الأربعاء ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٢
بقلم أمينة شرادي

لعب الورق

كان صباحا مشرقا يعلن عن بداية صيف حار، رقصت كل الأجساد النائمة تحت أشعة شمس وهاجة مسحت بصفائها على كل الوجوه البئيسة والنعسانة. العم أحمد، يحب هذا اللقب كثيرا، يجعله يشعر بالفخر والهمة بين زملاءه في العمل. استيقظ هذا الصباح وهو يبحث عن توازنه الذي افتقده بالأمس. طرد النوم من غرفته كالعادة واحتضن خيوط الشمس وسمح لها باختراق أعضاءه النحيلة. التي قضى بها زمنا في وظيفته. هيأ فطوره، الذي رفض أن يغيره رغم نصائح ابنه الوحيد، الذي كان دائما يؤكد له على شرب الحليب حتى لا تصاب عظامه بالهشاشة. فطور بسيط لا يحتمل الجهد والعناء، يتكون من كسرة خبز وشاي محلى بشكل قوي. انه لا يتلذذ بشرب الشاي الا وهو يضيف القطعتين من السكر. كان دائما يقول لابنه الذي يعاتبه" المسافة التي أقطعها يوميا للعمل، تحتاج الى طاقة كبيرة."

فقد العم أحمد، في ذلك الصباح، بوصلته التي كانت تحركه بشكل آلي لكن بحماس. بوصلته التي كانت تدفعه الى الباب متوجها الى عمله. تعطلت هذا الصباح، وظل نظره الحزين متوجها صوب فطوره، ثم أشاح بوجهه عنه. ملأت الدموع مآقيه وهطلت كمطر مفاجئ في عز الخريف. ظل صامتا لا يتحرك حتى نسي الانتباه الى الساعة المعلقة على الحائط التي كانت اول من يستقبله لما يستيقظ وآخر من يودعه لما يطلب النوم. هذا الصباح، نسي وقته وهجر فطوره، واتجه صوب النافذة المطلة على الشارع الرئيسي، ووقف طويلا، ينظر الى فراغ ممتد أمامه كحية خرجت للتو من حجرها تزهو برقصتها السامة. أخذ رأسه يشتعل بأسئلة لم يطرحها يوما. سقطت دمعة هاربة من سجن عينيه على خده، حاول أن يبتسم وهو يتذكر الامس، وحفلة الأمس بين زملاءه. كانت حفلة تقاعده. أهدوه وسام الشرف والاستقامة، ومدوح بكلمات راقية. وصفقوا له حتى تورمت أديهم. ضجيج أصواتهم مازال عالقا بذاكرته. ابتعد خطوات الى الوراء والتفت صوب الباب كأنه يستنجد به ويطلب منه أن يفتح حتى يطرد هذا الأمس من سجنه الداخلي. همس "ماذا سأفعل الآن؟ ". دار حول نفسه كما تدور الساقية لجلب الماء.

قرر في النهاية ان يطرد لعنة ذلك الصباح، ودفع بجسده خارجا كخائف من نار التهمت بيته. ما هي الا خطوات بعيدا عن حيه، حتى داهمه خوف شديد وقنوط غريب لم يفهم كنههما. قبل تقاعده، كان يسرع الخطى، ويستقبل الشارع بروح مرحة وقوية حيث يكون أول الجالسين على مكتبه. كان زملاءه يضبطون ساعتهم على حضوره وانصرافه. وان تأخر يوما، رنين مستمر من كل ناحية، يسألون عنه. حاول طرد هواجسه التي استوطنت نفسه، وغير الاتجاه الذي كان يسلكه عادة الى عمله. مشى كثيرا دون اهتمام بالآخرين ولا بالوقت الذي كان يتحكم فيه، حتى عاد الى بيته منهكا كأنه جرى أميالا. رمى بمعطفه الذي كان شاهدا على آخر لحظات عمله، فوق مائدة هذا الصباح. حيث اختلط الشاي والخبز وعرق السنين وكونوا لوحة الأمس، التي كانت تشعل البيت نورا وبهجة. ارتمى على كرسي كان قرب النافذة، وأغمض عينيه على أمل أن يستيقظ ويرحل الكابوس.

طالت جلسته ومل الانتظار، أعاد شريط الأمس القريب. وجوه كثيرة كانت تطل عليه وتحييه بابتسامة عريضة لم يفهم منها شيئا سوى أنه اضطر الى مبادلتهم بنفس التحية. وجوه أتت تشاركه حفلة الوداع، اغرورقت عيناه وانهل الدمع وعلا صوت نحيبه كأنه لم يبك منذ زمن. "كانت أمسية جميلة وممتعة" خاطب نفسه الحزينة. واسترسل يكلم نفسه "لكن ماذا سأفعل الآن؟".

انتفض من مكانه كانتفاضة الديك المجروح، هدأ من روعه ووقف امام المرآة ينظر اليها وتنظر اليه، كأنه امام محاكمة. دفع من فمه كلاما دون تفكير: "كم مضى من الوقت؟" اقترب أكثر من المرآة، كأنه يريد أن يخترقها ويقبض على الزمن الهارب بين مسالكها البراقة. تابع كلامه:" هل يمكن التحكم في الزمن؟" استهزأ من أسئلته التي لم تشغله يوما. أعاد تسريحة شعره وأخذ معطفه بكل حنان من فوق الطاولة كأنه يعتذر له وخرج دون الالتفات الى الوراء.

خطى خطوات سريعة ومتقاربة كأن أحدا يتعقبه، وجد نفسه فجأة أمام الشركة التي كان يعمل بها. "كيف وصلت الى هنا؟" سأل نفسه. توقف عن السير واخذ يتأملها كأنها لوحة يراها لأول مرة. وأطلق العنان لزفرات متتالية وآهات كأنها آتية من بئر عميقة. ما ان هم بالانصراف، حتى أيقظته يد ثقيلة هوت عليه من الخلف كانت تريد أن تسلم عليه. التفت وعادت اليه ابتسامة الأمس التي هجرته هذا الصباح. كان أحد زملاءه، تعانقا وتكلم العم أحمد كثيرا دون أن يترك المجال لزميله. فاستغل هذا الأخير لحظة صمت عابرة وقال له:

 أعتذر. لم أحضر للحفلة بالأمس. كنت مشغولا. هنيئا لك.

طال وجه العم أحمد الاستغراب وقال له:

 لماذا تهنئني؟

ارتسمت علامات التعجب والاستغراب على ملامح زميله وقال:

 لقد استرحت من هذا العمل الروتيني الممل. لك الآن كل الوقت.

استفزته ملاحظته وهو الرافض لكل أشكال التهنئة والشعر وحفلات التكريم ورد عليه بعنف:

 أنا كنت أتمنى أن يمدوا في خدمتي. لا أعتبر تقاعدي مرحلة جميلة من العمر بل هو موت بطيء.

وودعه دون أن ينتظر جوابا منه. مشى كثيرا بلا هدف. ذهنه مشغول وأسئلته تتزاحم في رأسه حتى شعر بصداع مباغت. قال وهو يسير بلا هدف:" ماذا سأفعل الآن؟" .

العم أحمد، لم تكن له هواية الجلوس في المقاهي أو حتى التنزه في الحدائق من اجل مهادنة الوقت. كان يأخذ نفس الطريق الى عمله ذهابا وإيابا. وكثيرا ما كان يلاحظ وهو يقترب من بيته، مجموعة من الرجال مختلفة أعمارهم لكن أغلبهم مسنين، يجلسون أرضا وتوزع بينهم كؤوس الشاي، ويتجمعون حول لعب الورق. وتتعالى أصواتهم وتخترق الفضاء الصامت للمدينة. كان ينظر إليهم مليا ويكمل طريقه.

أحس بالجوع والعطش في الوقت نفسه. غير اتجاهه مشى قليلا. ثم قرر العودة الى بيته. لكن خطواته كانت مترددة كأنه خائف من شيء ما. أخذ يفتش في جيوبه عن ساعته التي تلازمه كظله. "غريب، أين الساعة؟" حديث مع نفسه التائهة بين الأمس واليوم. فجأة، سمع أصواتا مألوفة لديه تهاجمه من مسافة قربيه، حاول معرفة مصدرها. لم يدرك كيف أخذته قدماه الى الساحة التي يتجمع فيها أصحاب لعب الورق. انه بينهم. اتجه صوبهم وجلس يراقب لعبهم دون تردد. تعلو وجهه بين الفينة والأخرى علامات الاستحسان أو الرفض. نسي التعب والعطش وأسئلته الحارقة، وانغمس في جو آخر أعاد اليه البسمة. مر من الوقت الكثير، هب مفزوعا وخاطب روحه: "ماذا أفعل هنا؟" أسرع الخطى حتى دلف الى بيته يتصبب عرقا وخوفا. حاول النوم ونسيان ذلك اليوم المشوب بالشوك ووخز الابر وشيء من الفرح. توالت الأيام متشابهة كشلال قابع وسط جبال مهجورة، اختلطت عليه الأمور، كان يوثق كل يوم بتاريخه. لا ينسى عيد ميلاد ابنه. تشابكت الأيام وفقد العد الصحيح. قال يخاطب نفسه:" صرت مثل لاعبي الورق، لا أعرف أسماء الأيام."

استحالت الحديقة القريبة من بيته الى مكان عمل جديد، يمضي فيها جل وقته. يستيقظ صباحا على أمل أن يجد له مكانا بين المتقاعدين مثله، يقارعهم في لعب الورق حتى ساعات متأخرة من النهار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى