد تعبير نزار قباني، مناخ غرفة ملطف بجهاز تبريد عصري. فالجدة والإدهاش الموجودان في صورة "تاج شوكتنا"، على بساطتها، وغنى وعمق صورة "يا شفق الأساطير المتوج ببداية لا تنتهي" مع التزامها بجماليات اللغة العربية، التي تصر على وجوب علاقة تناسق في الجملة المجازية، وقفات لمَّاحة أبعدت عن المشهد تصّحره.

يخلخل درويش منطق الاستعمال العادي للغة، ويبقي جملته مفتوحة على عدة احتمالات. يقول مثلا: "ما زال فيهم من منافيهم خريف الاعتراف"، فأي اعتراف عناه هنا؟ اعتراف بالضعف، بالجهل، بالاخر؟ أم ماذا؟!....وما هي العلاقة بين هذا الخريف، والنرجس الرخو الذي يخاف من الجفاف؟. هل أن الشاعر يكني عن الأنانية والغرور بالنرجس، ولذلك يردّ عدم قدرتهم على الاعتراف إلى هذه الأنانية "الرخوة" التي تخاف النفس أن تتخّلى عنها كي لا تفقد كينونتها؟ أم هو كناية عمَّا في النرجس من هشاشة لا يستطيع معها أن يقوم بفعل الاعتراف الذي يتطلب قوة وشجاعة؟

"ما زال فيهم من منافيهم خريف الاعتراف
ما زال فيهم نرجس رخو يخاف من الجفاف" (445).

لم يُغرِق استعمال الرمز والأسطورة القصيدة في الغموض. فالرموز والأساطير في أغلبها، كانت في حدود فهم المثقف العادي: عوليس، جلجامش، عشبة الخلود، توراة كنعان، نخلة البدوي.... ولم يشط منها إلى النخبوي إلا القليل: "ريحانة البطل المسجى فوق خطوته الأخيرة".

لجأ الشاعر الى كسر نمطية القصيدة بالانتقال من صيغة كلام إلى أخرى في المقطع الواحد، وأحيانا في الجملة الشعرية الواحدة، وقد عملت هذه التقنية على حماية القصيدة من "قصدية التمثيل"، وأعطت الشاعر هامشاً يتحرك فيه بين داخله وخارجه "دون أن يغرق في أناه، ودون أن يفقدها بتحويلها إلى ناطقة باسم الجماعة". وقد أوضحت هذه القصيدة ما عناه الشاعر بقوله في تجربته الشعرية على أنها "محاولة هدم ما سبق من خلال تطوير ما كان يبدو له هامشياً وثانوياً وتقريبه من المركز". [12]


[1محمود درويش، مأساة النرجس وملهاة الفضة"، ديوان محمود درويش، مج/2، ط/1، بيروت: دار العودة، 1993، ص 419- 447. (نشرت للمرة الاولى في مجلة الكرمل، عدد: 32، 1989، ص 88- 104)

[2فائز العراقي، شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني، اتحاد الكتاب العرب، دمشق: 1998، ص 38

[3المصدر نفسه، ص 40

[4محمود درويش، "بيت. ثوم. بصل. ماعز ومفاتيح"، الكرمل، عدد/33، 1989، ص 167

[55. David Malouf, Imaginary Life, London: Chatto & Windus, 1978
للمزيد ينظر في: نجمة خليل حبيب، النموذج الانساني في أدب غسان كنفاني، بيروت: بيسان، 1991، ص 33-41

[6أطلق غسان كنفاني عبارته المدينة على لسان أم شدّاد بطل مسرحية "الباب"، عندما قالت: "إنكم تخسرون دائماً لأنكم تبدأون، دائماً، من البداية (غسان كنفاني، الآثار الكاملة، الجزء الثالث، المسرحيات، ط/1، بيروت: دار الطليعة، 1977 [1966] ص 84)

[7. يقول الجرجاني: إنك ترى الجملة إذا دخلت "إنّ" ترتبط بما قبلها، وتأتلف معه وتتحد به، حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغاً واحداً، وكأن أحدهما قد سبك في الاخر. هذه هي الصورة، حتى إذا جئت الى "إنّ" فاسقطتها، رأيت الثاني منها قد نبا عن الاول وتجافى معناه عن معناه، ورأيته لا يتصل به، ولا يكون منه بسبيل. (عبد القاهر الجرجاني، دلائل الاعجاز، القاهرة: مطبعة السعادة، 1920، ص 222)

[88. فائز العراقي، مصدر سابق، ص 44

[9شاكر النابلسي، مجنون التراب، ، دراسة في شعر وفكر محمود درويش، ط/1، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987، ص 218)

[10خالد أبو خالد، "محمود درويش يكتب شعراً ملتبساً"، حاوره، عمار النعمة، الثورة، دمشق: مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر، 21/11/2007
http://thawra.alwehda.gov.sy/_archive.asp?FileName=44277363020071120232558

[11يقول درويش في معرض كلامه عن ترجمة مختارات من شعره: "لو كان الامر متعلقاً بي وحدي دون تدخل أي اعتبار آخر لما اخترت من شعري إلا ما كتبته في العقدين الاخيرين". (درويش، 1999، الكرمل، عدد. 60، ص 238) وبما ان الكلام قيل عام 1999 والقصيدة نشرت في الديوان عام 1993 وللمرة الأولى في الكرمل عام 1989، فهذا يعني أنها بنت تلك الفترة المباركة في حسبان الشاعر.

[12(التعبير مستوحى من مقالة الشاعر "الولادة على دفعات"، (الكرمل، عدد/ 60، ص 238)


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى