الثلاثاء ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢١
بقلم حسني التهامي

قراءة في نص للشاعرة الليبية كريمة علي

(نص من فقرة عدسة الهايكو للنقاش العام بهايكو مصر للشاعرة الليبية كريمة علي)

رياح عاتية
أعلى الجبل تتحرر...
فراخُ النسر

تمثلُ البساطةُ مصدرَ الجمال الحقيقي للهايكو، وربما ساهمت إلى حد بعيد في انتشاره متجاوزة حدود الزمان والمكان. يعتمد شاعر الهايكو على حدسه في نقل صورة حسية من الطبيعة أو من تفاصيل حياته اليومية بلغةٍ بعيدة عن التكلف، خاليةٍ من الأساليب المجازية التي تعكرُ صفو الصورة الشعرية. تمكن تلك البساطة كلا من الشاعر والمتلقي من النفاذ إلى روح الهايكو، ولا يستطيع خوضَ غمارها إلا شاعر ٌمتمرس وقدير، لأن النص على بساطته يحمل تأويلات كثيرة تشي بالثراء والعمق.

في نص الشاعرة كريمة علي اتسمت اللغة بالسلاسة والصفاء، لذا فقد أتى المشهد الحسي على سجيته، وهذا ما ساعد الشاعرة على اقتناص اللحظة الجمالية والوثوب إلى جوهر الأشياء. وعلى الرغم من التزام الشاعرة بخصائص الهايكو الكلاسيكي، فالمشهدية جديدةٌ ومتفردة.

يتألف النصُ من ثلاثةِ مشاهد، مشهدين أماميين يمثلان الكيغو غير المباشر (مكان الحدث) وآخر خلفي، وهو حالة التحرر ممثلة بجلاء في الفعل "تتحرر" الذي أحدثَ بدوره فجوةَ توترٍ شعري نتج عنها عنصرُ الدهشة والمفاجأة.

رياح عاتية = (مشهد أمامي/ كيغو غير مباشر)
أعلى الجبل = مكان الحدث (مشهد أمامي)
تتحرر فراخ النسر= قلب الحدث (مشهد خلفي)

التنحي:

يُنكر الهايكو الذاتَ الشاعرة، الأنا الفرويدية، التي تكثرُ في الشعر بشكلٍ عام. وهذه الأنا تفجرُ كَمَّاً من المشاعرِ والعواطفِ التي تُعتبر حائلا ًفي مسار تحقيق اللحظة الجمالية العابرة التي تمثل جوهر الهايكو. وذلك لأنه يعتمدُ في الأساس على المشهديةِ الحسية البعيدة عن الخيالِ المُجَنَّح والتعبيراتِ العاطفية المُباشرة. فعلى الشاعرِ أن يجعلَ عقلَه صافياً ليترك الأشياءَ تُعبر عن ذاتِها دون تدخلٍ منه، وهذا ما فعلتُه الشاعرة كريمة علي في هذا النص، تعلن الطبيعةُ عن ذاتِها، وتغيب الأنا تماماً بكل انفعالاتِها ومشاعرِها ونرجسيتِها. يبدو المشهدُ بمكونات الطبيعة: الرياح العاتية، أعلى الجبل، أفراخ النسر.

تنطلق من قلب عود الصليب
الحلو
نحلة ثملة
(باشو)

لحظة الهايكو:

الهايكو وَعْيٌ بالأشياءِ على حالتِها. يقول باشو " تعلمْ كيف تستمعُ أثناءَ تحدثِ الأشياء لذاتِها." فالهايكو العظيمُ هو ذلك الذي تكمنُ فيه إيحاءاتُ الواقعِ كما هو بكل جمالياتِه وغرائبِه، دون تدخلٍ من هذيان العقلِ وتشظي العاطفة. استطاعت الشاعرة أن تلتقطَ الأشياءَ كما هي في لحظةٍ من الزمن، وأن تقبضَ على هذه اللحظة من المحيط الكونيِ. يثيرُ هذا النصُ الإحساس بالبساطةِ والعمقِ، وربما يدفعنا للتساؤل: هل يمكنُ لأفراخِ النسر أن تقوى وتتحرر أمامَ هذه الرياحِ العاتيةِ؟ ولم لا، فلولا هذه الريح العاتية لما قويتْ أجنحةُ الأفراخ، فالثوراتُ الكُبرى في تاريخِ العالم هي من تُحدث التغييرَ، وتنتشل الشعوبَ من الركودِ الحضاري. ومحاولة الفراخ في الصمود أم الريح ترمزُ إلى ثورات البشرية في وجه قوى الظلام والتهميش التي تتهددها، وهي بهذه المحاولة تسعى للحفاظ على حياتها من الفناء.

عالمُ الندى
هو عالمُ الندى
ومع ذلك ، ومع ذلك
كوباياشي إيسا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى