الاثنين ٢ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم سامية إدريس

لزهرة الأوركايد وأخواتها

كم يلزم من الوقت لردم هوة الذكريات وفتح مرآة النسيان العجيبة؟

لا شك أنه وقت طويل طويل قد يلتهم نصف العمر.

قبل أن تصاب بذلك الداء الجليل المسمى" الحرية " كانت مجرد فتاة بلباس محتشم موعودة بالفرح. تثبث عينيها على شاشة التلفزيون في انتظار مسلسلها المفضل.

على كل حال ذلك زمن آخر حيث ينحدر العمر فيه نحو حدائق العشرين. ولا شك أن كل إنسان يقدر قيمة تلك السنوات الملأى بالحبور. عندما كان المساء ينحدر على مهل نحو هوته السحيقة أقصد باتجاه حتفه الأزلي. ولم يتح لها بعد لتعرف أن الأحزان الهائلة والأفكار الكبرى قد تولد من تفاصيل بسيطة وربما هامشية حتى لا نقول تافهة. وأنى لها أن تعرف؟

على السجادة الصغيرة وقف أبوها يصلي الوتر إذ بعد الفاتحة شرع في تلاوة الإخلاص بالكثير من التأكيد". فيما راحت هي تفكر في تفاصيل اسمها.كان اسمها زهرة اسم جبلي بخلفيات ريفية واضحة المعالم‘ ما سبب لها كثيرا من الإحراج في المدرسة. ثم اتجهت نحو المطبخ لتعد له الشاي كالعادة. و عادت تتعثر في ظلام الرواق الضيق تحمل الصينية الصغيرة بكأسين واحد لأبيها والآخر لمن يرغب. قد تكون أمها أو إحدى أختيها سميرة في أغلب الأحيان لتتمكن من مرافقة الليل والنجوم وانتظار القمر الذي سيحدثها عن خطيبها البعيد والذي لا تتوانى عن سؤاله كل ليلة كأنه مرآتها السحرية"هل يعود؟ " كان القمر يصغي وفي بعض الأحيان يبتسم في لا مبالاة.

وجمت إذ رأته يطيل السجود كأنما قرر أن يبقي قريبا من الله. وضعت الصينية فوق الطاولة ثم هزت كتفه ونادته بصوت خافت "بابا بابا, بابا بابا بابا با.....بابابابابابا ..."

فتحت عينيها ذات أربعاء لترى الغرفتين تتسعان والريح تهز النوافذ و المطبخ الذي كان يضيق بأربعتهم صار مثل الثوب الفضفاض والمستودع الخاو والبئر الجافة . سميرة تنظر بأسى فخطيبها لم يكلف نفسه حتى حضور العزاء. " حسنا ليبعث برسالة قصيرة ألا يتسع يومه لجملة موجزة ؟ ! أيعجز عن القول " إنا لله وإنا إليه راجعون ؟" . منذ ذلك اليوم لم تجرؤ سميرة على مواجهة القمر لإلقاء تحية المساء والتحديق في وجهه.

أما زهرة الفتاة صاحبة الاسم الجبلي فكان لها رأي آخر . إن ترتيبها الوسطي يضعها أمام خيارات صعبة إذ تتطلع نحو الغد كما تنظر إلى الأمس هذه هي عقبات الترتيب الوسطي تقول زهرة. تبتسم في أسى إذ ترى سميرة تتطلع نحو الغد كأنها تعد حبات خرز في عقدها الرخيص. تهمس " مسكينة سميرة لا تعرف أن الخبز والماء والملح والصابون والدواء لا تنزل مع حبات المطر فتتثاءب كالقطة وتنظر عبر النوافذ الصغيرة ثم تعود إلى جلستها تحلم أمام جهاز التلفزيون القديم". مالذي تفعلينه الآن يا زهرة؟ قضى والدك فوق سجادة بالية لعله الحظ الوحيد الذي ناله في الحياة. وما ذا ينتظر عامل يومي تتشقق أصابعه ويجف عرقه مرارا قبل تحصيل خبزه القاسي؟ ها قد رحل وتركنا في العراء لن يرى بيتنا ذو الغرفتين الصغيرتين أجرة بعده.

عند السادسة وقفت زهرة في المحطة تنتظر تحسست شهادتها في الخياطة داخل الحقيبة اليدوية العتيقة فكرت هل تجد من يوظفها؟ وهي التي تخرجت من مركز التكوين المهني منذ شهرين فقط على أمل توفير بعض المال لشراء الماكنة. هل ستقبل صاحبة المحل بتلك التوصية؟

مضت مترنحة داخل الحافلة تعلق ذراعها في السقف وتزاحم التلاميذ والعمال والبطالين‘ نظر إليها بعض البنائين ثم غضوا أبصارهم . أمام الموت لا يملك الإنسان إلا أن يطأطئ رأسه. وكلهم يعرف من تكون " هي ابنة المرحوم "

اتجهت لمحل السيدة " فتيحة " تحمل توصية من قبل جارة عمتها ‘ الزبونة الأولى في الورشة. بدا الشارع خاويا في الصباح الخريفي الباهت ‘ وخطواتها المتسارعة فوق الإسفلت تعري ارتباك قلبها. ذكرت العنوان من جديد بمحاذاة "السجن الأحمر " خياطة للنساء مع جهاز العرائس .

وحين قرأت اللافتة ذات الخط الأسود الرديئ‘ تأكدت فعلا أنها تقف أمام المحل المقصود فخفق قلبها ‘ وانتظرت إلى غاية السابعة والنصف ليشرع أبوابه.

حسنا لقد قبلتها ‘ فقط عليها أن تلزم الجدية وإلا ستطرد " قالت السيدة فتيحة والله المحل فيه الكثير من الفتيات المدربات‘ ولكني لا أستطيع رد طلب السيدة مريم مريم غالية على قلوبنا ‘ مقامها عال ‘ لا أستطيع رد طلبها. لقد حكت لي عن ظروفك لهذا سأقبلك . يبدأ العمل عند السابعة والنصف وينتهي عند الرابعة والنصف مع نصف ساعة لفسحة الغداء‘ لا أريد أي تأخر‘ تعلمين النتيجة لا داعي لتذكيرك . منذ اليوم ستبدئين بكي الملابس وتثبيت الأزرار وقص الخيوط الزائدة وبعدها نرى ... "

وعادت مثقلة بالفرح بعد شهرين تحمل راتبا ‘ للمرة الأولى في حياتها تتلقى راتبا ‘ صحيح أنه لا يدثر جميع الأجساد في البيت ولكنه راتب على كل حال . منذ الآن عليها أن تعمل وأن تدخر لتشتري الماكنة. هاهي تسير على خطى والدها لا تأمين ولا عطلة ولا منح . ولكن ماذا تفعل غير أن تعمل؟ ثمة وصفات طبية تنتظر فواتير الكهرباء ‘ أجرة الحافلة لها ولأختها الصغيرة سناء‘ كتبها المدرسية ...

أليست سعيدة بعملها ؟ ليس بعملها فحسب بل بحريتها‘ بالصباح الذي تستقبله والهواء المنعش الذي يلامس وجهها ‘ وبقدرتها على خلافة والدها ‘ بالأمانة التي طوقت عنقها‘ بالراتب الذي تحتال في تجزئته‘ تضلل الرغبات الصغيرة‘ الثوب الجديد والحذاء اللماع . تضحك من نفسها‘ وهل بلغنا هذا الحد من الرفاهية؟ الحمد لله كأني ولدت من جديد " يخرج الحي من الميت " سبحان الله !

هاهي تتقدم‘ففي غضون خمسة أشهر أمكنها الجلوس خلف الماكنة الثقيلة ‘ داخل المحل الذي تغطيه الأثواب النسائية الجاهزة ذات البريق والتطريز الذهبي‘ ألوان من العدس والسمسم والعقاش والخيوط الذهبية والحريرية الملونة‘ وهاهي تلتف حول عنقها مثل شباك العنكبوت إلى اليوم. كم مضى من الوقت؟ أعشر سنوات؟ بل إثنتا عشرة سنة بالتمام والكمال ّ منذ رحيل والدها. أشياء كثيرة تغيرت هرمت أمها دفعة واحدة‘ لزمت الفراش واستأنست بالأدوية. تزوجت سميرة ورضيت بقدرها واستغرقت في الطبخ والغسيل وتقسيم الراتب الهزيل. وهاهي سناء ترقص في حفل تخرجها . وها هي زهرة الفتاة ذات الاسم الجبلي تمد يدها إلى قطع الحلوى تتذوق طعم نجاحها‘ دون أن تشعر بحرج اسمها .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى