الأحد ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢١
بقلم سليمة مليزي

كتاب الإيقاع في قصيدة النثر بين التأصيل والطرح الإشكالي

صدر مؤخراً في شهر نوفمبر 2021 كتاب قيم للناقدة والباحثة والفنانة التشكيلية الدكتورة خيرة مباركي من تونس الشقيقة، الكتاب في 220 صفحة في طباعة راقية جدا، عن دار رومنس القرن 21 للنشر والتوزيع في الجزائر.

كتاب مهم جدًا في النقد الادبي بعنوان (الإقياع في قصيدة النثر) وهو عبارة عن رسالة ماجستير في النقد الأدبي، وكان ديوان"غرانيك الامس"للشاعر فائز الحداد نموذجاً.

هذا الكتاب في الأصل رسالة ماجستير أعدته الباحثة خيرة مباركي بكليّة

الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان وتُوّج بدرجة حسن جدّا. ناقشتها لجنة

متكوّنة من الأساتذة:

 د. سمير سحيمي مشرفا
 د. رضا بن حميد رئيسا
 د. رضا الأبيض مناقشا

4

"خط ا رن ما ا زلا يتهدّدان العالم: النّظام والفوضى".
بول فاليري
"الكتابة هي الفوضى الوحيدة والممكنة ضدّ قيود الأنظمة"
محمد ب ا ردة
"الحيويّة الخاصّة بقصيدة النّثر تنشأ من اتحاد قوتين
متناقضتين: قوّة فوضويّة مدمّرة وقوّة تنظيميّة فنّيّة" سو ا زن برنار.

كما صرحت لنا الباحثة والناقدة والفنانة التشكيلية الدكتورة خيرة مباركي، في هذا المقال:

الإيقاع في قصيدة النثر موضوعِ له أهميّة استثنائية لما يثيره من جدل عنيف في مدى مشروعيّةِ اعتبار قصيدة النثر شكلا من أشكال الشعر أمام إشكاليّة المصطلح، وما يحمله من تناقض في داخله بين الشّعر والنثر، ومنه تتأكّد علاقة قصيدة النثر بالشّعريّة والحداثة وما يمكن أن تتبوأه من مكانة في الشعر الحر، هذا مع ما تظهره من تجاوزٍ وقطعٍ مع الوزن والعروض. أمر يجعلنا نطرح قضيّةَ الإيقاع باعتباره أهم أسس الشعريّة عند أغلب الدارسين، إضافة إلى أنّه موضوعُ خلافٍ في تحديد ماهيته ومدى ارتباطه بقواعد البلاغة والعروض، ولعلّ ذلك ما يقدح السؤالَ حول مظاهرِ حضورِ الإيقاعِ في قصيدة النثر.

لقد قامت العديد من الدّراسات النقديّة بمواجهةِ قصيدة النثر. فاعتبرت جنسا دخيلاً على الأدب العربي لافتقاده أهمَّ مقوماتِ الشّعر، وهذا ما جعل أغلبَ الدراساتِ المهتمةِ بها تنحو منحى الدفاع عنها دون التعمق في مقوماتها الفنيّة وخصوصيّاتها المائزة. فانتماء هذا الجنس للنثر الذي يعادل اللاوزنَ، يجعل من مسألةِ انتمائِها إلى النظم أمرا عسيرا يحتاج إلى الكثير من الإفحام والإقناع. بهذا فنحن أمام مبحث هام لأنه يتفجّر من عديد الإشكاليات المتعلّقة بالشعر الحديث وما يشهده من تطور في مستوى الشكل والمضامين، أو لعلّه صورة للشّعريّة الحديثة التي تتنصّل من كلِّ المواثيقِ وتسعى إلى معانقة المطلق في إطار الإبداع والتجريبِ الفنيِّ. إنّها رغبة الشاعرِ-الإنسانِ أو الإنسانِ-الشاعرِ، الذي يرنو دوما إلى مطلق الوجود في الفن والإبداع، وقصيدة النثر هي ذلك الشكل الجديد للتجاوز لإنكارها قواعد العروضِ وقوانينِه فهي أساس شعريّة القصيدة الكلاسيكيّة عند بعض النقّادِ. ولكنها عند أنصارها مستوى متقدمٌ من مستوياتِ التجريبِ اقتضتها مرحلةٌ تاريخيّةٌ تعاضمت فيها مشكلاتُ الإنسانِ المعاصرِ وتعقّدت قضاياهُ فلم تعد اللغةُ المتداولَةُ قادرةً على التعبيرِ عن هواجسِه واستيعابِ أفكارِه. لذا كان لزاما عليه أن يستحدث وسائلَ أكثر قدرةً على التعبير واكتناه عالمِ المطلق. قد يكون هذا الشكل دخيلا على الشّعر القديم، وقد يكون متجذّرا في عمق الأدب والتراث الفني العربي. ولكن الأهم بالنسبة إلينا هو علاقته بالإيقاع ومظاهرُ حضوره فيه.

وينطلق البحث بدراسة الإيقاع باعتباره منفذا إلى شعريّة قصيدة النثر ومظاهر حضوره فيها. بهذا يرتبط تطور النظرة إلى الإيقاع بمسألة تطور الشكل الأدبي وعلاقته بظهور مثل هذا الجنس الدخيل الذي يبحث لذاته عن كيان يؤسّس عبره لأسس وقواعد تؤصّله ضمن حقل الشعر. وعلى هذا الأساس طُرح سؤال كبير في البحث ما الإيقاع؟ لتكون الإجابة عن سؤال يتعلّق بماهية قصيدة النثر ليكون منطلقا لمسألة أهم: مظاهر حضور الإيقاع فيها.

فكان المنطلق من تحديد لغوي لهذا المفهوم واستنادا إلى جملة من المعاجم اللغويّة والبلاغيّة، ثم رصد مفهومه الاصطلاحي من خلال رؤى شرّاح الفلسفة اليونانية وما أثمرته من تطوير في مفهوم الإيقاع. دُرس في علاقته بالموسيقى وبالمحاكاة والجمال. ثم من خلال رؤية البلاغيين والعروضيين القدامى الذين أعطوا مفهوما لم يبتعدوا فيه عن ذلك المفهوم الذي يربط بين الإيقاع الموسيقي والإيقاع العروضي.

وفي أفق هذا التطور الحثيث تتوسّع دائرة الإيقاع ليرتبط بمستويات التخييل. ولعلّها مرحلة تنبئ ببداية الوعي والتجاوز لمفهوم الإيقاع في أفق النقد البلاغي والعروضي القديمين. وحاولنا في هذا الإطار أن نكشف عن مظاهر التجاوز للمفهوم السائد وذلك من خلال التأكيد على شمولية الإيقاع أمام الوزن، ثم من خلال ما ظهر من أشكالٍ جديدة تقارب الشعرَ في الوزن والقافية يمكن أن تفتحَ على شعريّةٍ بديلةٍ من شأنها أن تعطي مجالا لغير قصيدة العمود حتى تتوسّع آفاقُها.

وهو ما وقفنا عنده في الدرس النقدي الحديث، وحاولنا في ذلك أن نتتبّع مظاهر تطور الرؤية للإيقاع من خلال نموذج قد يكون هاما في تطور الشعريّة الحديثة أو منطلقا لها، يكسّر جملة القيود التي أحاطت بالشعر العربي القديم، وهو ما عرضته نازك الملائكة من رؤية حاولت أن تتجاوز بها القناعات الشعرية القديمة وتؤكّد على معنى التحول والديناميّة في ربطها بين الشعر والحياة. ومن ثم تكون منطلقا لإعادة النظر في مسألة الإيقاع العروضي والتفعيلة. ومنه ننفذ إلى ما وصلت إليه بعض الدراسات من نتائج حول مسألة الإيقاع، كان لها صدىً ملفتٌ. ومنها دراسة محمد مندور الذي ربط الإيقاع بالكم والنبر. وإبراهيم أنيس الذي يذهب مذهبا آخر فيؤكد على قيمة النغمة الموسيقيّة مقابل عدم أهمية النبر، ثم شكري عياد وما وصل إليه بحثه من نتائج هامة حول النبر والكم غدت منطلقا لغيره وخاصة كمال أبي ديب. قد يكون هؤلاء وصلوا إلى نتائج إلاّ أنّها ظلّت متعثرة في نظر العديد من الدارسين الجدد. وهو ما قد يتضح مع الدرس الغربي الحديث. وقد ركزنا في ذلك على بعض الرؤى ومنها رؤية إيميل بنفنيست وهنري مشونيك وجيرار ديسون وهي رؤى يتأسس عليها مفهوم جديد للإيقاع.

ويلي ذلك دراسة قصيدة النثر، للتعرف على أصولها وخصائصها وهذا بمحاولة تعريفها في المستويين اللغوي والاصطلاحي، وهو ما يدعو إلى النّظر في المهاد الحاضن لظهورها في أروبا. ومنه يكون التحوّل إلى درس قصيدة النثر العربية بين التأسيس والتداعيات، وما أثاره المصطلح من جدل مقابل رغبة أنصارها في تأصيلها نموذجا لتطور الشعريّة العربيّة بما أوتيت من خصائص فنيّة تركزت عليها، وهي تجاوزُها للإيقاع الخارجي. ومن هنا تطرح إشكاليّة هامة تتصل برؤية جديدة للإيقاع تختلف عن المفاهيم القديمة، وهو مدار العمل في القسم التطبيقي ومن خلاله نحاول أن نبحث في مظاهر حضوره في نموذج من نماذج قصيدة النثر. وهو ديوان"غرانيق الأمس" للشاعر العراقي فائز الحداد. وما يمكن أن يسدّ فراغ غياب الإيقاع الخارجي فيه. وهذا ما يضعنا إزاء العديد من المظاهر التي تتراوح بين مستويات مختلفة منها الصّوتي والتركيبي ومنها البصري والدلالي. والسبيل في ذلك الانتقاء لنرصد جملة الظواهر الإيقاعيّة الغالبة في الدّيوان عبر منهج تحليلي يراعي تتبع الظاهرة الإيقاعية من داخل النموذج. ومن المظاهر التي وقع الاهتمام بها:

إيقاع التكرار الصّوتي واهتممنا في هذا المجال أولا بتعريف التكرار لما له من أهميّة وقفنا عندها في تناول الدارسين والنقاد لها، وفيها ارتأينا أن نركّز على مستويين وهما تكرار الحرف، واللفظ.

أمّا إيقاع التركيب فتركّز على تركيب الجر، إيقاع المركب الفعلي، ثم إيقاع الحذف في الأعمال اللغويّة وتناولنا منها جملة النداء وجملة الاستفهام باعتبارهما من الظواهر الغالبة في المدونة.

هذا فضلا عمّا وقفنا عنده من إيقاع التشكيل البصري وما يمكن أن تحدثه لعبة البياض والسواد في إطار التحاور بين اللغة والصّمت. وسعينا إلى أن نرصد بعض المظاهر الإيقاعيّة على المستويين العمودي والأفقي.

لينتهي هذا القسم بمحاولة رصد الإيقاع الدلالي من خلال اللغة الشعريّة وما يبدعه شاعر قصيدة النثر من خلق سياقات جديدة داخل أنساقها. وطرائق تشكيل الصورة الفنيّة التي يمكن أن تدعم هذا الإيقاع الدلالي. ثم الإيقاع المتولّد من الرمز ومنه ذلك التوافق بين الرمز الأنثوي والرمز التاريخي والديني. هذا فضلا عن إيقاع التقابل الذي يمثّل الأساس في قصيدة النثر وخاصة في هذه المجموعة الشعرية. وتنبثق منه صور إيقاعية أخرى مثل إيقاع الحياة والموت/ الحلم والواقع/ الحضور والغياب...

وهذا ما مكن من الوصول إلى جملة من النتائج:

أولها أنّ الإيقاع ظاهرة عصيّة على التمثّل، زئبقيّة لا يمكن حصرها أو الإمساك بتلابيبها.

بهذا يمكن اعتباره من المفاهيم التي تمثّل متصوراتٍ ذهنيّةً لا تحمل في ذاتها من الصفات ما يجعل لها حدودا. هو مصطلح لا يخضع لمفهوم ثابت بل هو متطور. وجد في الكون كظاهرة تلقائيّة. ارتبط بالحركة والسقوط في المعاجم القديمة ثم بمصطلحات العلوم المجاورة له: البلاغة والعروض والفلسفة واللسانيات.

ومن هذه المرحلة تكون بداية التحرّر الفعلي مع المحدثين الذين يحاولون ترسيخ رؤى جديدة تعصف بالقناعات القديمة. ليأخذ التنظير مجراه في دراسات وصلت في نتائجها إلى تنقية الإيقاع من قواعد العروض لينشأ تصور جديد قائم على مستويات ثلاثة: الكم والنبر والتنغيم في الدرس الحديث. كما ارتبط عند الغربيين بنظرية الدليل وأولويّة اللسان ليكون الإيقاع هو الدال الأكبر، وكل نظريّة ليست ممكنة إلا في علاقتها بالممارسة أو في علاقة بين الإيقاع والمعنى.

وهذا ما تفتح السبل أمام شعريّة قصيدة النثر، فهي مظهر من مظاهر الحداثة الشعريّة. وبما أنّ الإيقاع عُدّ من أهم أسس الشعريّة، فمجاله ممكن، وهذا ما يجعل قصيدة النثر صورة جديدة للشعريّة المحدثة. ولئن خالفت أوزان الخليل وجاءت مغايرة لقواعد العمود فذلك لأنها تعول على لغة خاصة تتجاوز أنساق المعهود في عرف اللغة وعلاقاتها السياقيّة. فيغدو لكل نص نثري لغةً خاصّةً يتفرّد بها صاحبُها لحظة التلفّظ. لذلك فهي تستعيض عن إيقاع الشكل المحصور في ما نسميه الإيقاع الخارجي، بإيقاعات رديفة لا تنفصل عن الشكل وذلك في ما يظهر من ظواهر صوتية يتصل بعضها بمقومات البلاغة في أصولها الأولى من مجانسةٍ صوتيةٍ وتقابلٍ وتكرارٍ، وتتجاوزُ كلَّ ذلك إلى الإيقاعِ المعنوي والدلالي اللذين يتشكلان من تلك الظواهر.

الإيقاع لا ينشأ قبلا بل هو ظاهرة آنيّة تولد مع الخطاب ويمكن أن تخلُقَ قصيدةُ النثر شعريّتَها فتُظهر قدرة الشاعرِ على صناعته. وهو ظاهرة تتصل بالذات المتلفظة والمتلقية على السواء كلاهما يتمثّل الإيقاع بطريقته وحسب حالته الشعورية، وقد يتجاوز الاحساس والتصور الذهني له إلى بعد حدسي فنتمثّله ونحسّ بوجوده،. إذن قضية الإيقاع في قصيدة النثر هي أساسا قضيّة مصطلحات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى