الأحد ١٠ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم طارق البكري

لغز القرية المسجونة

المشهد الأول:

كثيرة هيَ القَصَص وَالحَكاياتِ التي لَا يُمْكِنُ تصديقها بِسهولة..

وحتى مَنْ يَرَاها حَقيقة عَلى أرض الوَاقع يَظن نفسَه يَحلم..

وربما رأى الإنسان أحداثاً لا يخبر بها، وقد يخبر بأحداث من نسج الإنسان نفسه..

وَمَع ذلك تبقى القصَص المحكية راسخة في ذَاكرة النَّاسِ، يَرويهَا الكِبارُ للصِّغار، وتتناقلها الأمَمُ أجَيَالاً وَراءَ أجْيال..

وربَّما تكون معظم القصصُ أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، لكنَّ التجارب الـتي نحياها كل يوم تدهشنا أحياناً بوقائع كانت بالأمس خيالاً..

ولطالما سمع النَّاس عن أمور غريبة، لا يمكن أن تخطر على بال أحد ببسباطة، وعن أحداث عجيبة لا ينسجها إلا فكر واسع ونفس غارقة في الأحلام البعيدة..

وفي أحيان عديدة نسمع عن قصص حدثت في التاريخ وقد نظن أصحابها أسطورة من الأساطير، أو خلقاً من غير البشر من غرابة الأحداث التي تصادفهم..

لكن تلك القصص رغم كل ما تثيره من استغراب؛ فإنها تظل مرتبطة بالواقع مثيرة للجدال..

وهناك من يؤمن بأنَّ وراء الواقع شيئاً أبعد من الحقيقة.. وأوسع من الخيال.. وأنَّ وراءَ كلَّ خيال.. طرفاً من الواقع.

هي أشياء لا تسقط مع المطر، ولا تنبع مع الماء، ولا تثمر مع الزهر، ولا تنبت مع العشب..

أشياء فوق العقل أو التوهم..

فوق الرؤى والأحلام..

ومع ذلك يظل الناس يسعون جاهدين لاقتناص الأمل والحياة من وراء الواقع..

فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل..

ومن الحكايات التي عاشت دهوراً وتناقلها الناس ولم تمحَ من صفحات الذكريا.. قصص عدة جرت تفاصيلها في مكانٍ واحد، لكنها حدثت في أزمنةٍ متفرقة.. منفصلة في أسبابها، مختلفة في أحداثها، متباعدة عن بعضها في الزمان وفي الأشخاص، غير أن هناك أثراً واحداً يَجمع بينها، ومع طول الزمان والتاريخ وتعاقب الأمم؛ شهد ذلك الأثر الكثير من وقائع تلك الحكايات المليئة بالتشويق والمغامرات..

في ذلك المكان الشاهق..

حيث الأفق حدوده.. والنسائم وروده.. والزنابق جنوده..

هناك..

حيث يبدو القمر أكبر بكثير وأشد بياضاً لمعاناً مما يراه سائر البشر!

سكنت قريةٌ صغيرةٌ قمةَ جبلٍ عالٍ، عاش فيها الناس في سلام وطمأنينة وأمان، في حضن الطبيعة الجميلة والهواء البارد المنعش، داخل سور مرتفع، تحيط بهم غابات تكسو التلال والجبال والوديان..

وفي ربوة عالية من القرية ينتصب الأثر القديم، يبدو بقايا لقصر حَجَريّ متين..

أهلُ القريةِ يتوارثون جيلاً بعد جيل قصصاً كان مسرحها أرجاء هذا القصر الجميل.

ينسجون حوله خيالات وقصصاً قريبة من الأحلام.

يتوارثون قصصاً.. ويخترعون أخرى. فهم منذ مئات السنين يعيشون بعيداً عن أهل القرى وسائر البلاد، لا يخرجون من قريتهم ولا يزورهم من خارجها أحد، ليس عندهم أجمل من هذا الأثر ليكون سميراً لهم ورفيقاً على مدى الأيام والسنين..

كانَ سَكانُ القرية بالرغم من كل الوَداعَة التي ينعمون بها في محيط قريتهم، مِنَ طبيعة سَاحَرَة خَلابة وَهدوء تام لا يَقطعه سَوى صَوت زقزقة الطيور أو حفيف أوراق وأغصَان الشجَّر.. يخشون الخروج من قريتهم التي تحيط بها الجدارن العالية، حماية لهم من الأخطار الخارجية، حتى أنهم عندما أقاموا هذه الجدر لم يجعلوا لها أبواباً.. فبدت القرية وكأنها سجن كبير..

المشهد الثاني:

أهلُ القرية، ومنذ زمان بعيد، يَخشون الحيوانات المفترسة والفتاكة التي تملأ الجبل الذي يسكنون قمته. ترهبهم فكرة "الوحوش المرعبة"، يعتقدون أنها ستجتاحهم لو أزالوا الجدر، أو ستفتك بهم في حال خروجهم خارج أسوار القرية.

وتحكي الجدَّات للأحفاد في الأمْسِيَات، ومن حين إلى آخر، قُصصاً كثيرة محزنة، عن اختفاء عدد مِن أبناء القرية الأشداء، الذين تجرأوا وغادروا القرية التي تشبه الحصن، وجَالوا في أمْكنة قريبة في جَوار قريتهم للاستطلاع والمَغَامِرة..

لم يذهبوا إلى مَكان بعيد، لكنهم لم يعودوا إلى القرية منذ أنْ غادروها..

لم يجرؤ أحد بعد ذلك على الخروج للمغامرة أو حتى للبحث عنهم.

الناس في تلك القرية اقتنعوا مع مضي السنين والأجيال بأنَّ العالم كله هو عالمهم وحدهم فقط، فليس من أمكنة خارج قريتهم يمكنهم أن يقصدوها، ولا مِن طعَام غير الطعام الذي يعرفونه..

لا شيء غير هذه الأسوار التي بناها أجدادهم، لإبعاد خطر الحيوانات المفترسة.. ومنها الأفاعي والثعابين، التي لا تقوى على تسلق جدران السور المبنية من صخور ملساء شديدة الصلابة..

الخطر يَكمن وراء هذه الجدران، والخير كلُّه في ظل حمايتها لهم..

أحلام الانطلاق خلف تلك الجبال المحفوفة بالمخاطر تقلَّصت، حتى أضحى مجرَّد التفكير بذلك بدعة غير واردة على الإطلاق، ولا يُستحسن مجرد التفكير فيها.. ويعاقب عليها قانون القرية.

ذاكرة التاريخ مستمدة من آثار القرية.. والجبال المحيطة بها تشهد لتاريخها، وكأنها بعلوها المتناهي فوق كل الجبال الراسية من حولها، تسطع كل يوم من أنجم الليل حين يغفو القمر.. وتبدأ النسائم تتراقص بين التلال والوديان، تداعب أوراق الشجر..

تغني أغنياتها الشهيرة..

تملأ النفس في كل الفصول بريقاً متجدداً يوماً إثر يوم.. وليلة إثر ليلة..

تلك هي الطبيعة تتحدث عن نفسها، كأنها فرقة موسيقية واحدة، متناغمة، متناسقة، تشغل نفسها بنفسها، دون تبجح أو غلو أو عملقة..

لأنها هكذا..

في رملها.. وفضائها..

في أعلاها وأسفلها..

ترسم الحياة بكل صنوفها.. بكل هدوئها وجبروتها..

القريةُ مُزدحمةٌ بناسها.. تحبهم ويحبونَها..

لا يعرفون غيرها، ولا يخرجون منها، اعتادوا على ذلك وتأقلموا، فصاروا جزءاً متأصلاً منْ ترابِ الأرضِ، وَنباتها.. وَثمارها..

النَّاسُ فيها مشغولونَ بكثرة أعمالهم، فلكل يوم جديد، يحاولون أن يجعلوا من هذه القرية التي يسكنون فيها أجمل مكان في العالمِ.. رغم أنهم لا يعرفون من العالم غيرَ ما فِي داخلِ الأسوار العالية التي تحيط بهم.

أهلُ القريةِ يتحدثون عن سُلالات كثيرة منَ الأفَاعي، مِن كلِّ الأحجَام وَالأشكال والألوان، تتلوى في كلِّ مكان ترصد فرائسَها..

يَرسُمونَ بَعْضَها عَلى سورِ القريةِ ليبينوا خطرها، بأحجامها الضخمة، وأشكالها الغريبة، وألوانها الفريدة..

بَعضُ المشاهد مَحفُورةِ على الجَانبِ الدَّاخِليّ مِنَ السُّور أو الأشكال الموضوعة فوقه.

مجسَّماتٌ تؤكد ضرورة إلا يتجاوز أحد هذه الأسوار المنيعة، لكي لا يصيبه ما أصَاب غيره من الذين قاموا بتخطي هذه الحدود، مهما تمتع من شجاعة في النفس وقوة في الجسد.

هذه الأفاعي هي عدوَّهم الأول..

كَانوا يَحذرونها أشدَّ الحَذر وَيَخَافونَ مِنْهَا أشدَّ الخَوف، لِذا كَانوا يَحْتاطونَ مِنها ومنْ سمِّها.

يَستخرجون السمَّ مِن بَعض الأفاعي التي يجدونها ميتة قرب أسوار قريتهم..

يترقبون من فوق الجدار..

ينتظرون أيَّاماً وأسابيع طويلة حتى يسعفهم الحظ بموت أفعى في عراك أو في غيره قريباً من الجدار، فيرسلون عصا طويلة مصنوعة من عدة أغصان رفيعة مستقيمة يربطون أطراف بعضها ببعض بحبال متينة..

يلتقطون الأفعى الميتة بطرف هذه العصا المحدبة، يرفعونها إلى أعلى الجدار ليستخرجوا منها السم، ثم يجعلونَه طعماً لأطفالهم الصغار، حتى تتعوَّد دماؤهم عليه، فإذا تعرضوا للدغة أفعَى أوْ ثعبَان فِي يومٍ من الأيامِ فَلا تكونُ اللدغةُ مُميتة..

غيرَ أنَّ هُناك قصَصاً كانتِ الجَداتُ ترويها عن كثير ممنْ تعرضُوا للدغ، وَلم يَصْمدوا أمام سمّ الأفاعي الفتاك، ومع ذلك فليسَ لديهم أي خيار آخر.

المشهد الثالث:

لَم تكنْ المَركباتُ القديمةُ التي تَجرُّها الخُيولُ تَصِلُ إلى قَريَتهم لوجُودِهَا فوق قمة جبل شديد الانحدار، تحيط بها غابات تمتد من سفح الجبل إلى جوار سورها العالي.
كما أنَّه لم يكن عند أهل القرية خيولٌ ولا يعرفونها، بل كانوا يسمعون قِصصاً عن مخلوق خرافي سريع العدو قوي البنية يمكنه أنْ يحمل الناس ويطير بهم..

يتحدثون عن طائر عجيب حمل جدهم الأول إلى هذا المكان بعد أن غضب عليه مَلكٌ من ملوك الزمان، وأبعده عن بلاده إلى قمة هذا الجبل عقاباً له.. حيث استقر وعاشَ زمناً طويلاً، ومضت الأزمان حتى نسي كثير من الناس المعاناة الكبيرة التي عاشها جدهم بسبب ظلم الملك الشرير وحكاية الطائر.. وصارت الأحداث مجرد قصة من القصص.

وبعد أنْ دارَ الزَّمانُ دَورته، أقبلَ بَعضُ النَّاسِ إلى هذه القمَّة وَسكنوهَا، ثم توارثوا قصصاً أخرى عن القصر الذي بقيت بعض آثاره صامدة رغم السنين الطويلة..

عاش كثير من الناس في جوار القصر، وكان أكثر طعامهم نباتاً، من خضروات يزرعونها، أو من ثمار يجنونها من الأشجار التي كانت تملأ المكان..

أمَّا شرابهم فهو إمَّا من ماء ثمار جوز الهند الطيب الطعم، وإمَّا منْ ماءِ نبع بارد في الصيف مثلج في الشتاء..

وألذ ما كانوا يأكلون؛ الطيور التي يصطادونها عندما تمر الأسراب المهاجرة في سماء قريتهم، وربما احتفظوا بما اصطادوه حياً ليأكلوا بيضه أو ليربوه إذا كان صغيراً حتى يكبر وينمو شحمه ويزداد لحمه؛ فيأكلوه بعد شيه بنار خفيفة يوقدونها بحجر يكثر في أرضهم، يصدر شرارات نار قوية عندما يضرب بحجر مثله.

إمَّا مَا لديهم من حيوانات صَغيرة منْ ماعز وخراف فقد كان عددها قليلاً، لا يأكلون لحمها إلا عندما لا يجدون طعاماً غيره يأكلونه، خشية انقراضها، لأنهم كانوا يشربون حليبها ويصنعون منه بعض الأطعمة اللذيذة..
أمَّا الدجاج فقد كان وافر العدد..

يأكلون لحمه وبيضه، ويصْنعون من ريشه أشكالاً من الثياب وأدوات الزينة.

وفي مواسم الشتاء..

عندما تكسو الثلوج الناصعة البياضَ المرتفعات والسهول والمنحدرات والوديان بثوبها الأبيض، تبدو الجبال مثل عروس ليلة زفافها، فتمتلىءُ الأزقة والشوارع بالبياض والصقيع، ويصبح التنقل بين بيوت القرية المتقاربة أمراً عسيراً..

عندها يمكث الناس أياماً وليالي طويلة لا يخرجون من بيوتهم إلا عند الحاجة القصوى، ولا يَذهبون إلى ساحة القرية الكبيرة مثل عادتهم مساء كل ليلة في غير مواسم الصقيع، فتهدأ القرية كلها، وتسْكنُ كلَّ تفاصيلها، ويخيمُ عليها الصَّمتُ والظلام..

لا صوت فيها غير صوت الريح.. ولا حركة فيها غير حركة الثلوج المتساقطة من السماء أو المتهاوية من فوق التلال والمرتفعات.

المشهد الرابع:

على هذه القمة الجبلية الجميلة البديعة، وفي تلكَ القريَة الوَادِعة الهَانئة؛ نشأ فتى يَافع بين أقرانِه الفِتيان، فخوراً بطلعته البهية وبنيتهِ القويةِ، فَلا يَسبقهُ من شَباب القرية أحد في القوة والمهارة وحسن الأدب..

ومن فرط حبه للقرية ولشوارعها وأزقتها؛ نادراً ما يفقده أحدٌ ليوم كامل أو يومين على الأكثر..

فالجميع يلتقون به من حين لآخر..

وأهل القرية جميعاً يحبونه لأدبه وحرصه على مساعدة الآخرين..

يلبي نداء المرأة العجوز، فيقضي حاجاتها ويحضر لها طلبها، يقطف ثمار أشجار بستانها ويكنس باحة بيتها..

يبادر إلى الشَّيخِ الكبير وهو يسيرُ في طريقه حاملاً بعض الأغصان اليابسة ليشعلها في موقد داره، أو ليتدفأ بها في موسم الشتاء القارص..

يَزيلُ الأعشاب الضارة من طرقات الناس ودروبهم..

يَحمل مصباح الزيت في الليالي المظلمة، عندما يغيب القمر، ليسلك العابرون طرقهم بسلام نحو بيوتهم، وهم عائدون من عملهم أو من زياراتهم..

كانَ يَستشعر فَرَح المعاونة، والرضى بإدخال السرور والمسرات إلى قلوب الآخرين.

فمَا أجمل أن يكون الإنسان "خادماً"، يعمل من أجل راحة من يعرف ومن لا يعرف..

كمْ سخية هي اليد التي تمسح دمعة المحزونين.. والفم الذي يواسي جراح المكلومين..

ومَا أنبل تلك الأنامل التي تنزع الأشواك حتى تُدمى، فلا تدمي أقدام العابرين.. وتزرع الورد لتزين دروب المحبين، وما من جمال مثل قولهم: "سيد القوم خادمهم".

وَكان هذا الفتى اليافع يسمع وهو فِي حِراكه الدائم الدائب في عون الناس؛ بَعض كبار السن وهم يروون قصة يقولون إنها سبب وجودهم في هذا المكان على قمة هذا الجبل.. قصَّة رجلٍ كانَ يعيش على رَبْوَةٍ خَضْرَاءَ عاليةٍ، حيث تقع بقايا القصر..

ذلك القصر الذي يتَوَهج تَحْتَ الشَّمْسِ..

يكادُ المتأمل يُسْحَرُ بِمَرْأَى سَماءٍ تَحْتَضِنُه بِحُنُوٍّ وسَكِيْنَةٍ.. وفِي اللَّيَالي يلمس نُجُوماً مُرْتَجِفَةٍ، تبدو من شرفاته دانيةً مثلَ ثِمَارِ شَجَرٍ..

يكادُ عابرٌ في عَتْمَةِ دُروبٍ طويلةٍ لا يَحْتاجُ إلى ضَوْء قِنْدِيلٍ أَو شُعَاع سِرَاجٍ..

قصص كثيرة توارثها النَّاس حول هذا القصر.. ومنها قصَّة حاكم ظالم وابنته التي رفضت الانصياع والطاعة والخضوع لظلم أبيها.

وهُنَاكَ حيث عاشت في قصرها الشامخ..

كان ينامُ القمرُ وتغفو العصَافير بأمان وسلام دونَ خَوْفٍ مِنْ صَيَّادٍ غادر يَأتيها بَغْتَةً أو طامع جائر..

كانت الأرانِبُ تسيرُ بِخُشوعٍ آمنٍ في جِوارِ الثعالبٍ، وتَرْقُدُ الحِمْلانٌ في سلام قُرْبَ الضِباعٍ..

ومن هُناكَ..

من أعلى سَنامِ الرَّبْوةِ كان يطل القصرٌ الحَجَريٌّ القديمٌ..

بسقفه القَرْمِيْد..

وجُدْرانه الصَخْر وجبينه العالي وهامَته المُرْتَفِعَةٌ..

وبمَنارَته التي تَخْرِقُ الفضاءَ، وتَرْمِي بِشِبَاكِها حيثُ تسكبُ أنواراً بِهَيْبَةِ شموخٍ، بلا اسْتِئْذَانٍ..
ومن هناك أيضاً..

كانَ القَصْرُ يُنشر بَهاءه الباهِر على الحَدائق والتِلال وَالوِدْيان والمُروج.. مُعْلِناً نَفْسَهُ حارِساً أميناً للوحةٍ فنيةٍ طَبِيعِيَّةٍ سَاحِرَةٍ مُبْدِعَةٍ صَافِيَةٍ.

وفي الأيام الشتوية..

عندما تَتَكَدَّرُ السماء ويتغيرُ لونُها؛ تغيبُ مناراتُ القصرِ الشامخةِ لِلْعُلا بينَ غيومٍ مُتَكَدِّسَةٍ كَقُطْنٍ حَالِكٍ شَدِيدِ السَّوادِ، تَتَدَلَّى مِنْ فَوْق إلى تَحْت، تَتَمَدَّدُ مِنْ أسفلٍ إلى أعلى.. تبدو تِلالاً قُطْنِيَّةً تَنْحَدِرُ بِقُوَّةٍ.

المشهد الخامس:

وكان سَيِّدُ القَصْرِ الأوَّل رجلاً صالحاً، طيبَ القلب، عالي الهمة، قوي الإرادة، لاَ يَسْتَسْلِمُ لِجَبَرَوتِ طبيعةٍ.. كما لم يستسلم للظروف القاسية..

كان يَأْبَى أَسْتَارَ الشتاءِ أنْ تَحجبَ أنواراً مُرْسَلَةً جذباً لتائهينَ ضائعينَ فِي عتمةِ ليلٍ..

يطلبهُمْ حثيثاً كما يطلبُ سراجُ نورٍ فراشاتٍ هائمةٍ ترنو لدفءٍ وقَبَسٍ مِن أَمَلٍ.

عِنْدَها يَسْتَنْفِرُ خَدَمُ القَصْرِ وَعَسَسُهُ، يَنْطَلِقُونَ بِأَمْرِهِ، يَزْرَعُونَ القَنَادِيل عَلَى أَطْرَافِ الجبل.. فِي زَوَايَا الطُرُقَات وَالدُروب الوعرة، إِسْعافاً لِعَابِري لَيْلٍ كَالِح مُتَجَهِّمٍ عَابِسٍ، وهدياً لتائهينَ تَحْتَ لَطْمِ عَوَاصِفٍ.. ودَعْوَةً لِمُشَرَّدِينَ بَاحِثِينَ عَنْ مَأْوَى وملجأٍ دافىءٍ، يَلُوذُونَ بِهِ، يَقِيْهِمْ سِياط بَرْدٍ وَبَلَل شِتَاءٍ وَقَرْصَةُ جُوْعٍ..

وَمَنْ يَعْرف الجوع؛ يدرك أن قَسوته فِي البَردِ أشدّ وأمر..

ذلك الرجل هو نفسه الذي أتى به الطائر الخرافي من زمان بعيد..

حمله الطائر مع زوجته إلى قمَّة الجبل النائي منفياً من بلاد بعيدة..

حمله بأمر مَلك من ملوك الزمان، وأبعده عن أهله وأصدقائه وأحبائه..

الملكُ الشريرُ أرادَ الاسْتيلاء على قصره الجميل الذي يمتاز بحجارته النادرة، ومكانه الفريد، على ربوة حافلة بأنواع من الورود والرياحين، ولا يُمكن العثور على ما يتصف به من جَمالٍ في أنحاء مملكته..

كانَ الحقدُ والحسدُ يتحكمان بقلبِ الملك الشرير؛ كيف يكون لرجل في مملكته مهما علت مكانته مثل هذا القصر الذي يتميز بهاء عن قصر الملك؟

وزاد من نقمته عليه أن الرجل كان محبوباً عند الناس، مقرباً منهم، يساعد فقيرهم، يلبي حاجاتهم، ويعين مرضاهم، ويواسي آلامهم..

إنَّ الطيبة الإنسانية التي تولد مع الإنسان يفتقدها في كل زمان وفي كل أرض بعض البشر، فيختل عندهم ميزان العدالة، وتتسامى عندهم الشرور والآثام، وتنخفض في دستورهم مكانة الإنسانية بكل ما تحمله من سمات.. ربما يشاركهم في كثير منها سائر مخلوقات الأرض..

لم يتوقف الملك الشرير عند مجرد التهديد والوعيد.. ولم يتخل عن هدفه المنشود.. بل ازداد ولعه بمطلبه واشتد تعنته مع إصرار الرجل الطيب على التمسك بقصره، بالرغم من أنَّ عروض الملك فاقت الثمن الحقيقي للقصر والأرض التي تحيط به.

عرض الملك الشرير على الرجل الطيب شراء القصر، وأغراه بكثير من الياقوت والذهب والمرجان؛ فرفض..

خيره بين الوجاهة والغنى والرياسة، أو كلها معاً؛ فرفض..

لم يقبل كل ما عرضه عليه بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى..

لم يكن قصره ولم تكن أرضه مجالاً للمقايضة مقابل كل ثروات الأرض..

تلك المساحة الوسيعة الممتدة لعشرات الأمتار على كتف الوادي، يخترقها نهر يفيض بالماء صيفاً وشتاء.. ورثها عن أجداده وبنى عليها قصره الشامخ.. وفاء منه لمن سبقه من أجيال اعتنوا بالأرض وعمروها ورعوها، فما قصروا في رعايتها وصيانتها وحمايتها من كل اعتداء، ولم يهملوها ولم يتخلوا عنها..

تلك المساحة على وسعها لم تكن هي الهدف بحد نفسه بالنسبة للحاكم الظالم.. لأن الجشع همه، والسيطرة غايته.. أما الرجل فكانت القناعة حياته والكبرياء سلطانه.. لا الوجاهة ولا السلطة ولا المال..

وظل الرجل يعاني ظلم الحاكم وتضييقه عليه وعلى عماله زمناً طويلاً أملاً منه بأن يتوقف الحاكم عن غيه، ويقتنع بأنه لن يترك أرضه ولن يبيعها له بأي سعر لأنها بالنسبة إليه لا قيمة مالية لها.. إلى أن قرر الحاكم تنفيذ مأربه..

وكانت ليلة من ليالي الشتاء الباردة.. شديدة الظلام.. عاصفة الريح..

اقتحم الجنود قصر الرجل وقبضوا عليه وكبلوه بالحديد.. قادوه إلى قاضي الملك مكبل اليدين والقدمين.. أبلغه القاضي أنه حكم عليه بالنفي لأنه رفض تحقيق أمر الملك..

قال له إنه يعطيه فرصة أخيرة للتنازل عن قصره..

لكن الرجل رفض ذلك بكبرياء..

وقال للقاضي:

"إذا أراد الملك قصري فليأخذه غصباً عني.. لكنه لن يحصل على موافقتي مهما فعل بي".

وتنفيذاً لحكم القاضي الجائر في قرار اتخذه دون محاكمة ولا قضية ولا تهمة..

وبناء على أوامر الملك الظالم؛ قام طائر خرافي عجيب ضخم، يسكن عشاً هائل الحجم، على شجرة كثيفة الأغصان في حديقة قصر الملك، قام بحمل الرجل على ظهره ومعه زوجته وأولاده الصغار، وطار بهم إلى مكان ناء..

أمرَ الملكُ بعض عماله من الجن أن يبنوا للرجل بيتاً بسيطاً وصغيراً على قمة الجبل العالي حيث نقله الطائر العجيب..

وقال القاضي للرجل قبل أن يختفي من المكان:

"عليك أن تسكن في بيتك الجديد حتى تموت.. لأنه مكان بعيد ولن تستطيع الخروج منه والعودة إلى من جديد"..
وأخبره أيضاً:

"بيتك الجديد لن يكون أبداً مثل قصرك الحالي، بل سيكون صغيراً، وعليك أن تقتنع بهذا الحكم وألا تفكر بالعودة، وإلا سوف يقضى عليك".

فأذعن الرجل الطيب لهذا الظلم، وفضل النفي الجائر على العيش بجوار حاكم ظالم.. كما أنه لم يكن يملك خياراً آخر..

المشهد السادس:

بعد أنْ وصل الطائر الخرافي العجيب، وبسرعة كلمح البصر إلى مكان لا يعرفه أحد من البشر.. شرع عمال الملك الشرير ببناء البيت الجديد..

وخلال أيام قليلة من العمل المتواصل ليلاً ونهاراً أصبح البيت جاهزاً.. لكنه في الحقيقة لم يكن بيتاً عادياً.. وعندما شاهده الرجل أصيب بالدهشة والسعادة.. وكانت المفاجأة أنَّ العمال لم يلتزموا بأوامر ملكهم الشرير، وقاموا ببناء قصر جميل رائع، أجمل من قصره الذي استولى عليه الملك.. غرفه وقاعاته كثيرة وواسعة، وأثاثه يشبه أساس قصره القديم..

كانوا يعرفون صاحب القصر ويحترمونه، ويعرفون أنَّ الملك "ظلمه" عندما استولى على قصره بالقوه ونفاه إلى هذا المكان النائي..

وقف الرجل على شرفة من شرفات القصر.. تأمَّل البساتين المُمْتَدَّة..

كانت البساتين تَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي البَصَرُ..

المنظر كان رائعاً جميلاً يملأ القلب والنفس بهجة وحبوراً.. على عكس ما كان يأمل الملك..

تأمل الواقع بغصة.. كان يأمل أن تتملكه قوة ما تتمتع بقوة جاذبة تجره إلى حيث يجب أن يكون..

لعلَّ ريحاً عاتية تأتي من بعيد، تنزعه من مكانه، وتحمله إلى حيث كان.. تلقيه في الأرض التي يحب.

لكنْ.. هيهات هيهات أنْ تأتي ريح يتمناها.. وأن يتغير واقع لا يريد هو بنفسه أن يغيره ويبدله.

فهل تتغير الأحوال من غير إرادة ويتحقق انتصار من غير قتال؟

وكم من متأمل ضاعت منه آمال وتناهت عنه أحلام.. يظن مخطئاً أن الآمال ستأتيه عفواً، وأن الأحلام ستتحقق دون أن يجهد فكراً أو يبذل عملاً.

هو يعلم أنَّه: ما نال غايته من عوَّل الآمال على ريح صرصر عاتية.. أو من طلب الماء في صحراء قاحلة.. أو من صخرة صماء جامدة.

إنَّ الريحَ التي تمرُّ تمضي في طريقها بكبرياء.. لا تسأل عن محب أو مبغض، هي تحمل العبير وضده.. وتسير بلا نهاية.. بلا حدود أو هدف، تتنقل من بلاد إلى بلاد دون كلل أو ملل.. تمر على أسطح بيوت الأغنياء كما تمر على أسطح بيوت الفقراء..

سيان عندها ما بين زهر الربيع أو شوكه..

هي تمضي، وتدور حول الكرة الأرضية، تقطع المسافات دون انقطاع.. ولا تعبأ بكل من تصادفه في طريقها..
وإلى سفح الجبل وصل بعض أهل البادية يحملون خيامهم المتنقلة..

شاهدوا القصر المستجد على رأس القمة، فسارعوا إلى صعود المرتفع رغم صعوبة التسلق ووعورة المنحدر..
حملوا معهم بعض الماشية والحيوانات الداجنة..

وعندما بلغوا المكان وجدوا أرضاً طيبة، وماء عذباً..

راحوا يرجون الرجل الطيب أن يقبل بأن يعملوا في الأرض مقابل أن يسمح لهم بالسكن الدائم في هذا المكان الجميل، ظناً منهم أن القمة والبساتين التي تحيط بالقصر هي ملكه..

كانت الأرض تلك الأيام حرة منطلقة لا يملكها أحد.. وهو أول إنسان يطأ القمة ويسكن فيها..

بدأ العُمَّال الجدد يَعْمَلُونَ ليلاً ونهاراً دُوْنَ مَلَلٍ..

يَزْرَعُونَ أنواعاً مِنْ أَشْهَى فَاكِهةٍ وخُضْرَاوَاتٍ..

أَرْضُ الرَّبْوَةِ خَصْبَةٌ خَصْبَةٌ، لاَ تَبْخَلُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي أَحْشَائِها، ولاَ تَحْتَاجُ سَماداً وَلاَ جُهْداً كَبِيراً.

المَاءُ يَسِيلُ من حولها مِنْ كُلِّ صَوْبٍ. العشبُ الضارُّ لاَ يَنْبَتُ بِهَا..

ترَابُها نَظِيفٌ.. فَاكِهتُهَا لَذيذةٌ.. كُل ما عَلَيْهَا يُعْجَزُ وَاصِفاً عَنْ وَصْفِهِ، وَسَاحِراً عَنْ سِحْرِهِ، وَفَنَّاناً عَنْ فَنِّهِ، وَشَاعراً عَنْ شِعرهِ..

فِي الربوةِ العالية على قمة الجبل حَرَكَةٌ دَائِبَةٌ جَادّةٌ مُنْهَمِكَةٌ، أَعْمَالٌ مُسْتَمِرَّةٌ لا تَتَوَقَّف، مِثْلَ خَلِيَّةِ نَحْلٍ أَو ثَكَنَةِ جَيْشٍ.

المالكُ الجديدُ هَادىءٌ رَزِينٌ، حَليمٌ وقورٌ رصينٌ.. لَطِيفٌ فِي تَعَامُلِهِ، سَعِيدٌ مُبْتَسمٌ بَشُوشٌ.. العُمَّال يُحِبُّونَهُ.. الأَزْهَار والأَشْجَارُ والفَرَاشاتُ.. حَتَّى حَيَوَانَاتُ الزَرَائِبِ عِنْدَمَا تَشُمُّ رَائِحَتَهُ تُطْلِقُ أَصْوَاتاً تَدُلُّ عَلَى الرِضى والسرور.. وكُلُّ ما فِي القَصْرِ كان يُحِبُّ السيِّدَ الكَرِيمَ. هُوَ لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ.. يُسَاويهم بِنَفْسِهِ، فِي كل مشْربٍ وَمأكَلٍ وَمَلْبَسٍ؛ طَعَامُهمْ طعامُهُ، ثِيَابُهُمْ ثِيَابُهُ، لو شَاهَدْتَهُ بِرِفْقَتِهمْ ما فَرَّقْتَ بَيْنَهُم وَبَينَهُ.. لاَ يَبْخَلُ عَلَيهِمْ بِعطاءٍ.. لاَ يُهِينُهمْ.. لاَ يُكَلِّفُهُمْ مَا لاَ يُطِيقُونْ..

وعَلَى هَذِهِ الحالْ عَاشَ العمال واستقروا بعدما كانوا من البدو الرحل ينتقلون من مكان إلى مكان بحثاً عن الماء والطعام.. وانقضت الأيام بِوِئامٍ وَسَلامٍ دُونَ أَنْ تُكَدِّرَ صَفْوَ حَيَاتِهِمْ شَائِبَةٌ ولا عِلَّةٌ.
ومَرَّتْ السِّنونُ وهم هَانِئون سُعداء، لَيْسَ لديهم مَا يُقْلِقُ مِنْ مُزْعِجَاتٍ..

المشهد السابع:

تَوَالَتْ الليالي آمنةٌ مُسْتَقِرَّةٌ.. وما أجمل الحياة عندما يسودها الأمن والحب والعطاء.. بعيداً عن الشر والظلم والإساءة للآخرين.

تلك أشياء كانت تملأ أرجاء القصر وبساتينه..

كَبُرَ سَيِّدُ القَصْرِ.. وَبَلَغَ أولادُهُ سِنَّ الفُتُوَّة وَالشَبَاب.. وسَارَ الأَبَنْاءُ عَلَى مِنْوَالِ أَبِيهِمْ..

الخير عندما يزرع بيد طيبة وفي أرض طيبة ينبت طيباً وخيراً وفيراً.

عَمِلُوا بِأَيديهِمْ، لَمْ يُمَيِّزُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ القَصْرِ وَزَارِعِي حَدَائِقِهِ.. لَمْ يَكُنْ زَائِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَصْغَرِ عَامِلٍ فِي القَصْرِ، وعَاشَ الجَمِيعُ أَيَّامَهُمْ بِهُدُوءٍ يَزْرَعُونَ ويَحْصُدُونَ..

كَانَتْ أَعْدَادُ العمال تَزْدَادُ عاماً بعد عام.. إِمَّا بِأَوْلادٍ جُدُدٍ أَو بِعُمَّالٍ جُدُدٍ.. وسيد القَصْرِ كان يَبْنِي لِعُمَّالِهِ بيوتاً حولَ قصرِهِ، تَبْدُو للرَّائِي قصوراً مُصَغَّرة عَنْ القَصْر الكَبِير.. لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إِبْعَاداً لَهُمْ عَنْ قَصْرِهِ.. بَلْ لأَنَّ قَصْرَهُ ضاقَ بِسَاكِنِيهِ، كَمَا أنَّهُ أَرَادَ لَهُمْ أَنْ يتزوجوا ويَسْتَقِلُّوا بِبُيوتٍ خَاصَّةٍ وَيَعِيشُوا حَيَاةً طَبِيعِيةً.. يريد أن يملأ حياتهم بالسعادة، وأن يملأ بسعادتهم مساحة قلبه الكبير.. الذي ما فتىء يحن إلى بلاده وقصره القديم.. فلا شيء يغني عن الوطن.. حتى لو اجتمعت كنوز الأرض لتكون له بدلاً..

ورغم أنَّ الرجلَ الطيب صار يعرفهم جميعاً.. فإنهم لم يكن لديهم أي خبر عن زوجته.. هم يعرفون أنها موجودة في القصر.. وفي جناح خاص بها.. لكنها لم تكن تَظْهَرُ أَبَداً، وَحَتَّى لا تلتقي بأي من نساء العمال أو بناتهن..

ومع الأيام لم يعد هؤلاء البدو رحلاً، وتحولت القمة الجبلية المقفرة إلى قرية صغيرة جميلة تضج بالحياة..

وكان أهل القرية الجديدة يتساءلون فيما بينهم عن سر زوجة الرجل الطيب، ولماذا لا تظهر على الناس؟

فطلب بَعْضُ النِسَاء إِذناً بِزِيَارَتِها مرات كثيرة، لكن طَلَبُهُنَّ كان يُرَّدُ دَائِماً بِلُطْفٍ جم وأدب بالغٍ. وكُنَّ يَتَعَجَّبْنَ مِنْ ذلك، فيَتَسَاءَلْنَ عَنْ سِرِّ سَيِّدَةِ القَصْرِ الَّتِي لا تَخْرُجُ مِنْ جَنَاحِهَا وَلاَ يَعْرِفُها أَحَدٌ، ومعْ مُضِيِّ الأيَّامِ خَبَا وخَفَّ كُلُّ حديثٍ عَنْهَا، وَكَادَ النَّاسُ يَنْسُونَ وجُودَها وَلَمْ يَعُدْ كلامٌ عَنْهَا رَائِجاً وسَائِداً..

إلى أن حدث أمر صبغ الواقع الجميل بلون جديد مليء بالحزن.

ففي ليلةٍ صَيْفِيَّةٍ من ليالي الصيف الحارة، وفي وقتٍ مُتَأَخِّرٍ..

وقت تتجمد فيه أَصْواتُ البَرِّيةِ وَتقف النَّسَائِمُ سَّاكِنَة.. وتتوقف الطُيُور عن غنائها وَالحَشَرَات عن حركتها الدائبة.. شَقَّ صَمْتاً بدِيعاً رائعاً صَرْخَةٌ مِثْلَ صَاعِقَةٍ مُدَوِّيةٍ..

انْفَجَرَتْ مِنْ ذَاكَ قلب الجناحِ المَنْسِيِّ المُحَرَّمِ على ساكنِي القَصْرِ وحدائِقِهِ..

صَرْخَةٌ وَاحِدَةٌ كانت كَافِيَة لِتُوقِظَ الجميع.. وأَشَاعَتْ رُعْباً وَخَوْفاً وَهَلَعاً..

صَرْخَةٌ يَتِيمَةٌ جَعَلَتْهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ بُيُوتِهِمْ فِي ثِيَابِ نَوْمهم يركُضونَ نَحْوَ القصرِ هَلِعِينَ خَائِفِينَ فَزِعِينَ..

الصوتُ انبعثَ مِنَ الجَنَاحِ المُحَرَّمِ..

تحلقوا حول القصر يترقبون نَبَأ جَلَلاً عَظِيماً..

يَا تَرَى مَا هَذَا الخَطْبُ والمَكْرُوهُ الكَبِيرُ وَالمَوْقِفُ الخَطِيرُ الذي دَفَعَ سَيِّدَ القَصْرِ لِلْصُّرَاخِ بِهَذَا الشَّكْلِ المُرِيعِ المُخِيفِ؟!

تجمهر النَّاسُ حول القَصْرِ.. ولَمْ يَجْرؤْ وَاحدٌ مِنْهُمْ عَلَى دُخُولِهِ..

كَانُوا يَسْمَعُونَ صَوْتَ صياح سَيِّدِهِمْ، لَكِنْ يَسْتَحِيْلُ عَلَيْهِمْ دُخُولَ الجَنَاحِ المُحَرَّمِ حيث مصدر الصوت..
ظَلُّوا وَاجمين بصمتٍ يَتَرَقَّبُونَ وكأن على رؤوسهم طير، وأعينهم مَشْدُودةٌ بلهفة تجاه نَوَافِذِ القَصْر.
اِنْتَظَروا حَتَّى بَدَأَتْ أَشِعَّةُ الشَمْس تَتَكَوَّمُ بَعِيداً ثُمَّ تَتَسَلَّلُ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ بَعِيدةٍ..

بدأ الشعاع يَنْبَسِط غَامِراً تلالاً وَوَدِيانَ وَسُهُولاً.. لكِنَّهُمْ ظَلُّوا مُسَمَّرينَ ثَابِتينَ فِي أَمَاكِنِهِمْ، كَأَنَّ الحَيَاةَ تَوَقَّفَتْ عِنْدَ صَرْخَةٍ شَقَّتْ عَنَانَ سَمَاءٍ..

صَرْخَةٌ مَا برحت تَتَرَدَّدُ فِي آذَانٍ مُضْطرِبَةٍ تَرَكَتْ أَثَراً فِي وُجُوهٍ وَاجِمَةٍ عَابِسَةٍ مِنْ شِدَّةِ الهَم.

المشهد الثامن:

عِنْدَ ارْتِفَاعِ قُرْصِ الشَّمْسِ، شَعَرَ النَّاسُ بِحَرَكَةٍ مُرِيْبَةٍ.. تَرَقَّبُوا.. أَرْهَفُوا أَسْمَاعَهُمْ..

تسَلَّلَتْ خَادِمَةٌ صَغِيْرَةُ السنِّ.. سَلَكَتْ أَبْوَاباً خَلْفِيَّةً لِلْقَصْرِ، نَقَلَتْ إِلَيْهِمْ جملة قصيرةً:

"سَيِّدَةُ القَصْرِ مَاتَتْ... سَيِّدَةُ القَصْرِ مَاتَتْ"..

تَعَالَتْ أَصْوَاتُ البُكَاء.. الدُمُوعُ تَسَاقَطَتْ.. بَكُوا كَأَطْفَالٍ صِغَارْ..

تَعَالَتْ الأَصْواتُ بالبُكاءِ مَعْ أَنَّ أَحَداً منهم لَمْ يَرَ وَجهَ "المَرْحوْمةِ" فِي حَيَاتِهِ..

كَانَتْ لُغْزاً مُحَيِّراً، مِثْلَمَا هُوَ مَوْتُهَا الآنْ.. ومَعْ ذَلِكَ تَأَثَّرُوا وفاء للرجل الطيب وَأَبْنَائِهِ.. رَفَعُوا الأَكُفَّ بالدعاء.. سَأَلُوا اللَّهَ لَهَا الرَّحْمَةَ.. لم يغادروا أماكنهم رغم اشتداد حرارة الشمس..
اِنْتَظَروا تَشْييعَ الجثة.. تَرَّقبُوا خُرُوجَها لِيَدْفُنُوها في مقبرة قريبة.. يُقِيمُوا لها وَاجِبَ عَزَاءٍ كَبِيرٍ يَلِيقُ بِهَا وَبِزَوْجِهَا.. مَضَت ساعات طويلة ولَمْ تَخْرُجْ الجثة.. انْتَظَرُوا النَّهارَ كُلَّهُ.. تَعِبوا وجَاعوا.. لَكِنَّهُمْ ظَلُّوا وَاقِفِينَ منْتَظرِينَ مُتَرَقِّبينَ.. ثم أَتَى المَساءُ ثَقِيلاً.. فعادُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ قَسْراً مُرْغَمِين.

وفِي صَبَاحٍ بَاكِرٍ تَالٍ.. خَرَجَ الأَبْنَاءُ كَعادَتِهِمْ كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ.. تَوَجَّهُوا للعَمَلٍ مَع العمّال دُونَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا كَلِمَةً وَاحِدَةً.. كَمَا أَنَّ أَحَداً لَمْ يَسْأَلْ سُؤَالاً وَاحِداً..

انْصَرَفَ عُمَّالُ البَسَاتِينِ وَالحَدَائِقِ والزَّرَائِبِ.. كُلٌّ يَعْمَلُ عَمَلَهُ.. تَبَادَلُوا النَظَرَات، تَرَقَّبُوا خُرُوجَ سَيِّدِهِمْ، لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرَ طَوَالَ اليَوْمِ..

ومضى يَوْمٌ.. ويَوْمَانِ.. وثَلاَثَةٌ.. ثم مضت أَيَّامٌ وَأَيَّامٌ.. والحَالُ عَلَى مَا هِي عَلَيْهِ..
الرجل الطيب غَائِبٌ عَنْ مَزَارعِهِ وعماله..

وبَعْدَ بضعة أسابيع، وَفِي يَوْمٍ شَديدِ الحَر.. وَدُونَ تَوَقُّعٍ، ظَهرَ الرجل رَاكِباً فَرَساً.. يَحْمِلُ بِيَمِينِهِ سَوْطاً رآهُ عُمَّالُهُ لأَوَّلِ مَرَّةٍ..

لَمْ يَكَدْ هؤلاءِ يَرُونَ سَيِّدَهُمْ حَتَّى تَوَقَّفُوا عَنِ العَمَلِ وركضوا نَحْوَهُ بِسَعادَةٍ عَفَوِيَّةٍ، وبدلاً من أن يقابلهم بشوق مماثل؛ انْهالَ عَلَيْهِم بِسَوْطِهِ يوْسَعَهُم ضَرْباً، وَشَتَمَهُمْ سَاخِطاً وأمرهم بِالعَوْدَةِ إلى عَمَلِهِمْ..

تفاجأ هؤلاء من موقف سيدهم غير المفهوم ولا المبرر..

تَغَيَّرَتْ أَحْوَالُه وانقلبت رَأْساً عَلَى عَقِبٍ.. بدا وَجْهُهُ قَبِيحاً دَمِيماً.. تَبَدَّلَ مِنْ إِنْسَانٍ هَادِىء طَيِّبه قَلْب وطَبْعه وَدُودٌ إِلَى شخص شَرِسٍ عَنِيفٍ قاسٍ سَيِّىءْ..

أولادُهُ هم أيضاً كان ينَالَهُمْ من الضرب والشتم ما أصاب غيرهم..

وازْدَادَتْ تَصَرُّفَاتِهِ سوءاً يوماً بَعْدَ يَوْمٍ وَكَأنَّ روحاً شَرِيرةً تَلَبَّسَتْهُ.

تَعَجَّبَ الجَمِيعُ مِمَّا يحدُثُ، ولَمْ يجرؤْ أَحدٌ عَلَى صَدِّهِ ومَنْعِهِ، حَتَّى أَوْلاَدُهُ طَرَدَهُمْ مِنَ القَصْرِ، فسَكَنُوا بُيوتَ العُمّال..

لَمْ يَعْتَرِضُ أحد ولم يواجهه أحد..

تَحَمَّلُوا تَصَرُّفَاتِهِ تقديراً منهم للصَّدْمَةِ الهَائِلَةِ الَّتِي أَلَمَّتْ بِهِ بِوَفَاةِ زَوْجِهِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ سعادَةٍ وفرحٍ تليدٍ قديمٍ.. فقد كانَ مَوْتُها شرارةَ نَارٍ أَوْقَدَتْ جمر قَلْبِهِ وَأَحْرَقَتْ كُلَّ شَيءٍ جَمِيلٍ فِي نَفْسِهِ.

كان أولاده يعرفون مقدار حب أبيهم لأمه.. صاروا يعتذرون من العمال ويحاولون التخفيف عنهم، وكشفوا لهم أنَّ أمهم هي التي كانت تسجن نفسها في غرفتها ولا تقبل لقاء أحد..

أخبروهم بقصة الملك الشرير، وأن أمهم بعدما سكنت هذا المكان أصيبت بحزن شديد وكآبة عظيمة، خاصة لأنها فقدت أباها وأمها وأفراد أسرتها، وسكنت في هذا المكان مرغمة وحيدة لفترة طويلة.. فأصبحت تخاف من كل شيء، حتى من الهواء فلا تفتح نافذة غرفتها..

وبعد أن تجمع الناس في هذه القمة وسكنوها ظلت سيدة القصر ترفض رؤية أي كان..

كانت حياتها تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، حتى ماتت فجأة، وخسر أبوهم بموتها حبه الوحيد وسبب ما كان يجعله متمسكاً بالحياة، وشعر أنَّه أضاع أجمل ذكريات حياته، وفقد ما كان يربطه بماضيه السعيد.

المشهد التاسع:

وَمَرَّتْ أَيَّامٌ طويلة.. صارت تَصَرُّفَاتُ الرجل تَزْدَادُ حدة يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ.. وتطايرت الأَخْبَارُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.. فتَحَدَّثَ النَاس عَنْ قصة الرجل فِي قُرَىً وَبِلادٍ بعيد.. تَعَاطَفَ بعضهم مَعَهُ وَاسْتَغْرَبَ آخرون.. كما استاء البعض من استبداله القسوة والظلم بالرفق والطيبة والرحمة..

حَاوَلَ أَبْنَاؤهُ جاهدين إِنْقَاذَ أَبِيهِمْ مِنْ كَرْبِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ صَلْباً كَجُلْمُود صَخْر.

لَمْ يَتَخَلَّ الأَبْنَاءُ عَنْهُ ومعهم بعضُ المُخْلِصِيْنَ وَالأَوْفِيَاءَ.. صَبَروا عَلَى ظُلْمِ سَيِّدِهِم الحادِثِ المُسْتَجِدِّ وَتَحَمَّلُوا اسْتِبْدَادَهُ وحتى جنونه..أَمّا سَائِرُ العُمَّالِ فَرَحَلُوا هَاربين مِنْ "جبروت" سَيِّدِهِمْ الَّذي يُحِبُّونَهُ، وَرَاح معظمهم يَبْحَثُ عَنْ مَصْدَرِ رِزْقٍ جَدِيدٍ لَهُمْ وَلِأَوْلاَدِهِمْ..

صَبَرُوا زَمَناً طويلاً، وتَحَمَّلوا الأذًى وَالسخْط.. وَلمّا يَئِسوا مِنْ صَلاَحِ أَمْرِ سَيِّدِهِمْ حَمَلُوا أَمْتِعَتَهُمْ وَرَحَلُوا مُضْطَرِّينَ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَنْ تَهْدَأَ نَفْسُهُ وَيِطِيْبَ خَاطِرُهُ وَيَعُودَ لِسَابِقِ عَهْدِهِ بَعْدَ زَوَالِ أَحْزَانٍ شَحَنَتْ قَلْبَهُ غَضَباً وَكَمَداً وحُزناً شديداً.

وسارَتْ الأَيَّام سَيْرَ سُلْحُفَاةٍ عَجُوزٍ.. مَضَتْ ثَقِيلةً ثَقِيلةً.. البَسَاتِين الغَنّاء العَامِرَة والمُروج الخَضْرَاءُ تحوَّلَتْ إلى هَشِيمٍ يَابِس النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ. جَفَّتْ الضَرُوعُ، وحَلَّ عُبوسٌ.. وَتَجَهُّمٌ المَكَانَ بعد بَسْطٍ وَانْشِرَاحٍ.. الهَوَاء بات كَئِيباً، والنسيم حزيناً.. وبَدَتْ الربوة أرْضاً مَهْجُورةً مِنْ زَمَنٍ.. وكأن المَاء نضب وانْقَطَعَ، والهَوَاءُ نتن وفَسَدَ، والتُّرَابُ الطَرِيُّ الندي تصحَّر وتلبَّد..

لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ - ممن فضَّل البقاء ورفض الرحيل - على مُخَاطَبَةِ الرجل الطيب، الذي أضحى كجلمود صخر أو أشد قسوة..

حَتَّى أولادُهُ انْقَطَعَ تواصله معهم؛ كانوا عِنْدَمَا يَرَوْنَهُ هادئاً يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ عاد كَمَا عَهِدُوهُ.. لكنه لا يلبث حتى يَنْفَجِرُ بُرْكَاناً غَاضِباً يَشْتَدُّ ضَراوةً ووَحْشِيَّةً وقَسْوَةً وَجَوْراً وظُلْماً..

أصبح القَصْرُ هاجِساً..

لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ مَنْ يَلُوذُ بِهِ ساعَةَ ضِيْقٍ.. وبعد أن كان مصدر الأفراح والمسرات أصبح مقر الأحزان والآلام.. وكَانَتْ صَيْحَاتُ الرَجُل الحزين تَخْرُقُ سَكِيْنَة المكان وهيبته، فيَتَرَدَّدُ صَدَاهَا لِيُجَاوِزَ تِلالاً وَوِدْيَاناً مُجَاورةً.
تَنَاقَلَ نَاسُ الخَبَرَ.. حَتَّى وَصَلَ إِلَى بِلاَدٍ بَعِيدةٍ.. إِلى صديقِ الطُفُولَةٍ والَصِبَا..

صديقُ عَهْدٍ قديمٍ كَانَ يَعِيشُ فِي قصر الرجل الطيب يَوْمَ كَانَ طِفْلاً.. عَاشَ طُفُولَتُهُ مع صَدِيْقِهِ الَّذِي كَانَ خَادِماً وَنَدِيماً أَنِيساً.

عَرَفَ الرَّجُلُ سَبَبَ غَضَبِ صَدِيْقِهِ، كَانَ يكرهُ الموتَ، يَنكر مَوْتَ مَنْ يُحِبّ.. تذكر أنَّه فقد أمه صغيراً كما فقد أباه وهو في سن اليفاعة والشباب.. خافَ على زَوْجِهِ فَي محَبَسِهَا فِي جَنَاحِها من أن تُصابَ بِسُوْءٍ..
لَكِنْ كَيفَ يَفرُّ إِنْسَانٌ مِنْ القَدَر؟ وساعةُ الموتِ لا رادَّ لها.

وهذا الصديقُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ صَدِيقِهِ بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ.. كَانَ ابناً لِمُزَارِعٍ يَعْمَلُ عِنْدَ أَبِيهِ.. كَانَتْ لَهُمَا أَحْلاَمٌ كَبِيرةٌ.. وعندما بَلَغَا سنَّ الفُتُوَّةَ وَالشَّبَابَ غادَرَ الصديقُ الطموحُ قصر صديقه ومُزَارِعه إِلَى بلاد بعِيدَةِ..
عمل نهاراً وليلاً حَتَّى بَلَغَ مَكَانةً عَالِيَةً، وَأَصْبَحَ غَنِيًّاً مِثْلَ صَدِيْقِهِ.. وانقطعت الصِّلَةَ بَيْنَهُمَا لِبُعْدِ المَسَافَة وَمَشَاغِلِ الحَيَاةِ.. لكن عِنْدَمَا وَصَلَتْ الأَخْبَار إِلَيْهِ تَذَكَّرَ أَيَّاماً خَالِيَةً.. أَدْرَكَ سِرَّ مَا أَصَابَ صديقه القديم. فقَرَّرَ الصديقُ السَّفَرَ إلى صَدِيقِهِ..

قَرَّرَ تَرْكَ تِجَارَتِهِ وَزِرَاعَتِهِ وَأَمْوَالِهِ وَالسَّفَرَ بِرِفْقَةِ زَوْجِهِ وَأَوْلاَدِهِ وَعُمَّالٍ لَهُ..

أَحَسَّ بِأَنَّ عَلَيْهِ ديناً يجب تسديده.

كَانَتْ صداقَةُ طُفُولَةٍ بَيْنَهُمَا مِنْ أَرْوَعِ مَا يَحْمِلاَنِهِ مِنْ ذِكْرَى.. بَلْ كَانَتْ أَجْمَلَ أَيَّامِ الحياة.

رَأَى أَنَّ وَاجِبَهُ اليَوْمَ يَفْرِضُ عَلَيْهِ مُحَاوَلَةُ إِنْقَاذِ صَدِيقِهِ مِنْ ظُرُوفه الصَعْبَة.
جَهَّزَ قَافِلَةً كَبِيرةً..

أَحْضَرَ عُمَّالاً وَمُزَارِعِينَ وَخَدَماً وانطلق..

وعِنْدَمَا بَلَغَ أَطْرَافَ القمة الجبلية حَذَّرَهُ النَاس مِنَ الاقْتِرَابِ لأنَّ "صَاحِبُ القَصْرِ غَرِيْبُ الأَطْوَارِ" كَمَا قالوا..
لكن الرَّجُلَ تابع طَرِيْقَهُ بثبات ولَمْ يَنْصُت لأحَدٍ.. حتى وَصَلَتِ القَافِلَةُ قريباً من المكان في ساعة تجاوزت مُنْتَصَفِ اللَيْل بقليل..

أَمَرَ الرَّجُلُ عُمَّالَهُ ألاَّ يَقْتَرِبُوا مِنَ القَصْرِ وَأَنْ يَسْكُنُوا البُيُوت المَهْجُورة البعيدة من القصر..
وبَعْدَ انقضاء الليل..

وبعد أن استراح المسافرون سَاعاتٍ قَلِيلةٍ من عناء الطريق، اسْتَعَادَ الرِّجَالُ نَشَاطَهُمْ، فأمرهم سيدهم بالخَرَوج مَعْ طُلُوعِ الشَّمْسِ..

المشهد العاشر:

تَوَجَّهُوا مباشرة نَحْوَ البَسَاتِين التي أضحت خراباً منذ أن هجرها العمال، فرَاحُوا يَحْفُرونَ وَيُقَلِّبُونَ التُرابَ الجاف المتصلب مثل الحجارة الصماء، ثم استخرجوا الماء من البئر وسقوا الأرض كي تسْتَعِيْدَ بريقها وانتعاشها اسْتِعْدَاداً لِزِرَاعَتِها مِنْ جديد..

شعر أولادُ الرجل وَمَن تبقَّى مِنْ عُمَّالٍ أَوْفِيَاءٍ بحركة مريبة عند أطراف القرية المهجورة.. فَاتَّجَهُوا نَحْوَهُمْ، وفوجئوا بكل هؤلاء الرجال وما معهم من معدات فلاحة وزراعة.. استقبلهم صديق أبيهم بكل الحب.. قص عليهم قصته من أبيهم.. فَرِحوا وفرح معهم العمال وبدأوا يَعملون جميعاً لِتَعُودَ الأَرْضُ كَمَا كَانَتْ..

أمَّا الرجل الطيب الذي لم يَعد يَخْرُجُ مِنْ قَصْرِهِ بعد أن أَنْهَكَهُ الحُزْنُ وَالأَلَمُ وأَصَابَهُ ضَعْفٌ وَهزال شديدين.. فقد كَانَ يَخْتَلِسُ النَّظَرَ مِنْ حِيْنٍ لآخرَ سَعِيداً فِي نَفْسِهِ لِعَوْدَةِ الحَيَاةِ إِلَى بَسَاتِينِهِ.. لكنه لم يعرف لماذا جاء هؤلاء العمال والزراع، ولماذا بذلوا لكي تدب الحياة في أرضه من جديد..

انتعشت نفسه من جديد.. وارتسمت الابتسامة على محياه؟!

كَانَ الصديقُ الآتي من بعيد يَعْرِفُ مَا تَعْنِيه الأَرْضُ لِصَدِيقِهِ.. عاشا معاً سنوات الطفولة والفتوة والشباب بين المزارع والبساتين، يزرعون ويحصدون.. ويغنون أغاني الأرض والحصاد..

مضت أيَّام قليلة وعادت الحياة تنبض بالأرض.. وتحولت من اليباس الرمادي القاتم إلى الأخضر النابت بهدوء.. وتغيَّر الجفاف إلى الانتعاش..

استبشر الناس خيراً عندما شاهدوا نافذة الرجل الطيب تفتح على الهواء لأوَّل مرَّة منذ زمن بعيد.. صفقوا فرحين وأطلقوا الصيحات مهللين مرحبين.. لكنَّ النافذة لم تفتح إلا قليلاً ولم يظهر منها حتى خيال الرجل..
وبعد أن اطمأن الصديق على أرض صديقه وبدأت الروح تدب فيها والاخضرار يزحف إليها من جديد.. ورأى بنفسه كيف أن صديقه الطيب فتح قليلاً من نافذته.. اعتقد أنَّ الفرصة قد حانت، فقرر الاقتراب ولأول مرة مِنْ القصر.. التفت جميع من معه نحوه مترقبين ماذا يريد أن يفعل..

كان أبناء صاحب القصر أشد الناس تلهفاً وترقباً.. هم في شوق لعودة أبيهم إلى عهده القديم..

اقترب الرجل من القصر حتى بلغ الباب الرئيسي.. اتجه مباشرة نحو كرسي خشبي مصنوع من جذع شجرة.. جَلَسَ بهدوء وسكينة على الكرسي في مكانه القريب جداً من نَّافِذَةِ غرفة صديقه..
وبعد بضع دقائق.. راح يَنْشُدُ أُغْنِيَةٌ قَدِيمةٌ..
توقف العمال عن الحركة.. اقتربوا وكأنهم يسيرون على رؤوس أصابعهم.. وراحوا ينصتون إلى إنشاد الرجل بصوته العذب.. كانت أغنية جميلة يغنيها المزارعون في حقولهم، ولطالما أنشدها مَع صديقه في سن الطفولة وفِي رَيْعَانِ الشَّبَابِ.. وراح الجميع يردد خلفه:

الأَرْضُ الَّتِي نُحِبُّهَا.. قِطْعَةٌ منَّا..
بنا تَحْيا.. بها نحيا..
هَيّا بِنَا نَزْرَعُها.. هيا بنا.. هيا..
إن مَضَتْ أَعْمَارُنَا.. وَلَمْ نُعَمِّرْها..
حَيَاتُنَا سُدًى.. حَيَاتُنَا سُدًى..
كُلُّ يَوْمٍ تَحْيا أَرْضُنَا بِنَا..
أَرْضُنَا الَّتِي نَحْيَا بِهَا..
هِيَ مِثْلَنَا.. بها نحيا..
وتَحْيا هي من أَجْلِنَا...
نفديها بالأرواح
هيا بنا.. هيا بنا
نزرع القمح .. نقطف التفاح
ننشر المرح .. نحصد الأفراح
ما أجمل الفلاح .. ما أطيب الفلاح

المشهد الحادي عشر:

تروي القصص المتوارثة أنَّ صَاحِب القَصْرِ ذُهِلَ عندما سَمِعَ ذلك النشيد بصَوْتُ صَاحِبه القَدِيم.. فعادت ذاكرته بسرعة البرق إلى الماضي البعيد، متذكراً رفيق الطفولة واليفاعة..

ومن ينسى أصدقاء الطفولة! تلك الصداقات التي تنشأ دون مصلحة أو منفعة..

صداقات جميلة يحافظ عليها الأوفياء، ويحرص عليها النبلاء، وتكبر مع الإنسان يوماً بعد يوم، لا يقطعها إلا جاحد، ولا ينكرها إلى لئيم..

صداقات الطفولة تبقى أجمل ما تختزنه القلوب في أعماقها، تكون مثل جوهرة متلألئة متغلغلة في حنايا الأنفس، تغفو مع الأيام لكنها تستيقظ كمارد جبار عندما يراجع الإنسان ذاكرته، تتوهج بحرارة عندما تبزغ من جديد مع رائعة النهار بعد سبات طويل..

تذكر ذلك الصديق الذي عَاشَ مَعَهُ سِنِينَ طَوِيلةً، وكان سلوته الوحيدة بَعْدَمَا فَقَدَ أَبَوَيْهِ..

هذا النشيد أعاده أيضاً إلى شعور نزع قلبه من مكانه..
تذكر ذلك الشُعُور الرَهِيب يَوْمَ فَقَدَ وَالِدَته ثم والده.. الشُعُورُ نَفْسِهِ هو الذي استعاده يَوْمَ وَفَاةِ زَوْجِهِ الَّتِي يُحِبُّ.. لكنه وقتها لم يكن عنده صديق مثله ليخفف عنه الألم..

أَعَادَ الصَّوْتُ والنشيد لَهُ ذِكْرَيَاتٍ كَثِيرةً، أَيْقَظَ فِي نَفْسِهِ أَحْلاَمَ مَاضٍ ناءٍ قاصٍ بَعِيْدْ.. ومَا أَصْعَبَ محنة عِنْدَمَا تَتَكَرَّرَ مرتين.. تلك مرارة لا يعرفها إلا من ذاقها.. فكيف بمن ذاقها مرتين، وها هي الآن تدمج من جديد، وتبعث من مرقدها، وتنبت كأسياخ في قلب صاحبها..

وكان التوقع أن يهدأ خاطر الرجل الطيب المكلوم بسماع النشيد بعد أن طابت نفسه برؤية أرضه وقد انتعشت بزرعها.. وأن يطل من نافذته محيياً صديقه القديم.. لكن الرجل لم يفتح نافذته على مصراعيها، ولم يطل برأسه.. وبقي أسير قصره.. فضاعف الصديق الجهد، وأمر رجاله بالعمل ليلاً ونهاراً..

زرع الرجال الأشداء كثيراً من الشجر حتى انتشر الشجر حول القرية المرتفعة.. وازداد الشجر مع الأيام... حتى أصبحت غابات كثيفة متشابكة الأغصان.. وانقطعت عند هذا الحد أخبار الصديق.. وغادر كثير من العمال، أمَّا من بقي من الرجال على الربوة في محيط القصر برفقة أبناء الرجل الطيب فقد قرروا البقاء رغم كل الصعاب.. وانقضت الأيام حتى توارت القرية وراء ستار من الأشجار الملتفة حول بعضها، ولم يعد يعرف بها أحد..

ومع مضي الأيام أصبحت ذاكرة الناس مرتبطة بالقرية التي يعيشون فيها.. إلا أن هذه القصة رسخت في الذاكرة.. وصارت أسطورة القرية.

وكان الفتى مثل كثير من فتيان القرية يحب سماع هذه القصة من حين إلى آخر، وكلما سمعها كان يتأثر بها وكأنه يسمعها لأول مرة..

وهذا الفتى الوسيم الذي كان يعرف بين أهل القرية بـ"اليتيم" فقد والديه وهو صغير وعمره لا يتجاوز الأشهر، وكان تأثره بموت والدي قصة صاحب القصر بسبب شعوره باليتم، وإحساسه بفقدان حنان الأم والأب..
لكن "يتيم" لم يكن مشرداً أو وحيداً..

الناس في قريته يحبون بعضهم بعضاً.. كمَّا أنَّ جدته لأمه كانت على قيد الحياة وربته حتى أصبح عمره عشر سنين، ثم أصابها مرض شديد جعلها طريحة الفراش نحو سنة كاملة.. فخدمها طوال هذه المدة بكل تفان ومحبة، لم يكن يفارقها لحظة واحدة حتى ماتت، ثم قضى أياماً يجلس قرب قبرها..

حبس نفسه في بيت جدته مدة طويلة يبكي عليها.. حتى أقنعه أحد كبار السن بأن جدته ربته ليكون ذا فائدة للناس لا أن يقضي حياته بين القبور، وأنْ لا يضيع شبابه فلا يَسْتفيدَ الناسُ من علمه الذي تعلمه منها، بعد أن أورثته من العلم والتجربة الكثير..

كانت امرأة حكيمة، وأهل القرية يدركون علمها وخبرتها في كثير من الأمور، وكان حفيدها يقضي معها كل الوقت، ولا يذهب حتى إلى مدرسة القرية الوحيدة التي كان يتعلم فيها الصغار بعض العلوم البسيطة، فقد تكفلت هي بتعليمه الكتابة والحساب والزراعة وأعمال المنزل.. وقليلاً من الطب الشعبي الذي تعلمته واكتسبته بالخبرة.

كانت تحكي له قصصاً كثيرة.. أخبرته إنها حدثت في قريتهم على مر الزمان..

وكان يظن أنَّ جدته تروي له قصصاً خيالية، وظلَّ يظن ذلك حتى ماتت جدته، ثم سمع مثل تلك القصص من كِبار القرية خلال تقديمه المساعدته لهم..

قرَّر أنْ يكون "خادماً" لأهل القرية، وخاصة لكبار السن الذين يحتاجون لمساعدة وليس عندهم من يساعدهم، إكراماً لجدته التي ربته وليداً بعد موت والديه وهو في سن صغيرة جداً..

وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ الفتى اليتيم لم يكن في الواقع يتيماً، لأنَّ قريته تعتبر نفسها عائلة واحدة، الصغير يقولون للكبير يا عمي، والكبير يقول للصغير يا بني..

ولم يكن هذا التعبير مجرد مجاملة شفهية، فجميع أهل القرية يعلمون أنَّهم من جد واحد، أو من أجداد تزوج بعضهم من بعض، حتى كبرت هذه القرية واتسعت مساحتها، وشكل جميع سكانها عائلة واحدة، تربط بينهم صلات القربى..

حتى أنَّ أشكالهم تكاد تكون واحدة.. الوجه والأنف والعينان وطول القامة ولون البشرة التي سمَّرتها الشمس، والجبين والمنكبين العريضين، والشعر البني الناعم الجميل..

وهم رغم ما يتميزون به من تشابه كبير؛ فإنهم لا يخطئون في أسمائهم، ويعرفون بعضهم بعضاً.
إن الألفة والمحبة والوئام أشياء لا تشترى بالمال ولا بالذهب، وحين تسود تلك المعاني السامية بين الأقارب والمعارف والأصدقاء في المكان الواحد؛ ينتشر السلام وتعم المشاعر الدافئة الصادقة، ويسود التفاهم، ويزداد التماهي والتفاني وإنكار الذات بينهم..

ومضت الأيام والليالي على هذه الحال، والفتى اليتيم يقضي وقته متنقلاً من شارع إلى شارع، ومن بستان إلى بستان، ومن دار إلى دار، يساعد ذا الحاجة الملهوف، ينظف بيت الأرملة العجوز..

يغسل ثوب العاجز الوحيد..يحضر طعاماً وشراباً لمسكين..يملأ جرار الماء ويكنس باحات المنازل..

المشهد الثاني عشر:

القرية لم تكن تعرف شيئاً اسمه درهم أو دينار، ولم تكن لديها تجارة كما هو مفهوم التجارة، بل كانوا يتهادون المنتجات والمزروعات والصناعات البسيطة فيما بينهم بكل بساطة، ودون تحديد القيمة.. ولربما استبدل رجل يملك دجاجاً سلة بيض بنعجة كبيرة، أو بضع تفاحات بدجاجة..

لم يكن مفهوم التجارة والربح بينهم سائداً لأنَّ الأهم عندهم هو مدى الاستفادة من الشيء، فقد يكون الشيء متوافراً مع شخص ما بكميات كبيرة لكنه لا يحتاج إليها كلها، بينما قدر قليل من شيء ما يملكه أحدهم قد يكون أحد آخر محتاجاً إليه بشدة.. فيهديه إليه.

وكان "يتيم" يذكر أحياناً قصة القصر القديم.. كما يذكر قصة الطائر الخرافي العجيب، وما كانت ترويه له جدته من قصص عجيبة عن ممالك قديمة، مثل قصة الأمير اليافع المتواضع المحب، وقصة ابنة الملك الظالم التي أحبها الشعب..

لم يكن يكتفي بسماع ما يرويه بعض الشيوخ والعجائز، بل كان يطلب منهم بإلحاح ذكر التفاصيل، وتكرار القصص، ويسمعها مكررة من كبار القرية، يريد أن يعرف أكثر مما سمعه مراراً، لكن القصص كانت بمجملها قصيرة جداً..

هي نفسها تتكرر دون إضافات جديدة..

لم ينسج الناس حولها الأساطير ولا بنوا من خيالهم ألواناً من التفاصيل التي يضيفها البعض على قصص التاريخ، حتى تصبح أسطورة من الأساطير.. أو قصة فوق الواقع وأبعد من الخيال..

أمَّا قصَّة الطائر الخرافي العجيب، فيظن الناس أنَّها حكاية أسطورية، وليست سوى خرافة من نسج الخيال، وهم يروونها على سبيل التسلية والترفيه ويتوارثونها جيلاً بعد جيل، ولا يصدقها أحد، سمعها من جدته من قبل، تروي حكاية رجل كان سيداً في قومه، شغله الشاغل تربية الطيور الكبيرة، كان يسافر من بلاد إلى بلاد، بحثاً عن الطيور التي يهواها ويأتي بها إلى بلاده.. متنقلاً على قدمية تارة، وعلى الحمار تارة أخرى، وعلى الجمال تارة ثالثة...

أمَّا المَرَاكب الشراعية الصغيرة منها والكبيرة فكان يركبها إذا صادف بحراً أو نهراً.. أي كان يركب ما توفر له من مركب، غبر عابئ ببر أو بماء.. في الصحراء يمشي.. وفي الغابات والبراري يمشي..

إلى الوديان ينزل وعلى الجبال يتسلق وفي السهول يمضي، لا يعيقه في سيره إنس ولا جان..
قادته الرحلات إلى قمة الجبل، حيث كان القصر شامخاً بكبرياء.. لكنه كان غير مأهول في ذلك الزمان، وكان الناس يعتقدون بأنَّ القصر يسكنه وحش كبير، لذا كانوا يبتعدون عن القصر ولا يقتربون منه، وكانوا في الليل يسمعون أصواتاً غريبة تنبعث من داخل القصر مما كان يزيد خوفهم ورعبهم..
كانوا يشاهدون في الليالي المقمرة شيئاً ضخماً يشبه طائر (العنقاء) الشهير في الأساطير، يخرج من القصر ويحوم فوق الغابة يملأ الوديان والتلال زعيقاً كأنه يبكي ثم يعود بعد أن يفرغ ما قلبه من صراخ ويختفي في ظلام القصر..

وعندما وصل الرجل إلى هذا المكان..

وعندما سمع بقصة هذا الطائر الخرافي الضخم.. لم يقدر على منع نفسه من محاولة الدخول إلى القصر لاكتشاف حقيقة هذا الطائر.. كان يمني النفس بأنَّه يقدر على أسر هذا الطائر الغريب، كما فعل مع كثير من الطيور في رحلاته الكثيرة حول العالم، ليضمه إلى مجموعاته المتعددة من طيور حية أو طيور محنطة..

وبعد أن اقترب صياد الطيور الماهر من سور القصر.. وكان الناس مستغربين من جرأته لأنه هالك بلا شك باعتقادهم.. فتح الرجل باب السور الحديدي بصعوبه.. فانطلق في الأرجاء صوت صرير قوي بعد زمن طويل من ابتعاد الناس عنه.. دخل الرجل حديقة القصر واختفى عن الأنظار، وارتفعت الأصوات التي كانت تتردد من داخل القصر في هذه اللحظة، وبدت كأنها تتعارك مع بعضها..
مرت ثوان معدودات.. ثم سمع الناس من بعيد صيحة هائلة قذفت بالصياد لعشرات الأمتار خارج القصر، وسقط فوق كومة من القش فأصيب برضوض بسيطة، ولولا كومة القش لتكسرت عظامه فيما لو سقط على إحدى الصخور المتناثرة في كل مكان..

لكن ما حدث لم يثن الصياد المغامر عن تكرار المحاولة..

المشهد الثالث عشر:

بعد أيام..

استعاد عافيته فتوجه نحو القصر مرة أخرى دون أن تمنعه تجربه السابقة، حمل معه هذه المرة شبكة كبيرة، وكيساً ضخماً، مصمماً على أن لا يعود إلا وقد انتصر على ذلك الطائر، ومضى في طريقه وكأنه ذاهب إلى حرب ضروس..

عندما اقترب لم يدخل من باب القصر الرئيسي الذي دخل منه المرة السابقة..

توجه إلى الناحية الخلفية من القصر، وألقى بحبل طويل في رأسه حديدة علقت في حافة إحدى الغرف في الدور الأول، تسلق الرجل الحبل بمهارة بالغة ثم دخل الغرفة واختفى. وكان أهل القرية يتابعون ما يحدث بعدما تركوا بيوتهم وحقولهم وأشغالهم ليشاهدوا ما سيحدث.

لم يسمع الناس أصواتاً مرعبة مثل المرة الماضية.. ولم يسمعوا صيحة هائلة.. بل كان القصر هادئاً غير غير عادته..

مضت دقائق طويلة وكأنها ساعات.. دون أن ينطلق صوت واحد.. ولحظات الانتظار تمر بهدوء مثل السلحفاة، وتشتد بطئاً عندما يترقب الإنسان أمراً هاماً ينتظهره بشغف.. وفجأة عادت الأصوات المرعبة تنبعث من داخل القصر مثل سابق عهدها.. ظن الناس أن الطائر قضى على الصياد، فحزنوا عليه كثيراً، وأثنوا على شجاعته، لكنهم في المقابل لم يكونوا موافقين على ما فعله، وذكروا أنهم نصحوه بعد الاقتراب من القصر..

وفي الصباح التالي.. وكان صباح مشمساً جميلاً.. وفيما كان الناس يقصدون حقولهم وأعمالهم وهم يترحمون على الرجل الصياد معتقدين بوفاته.. فوجئوا بظهور الصياد نفسه، وكان يرتدي ثياباً قديمة جداً لكنها أنيقة وثمينة.. أصابتهم الدهشة، لكن الصياد هدأ من روعهم.. أخبرهم أنه لم يمت ولم يصب بأي أذى.. غير أنه اكتشف شيئاً عجيباً، وهو أن ذلك الطائر الذي كانوا يخافون منه طائر رائع، لطيف جداً، لكنه هو أيضاً يخاف من الناس، يعتقد أنهم سوف يؤذونه، لذا فإنه يسكن القصر منذ زمان بعيد ويخشى الاقتراب من الناس خوفاً على نفسه من الهلاك بعد أن رآهم يصطادون الكثير من الطيور ليأكلونها..

وقال الصياد:

"إن الطائر ليس بالحجم الكبير كما تعتقدون، هو طائر عادي، يشبه البطة السمينة، ويصيح باستمرار، لكن صوته ليس مخيفاً، بل المخيف هو الصدى الذي ينبعث من القصر الكبير الذي يجعل الصوت بهذه الضخامة"..

وأضاف:

"ولا يعني ذلك أنَّه ليسَ قوياً بما فيه الكفاية ليقضي على مجموعة أشخاص دفعة واحدة، لكنه مع كل تلك القوة التي يملكها، هو من أجمل الطيور وأكثرهم لطفاً ودلالاً.. والأجمل من كل ذلك أنه يحب قريتكم مثلكم تماماً، وكان عندما يخرج محلقاً يحضر لكم الكثير من البذور لأنواع كثيرة من الأشجار والنباتات والزهور ثم يرميها على التلال والوديان من حولكم، مما وفر لكم الكثير الكثير من الأعناب والثمار المختلفة"..

وقال:

"لقد أخبرني بلغته، وأنا أفهم لغة الطيور؛ أنه يحبكم.. لكنه يخاف أن تقتلوه كما تفعلون عادة بالطيور لتأكلوها.. وهو يريد منكم عهداً أن تحافظوا على الطيور، وسوف يساعدكم بزراعة أرضكم، وينثر لكم البذور الطيبة في دقائق وهي تأخذ منكم ساعات لكل حقل.. كما أن لديه مجموعة من الأصدقاء الطيور تعيش داخل القصر لديها خبرة طويلة بالزراعة، سوف تجعل من بساتينكم عامرة بالخيرات على مدار العالم، لا في المواسم فقط"..
فرح الناس فرحا عظيماً بما قاله الصياد، وتعاهدوا منذ ذلك الحين مع الطائر الخرافي العجيب على احترام عالم الطيور، وعدم اصطيادها.. فهي الطبيعة الجميلة التي تتعاون مع بعضها، من مخلوقات خلقها الله تعالى لتستفيد من بعضها بعضاً، فلا يسيء الواحد منها للآخر، ولا يعتدي لأن الله لا يحب المعتدين، فيتعامل مع كل شيء من حوله بقدر وبحساب وبوعي وإيمان..

ومنذ ذلك الوقت أصبح الناس أصدقاء مع الطائر العجيب، كما أن الصياد لم يأسر الطير الجميل رغم حرصه على ذلك، بل تركه لأهميته بالنسبة لسكان القرية، وكان يعينهم على زراعة الأرض ورعايتها.. كما كان يحذرهم من العواصف قبل وصولها بعد أن يشاهدها من بعيد وهو يحلق في الفضاء..

وظل هذا الطائر ينعم بالحياة بين أناس يحبهم ويحبونه زمنا طويلاً.. حتى حان أجله.. ودفن في ناحية من نواحي القصر ضاعت معالمها مع مضي العقود والقرون.. ولم يبق من أثر له سوى هذه القصة الغريبة..
وكان الناس يرددون:

"ومن يدري.. ربما هذه الأشجار التي نأكل ثمارها اليوم هي شجرة زرعها الطائر العجيب"..
لكن الشاب "يتيم" لم يكن يصدق تفاصيل حكاية الطائر الخرافي العجيب.. يعتقد أنها أسطورة مثل كل الأساطير التي يتوهم البعض حقيقتها، مع أنهم ربما لا يؤمنون بتفاصيلها لأنها فوق الخيال.. بينما يعتقد البعض الآخر أن الخيال هو الأبقى والأجْمل من الواقع، بل إنَّه هو الذي يسبق الواقع، ثم يجعله حقيقة في المستقبل، فيما يفضل البعض العيش في الخيال على العيش في الواقع..

كم جميل هو الخيال عندما نحياه في الواقع.. وكم من أشياء جميلة كانت في البداية خيالاً..
إن الارتباط بين الواقع والخيال مثل اللَّحْمَة في خيوطُ النسج العَرْضِيّة التي يُلحَمُ بها السَّدَى في الثوب الجميل.. وفي اجتماعهما يحدث ما يتمناه الإنسان من إبداع وانطلاق نحو الجمال.. فتتحقق النجاحات التي لم تكن لتتأتى يوماً لولا الخيال.. والأحلام.

المشهد الرابع عشر:

من القصص الغريبة التي روتها الجدة لحفيدها "يتيم" أيضاً أنه عاش في زمان بعيد، وفي القصر نفسه، أمير يافع مع جده الملك..

كان الملك يحجب حفيده الوحيد عن عامة الناس، يخاف عليه من كل شيء..

توفي والداه وهو طفل صغير، ونشأ يتيماً وحيداً مثله، ولم يكن لجده الملك ابن أو حفيد غيره، فقد كان له ولد واحد وهو والد حفيده الوحيد، وقد توفي ابنه مع زوجه وهما يقومان برحلة جبلية، حين وقعت مركبتهما التي كانت تجرها خيول من فوق أعالي الجبال وتوفيا على الفور..

اهتم به جدَّه ورعاه منذ الصَّغر، وعامله بما يليق بوريث عرش، وراح يعده ويؤهله لاستلام المُلك من بعده، ويحضِّر له مدرسين كباراً يعلمونه كلَّ ما يجب أن يتعلمه الملك من علوم ولغات، وأحضر له فرساناً أشداءً يدربونه على الحرب والنزال..

وكانت جدة "يتيم" تحكي له هذه القصة حتى تخفف عنه ما كان يشعر به من يتم..

وكان "يتيم" يحب هذه القصة لم فيها من جرأة وبطولة وإقدام..

وكانت الجدة تتابع قصتها بالقول:

" إنَّ الملك كان يخاف على حفيده الصغير من أن يتعرض لسوء، فأمره بألا يخرج من القصر دون إذنه وإلا يتحرك دون حراسة مشددة".

لم يكن للأمير الشاب أصدقاء، فكان يقضي يومه في القصر، والحرس لا يتركونه لحظة واحدة، وحتى مدرسيه ومدربيه لا يتحدثون معه كلمة واحدة خارج حدود ما هم مكلفون به.. لكن الأمير الصغير سئم من هذه الحياة.. فقد أصبح شاباً يافعاً، يحب الحرية ويريد الخروج إلى الناس والتعرف إلى كثير من الأصدقاء..

طلب من جده الملك ومراراً السماح له بالخروج والتنزه في أمكنة قريبة من القصر يرتادها الرعية، فلم يوافق الملك، ولم يقبل بالأمر.. لكن حفيده كان مصرّاً، وصار يرجوه، فرق قلب جده ونهاه عن ذلك لأن أبناء الملوك يجب أن تكون نفوسهم مليئة بالعزة والكبرياء.. ووافق على خروجه بصحبة الحرس شرط العودة مسرعاً.. وطلب من كبير الحرس أن يعتني بحفيده ويحرسه كملك..

وهكذا خرج الأمير الصغير لأول مرة بعيداً عن القصر، وكان برفقته من الحرس الأشداء، يحيطون به بهيبة وإجلال..

سار الأمير الشاب على قدميه حتى وصل إلى ساحة قريبة من القصر مليئة بالباعة والمحال والتجار والزبائن..

عندما رأى الناس الأمير وحرسه ابتعدوا عن طريقهم وفضل كثير منهم ترك المكان.. فوجد الأمير نفسه وحيداً مع الحرس وبعض الباعة والتجار الذي كانوا يجلسون داخل محلاتهم..
حزن الأمير الشاب، فهو لا يستطيع التكلم حتى مع الناس الذين ظلوا في المكان مضطرين حرصاً على بضائعهم وأموالهم..

شعر أنَّهم يخشون التحدُّث إليه، كما أنَّ الحرس يبعدون الناس عن طريقه، وحتى الحرس أنفسهم ممنوعون من الكلام معه لغير سبب ضروري.. فقرر العودة إلى القصر فوراً..

روى الأمير لجده الملك ما حدث، وسأله عن سبب ابتعاد الناس عنه..

فقال له الملك بهدوء وثقه:

"لا سبيل لغير ذلك يابني، فأنت من سيرثني ويقود البلاد من بعدي، هم يهابونك لأنَّك السيد المطاع، وأنا أخشى عليك أن يصيبك سوء".

لكن الأمير الصغير لم يسره هذا الجواب.. فهو يريد الاقتراب من الناس أكثر...
بعد أيام، طلب الأمير من جده من جديد السماح له بالخروج للتنزه مرة أخرى.. بعد أن قرر القيام بخدعة تقربه من الناس..

قرر أن يلبس ثياباً بسيطة لا توحي أبداً بأنه أمير من أمراء ذلك الزمان، بل هي ثياب تجعله يبدو وكأنه من فقراء الرعية..
لكن من أين يحصل على مثل هذه الثياب؟

المشهد الخامس عشر:

فكر بالأمر ولمعت في رأسه فكرة..

الأمر بسيط..

يمكن الحصول على هذه الثياب من داخل القصر نفسه، وهي لصبي يافع في مثل سنه، يعمل مزارعاً في الحديقة..

عندما حضر الصبي في موعده الثابت كل يوم؛ تحدث إليه الأمير خلسة دون أن يراه أحد، وأغراه ببعض النقود ليشتري مقابل أن يعيره ثيابه الرثة..
أعطاه الصبي ثيابه هذه التي يأتي بها يومياً، وارتدى ثياب العمل التي توجد في حديقة القصر على أن يعيد إليه ثيابه قبل انتهاء عمله ليعود إلى بيته..

أخذ الأمير ثياب الصبي إلى غرفته، وبدأ يعد للمرحلة الثانية من الخطة.

ارتدى الأمير الصغير ثياب المزارع البسيطة ووضع فوقها عباءته الملكية الفاخرة، وغطى رأسه بعمامته المزركشة المرصعة بالأحجار الكريمة، ثم خرج بصحبة الحرس مثل المرة الماضية..
سار الأمير بهدوء يتأمل واجهات المحال..

تصرّف الناس مثل المرة الماضية دون أن يبدي الأمير أي استغراب..

وقف أمام واجهة محل للملابس وأمر الحرس بانتظاره لأنه يريد أن يشتري من هذا المحل بعض الأشياء.. فأسرع الحرس وسبقوه إلى داخل المحل للتأكد من عدم وجود أي خطر..

وعندما دخل كان صاحب المحل مرتبكاً وخائفاً..

طلب الأمير من الحرس الخروج حتى ينتهي من الشراء، لكنهم لم يوافقوا على الأمر إلا بعد إصرار منه..
راح يدور في المحل متفحصاً البضائع المعروضة، وانتهز فرصة وقوفه في زاوية لا يراه منها صاحب المحل وأسرع بخلع العباءة والعمامة، فظهر بشكل مختلف تماماً، وعندما رآه صاحب المحل فوجئ به وطلب منه بصوت هامس الخروج فوراً.

سأله عن السبب فقال بصوت يرتجف:

"إن الأمير الصغير حفيد الملك موجود في المحل"..

فقال له:

"وماذا في ذلك؟".

قال:

"سيقتلونني أنا وأنت، ألا تفهم؟ ألستَ من هذه البلاد.. هيا اخرج من هنا فوراً"..

كان الأمير يفكر بأن يخرج من المحل بثياب العامل ليتخلص من الحرس ويحتك بالناس مباشرة..

لكنه بعد أن سمع هذا الكلام عدل عن خطته وأسرع بلبس العباءة ووضع العمامة، فأصيب الرجل بدهشة وانعقد لسانه وأصابه رعب شديد، لكن الأمير هدأ من روعه وطلب منه عدم الخوف، لأنَّ الأمر لا يستدعي ذلك..

طلب الأمير من الرجل أن يشرح له سبب هروب الناس وخوفهم منه.. لكن الرجل رفض أن يتكلم، فقد كان خائفاً.

الأمير الشاب حدثه بتواضع واحترام حتى اطمأن إليه الرجل، وأدرك بفطنته وخبرته ويحكم تقدمه بالسن أن الأمير شاب طيب لطيف وليس مثل جده قاسي القلب.. كما يظن سائر الناس..
لكنه لم يحدثه عن قسوة جده، وقال له:

"الناس يخشون الحاكم لشدته وحزمه، لكنه لم يكن كذلك قبل أن يموت ابنه، فمنذ ذلك الحين أصبح لا يسمح للرعية بالاقتراب منه، وصار منعزلاً عن الناس وحرسه يعاملون الناس بقسوة شديدة"..
لكن الأمير الشاب لم يقتنع بهذا الكلام، ولم يرد إطالة الحديث كيلا يثير ريبة الحرس، فاشترى بعض الثياب وأعطى للرجل صرة مليئة بالنقود، وقال له قبل أن يغادر:
"سأعود إليك مرة ثانية.. وأرجو عندها أن تحدثني دون خوف"..

المشهد السادس عشر:

بعد أيام... قرر الأمير الخروج وحده..

لكن كيف السبيل إلى ذلك والحرس يحيطون به طوال الوقت؟؟

فاهتدى الأمير الصغير إلى خدعة جديدة..

انتظر حتى أنهى عامل الحديقة الصبي اليافع عمله، وناداه باشارة من يده، فاقترب الصبي وهو يرتجف من الخوف... قال له الأمير إنه يريد منه أمراً لو فعله سيكافئه عليه مكافأة كبيرة..

كانت خطة الأمير أن يرتدي الصبي العامل ثياب الأمير وأن يرتدي الأمير ثياب العامل، ويدخل العامل غرفة الأمير بينما يخرج الأمير لابساً ثياب الصبي، فلا يشك فيه أحد..

خاف الصبي.. ماذا لو اكتشف أحدهم ذلك؟

فطمأنه بأنه لا أحد يدخل غرفته..

وطلب منه أن يبقى فيها حتى يعود في الصباح موعد دخوله القصر.. فيستعيد كلا منهما شخصيته..
ونجحت الخطة ببساطة.. دون أن يلحظ الحرس، فقد كان الصبيان يافعين في سن واحدة وبنية واحدة.. ومن يعتقد أن الأمير سيتنكر في زي صبي فلاح؟

توجه الأمير فور خروجه إلى ذلك المحل الذي التقى فيه الرجل من قبل.. وما أن رآه حتى كاد يغمى عليه من الخوف..

وبعد أن هدأ الرجل قليلاً، شعر بمدى اهتمام الصبي به وحرصه على سلامته وصحته، ولم يكن في محله وقته أحد من الزبائن..

طلب الأمير من الرجل بعد أن استعاد عافيته أن يخبره عن سر خوف الناس منه.. لكن الرجل رفض باصرار..
أدرك الشاب أن هناك حاجزاً كبيراً يفصل بين الشعب والملك.. وأن عليه أن يكتشف السبب...
قال للرجل:

"ستخبرني حقيقة الأمر، وإلا سوف أخبر جدي الملك أنك أسأت معاملتي"..

فصار الرجل يرجوه ألا يفعل ذلك..

فقال:

"لن أخبره إذا أخبرتني ما هو سبب خوف الناس من مولاي الملك؟".

عندها قال الرجل:

"بشرط ألا تغضب مهما قلت وسوف تصدقني ولو كان كلامي غريباً بالنسبة لك؟"..
قال الأمير الصغير:

"أعدك بذلك"..

فقال الرجل غاضباً يريد أن يخرج من داخله ألماً سكن قلبه فترة طويلة من الزمن:
"إنَّ الملك رجل ظالم.. يأخذ أموال الناس بالباطل دون حق، ومن يمتنع عن دفع نصف أرباحه من التجارة لحرس الملك يضرب ويسجن.. والحرس يقومون بإهانتنا وضربنا، ولذلك فنحن ندفع على الفور"..
ذهل الأمير الشاب من ذلك..
فجده طيب القلب ولا يمكن أن يفعل ذلك أبداً، وطلب من الرجل دليلاً على كلامه وإلا سوف يعاقبه بنفسه..
فقال له:

"ألم تقل لي منذ قليل إنك لن تغضب مهما قلت، وإنك ستصدقني، وقد عاهدتني على ذلك؟".

اعتذر الأمير الصغير من الرجل، وقال له:

"ومع ذلك أريد دليلاً على ما تقول".

فقال الرجل:

"انتظر قليلاً يا سيدي.. اليوم موعد دفع النقود.. وفي هذا الوقت عادة يأتي جنود الملك، وهم الآن يتنقلون بين التجار".

انتظر الأمير بعض الوقت.. ثم سمع حركة وجلبة على مدخل المحل، فاسرع للاختباء خلف بعض البضائع، عندها دخلت مجموعة من جنود الملك وطلبوا المال المعتاد، فاسرع الرجل بدفعه فوراً دون أن يتكلم..
استشاط الأمير غضباً ولم يستطع تمالك نفسه، فخرج من مخبئه زاجراً الجنود الذين فوجئوا بالشاب دون أن يعلموا من هو.

صار الأمير يصيح بهم:

"ارجعوا النقود لصاحبها وإلا عاقبتكم.. فأنا الأمير إيها اللصوص".

وكان يظن أنهم سيهابونه لأنهم يفعلون ذلك بغير علم جده الملك.. لكن الجنود انقضوا على الأمير بعد أن نظروا إلى هيئته وثيابه الرثة، وقبضوا عليه ظناً منهم أنه مجرد شاب متهور.. وعندما شاهد صاحب المحل ما حدث.. وقع على الأرض من شدة الرعب فاقداً وعيه... وأخذ الحرس الأمير معهم وألقوه في السجن..

المشهد السابع عشر:

وفي هذه الأثناء.. أراد الملك التحدث إلى حفيده لأمر طارئ.. ونادراً ما يحدث ذلك..
فذهب إليه في غرفته ولم يكن يذهب إلى غرفته كثيراً، فعثر على المزارع الصغير في الغرفة مكانه، ودون تحقيق طويل أقر المزارع بفعلته واعترف للملك بكل ما حدث.. فأمر الملك حراسه بسجن الفتى وبالبحث عن الأمير.. فأخبروه بأن هناك شاباً يدَّعي أنه الأمير، قبض عليه بعض الجنود في السوق وهو الآن في السجن.. وقد ظنوا أنَّه مجنون أو مدع مخادع ينتحل صفة الأمير، وجدوه في السوق يرتدي ثياباً رثة بالية.. ولا يوحي منظره أبداً بأنه أمير ولا حتى خادم أمير..

فأمر الملك باحضاره إليه فوراً.

وعندما مَثُل الأمير بين يدي جده الملك استغرب الملك أشد الاستغراب من منظر الأمير عندما رآه أمامه على هيئته الرثة.. فطلب منه أن يذهب إلى غرفته، وأن ينظف نفسه ويرتدي ثياب الأمراء ثم يعود ليشرح له ما حدث.. لكن الأمير أصرَّ على أن يخبر الملك عن الأمر قبل أي شيء آخر، ويشرح له سبب هذه الحال.. وقال الأمير للملك إنه صدم مما رآه بنفسه، وأخبره أنه لا يقبل بأن يكون ولياً لعهده ومَلِكاً من بعده، وأنه سيترك القصر ليعيش كعامة الناس..

الملك أصيب بحيرة بالغة، وأدرك أنَّ الأمر خطير جداً.. فأمره بأن يخبره بما رآه فوراً..

وبعد أن أخبره بما رآه وسمعه بنفسه؛ أقسم الملك أنَّه لا يعلم عن هذا الأمر شيئاً، وأنَّه سيعاقب الفاعلين..

فاستدعى الملك بعض حرسه المقربين وسألهم عن الأمر، وعلم أنَّ الأمر صحيح، فسألهم لماذا لم يخبروه بذلك، فقالوا له إنهم في العادة من غير المسموح لهم الحديث مع الملك، كما أنهم كانوا يخشون الكلام ظناً منهم أنه هو الذي يأمر الجنود بذلك، لأن وزيره الأول كان يعرف الأمر ويحجبهم عن الملك..
غضب الملك غضباً شديداً بسبب ما يقع في مملكته من ظلم باسمه، فاستدعى وزيره وقائد الجنود فوراً، كما دعا كبير القضاة، وأمر بإجراء تحقيق ومحاكمة علنية عادلة لمعاقبة المذنبين.. بدءاً بوزيره الأول وقائد الجنود..
ومنذ ذلك اليوم قرر الملك عزل الوزير ومعاقبته، وأمر بأن تزال كل الحواجز بينه وبين الشعب، وأمر بفتح أبواب القصر أمام الرعية، يدخلون إليه ويتحدثون معه كلما أرادوا، كما سمح للأمير الشاب بأن يخرج ويلتقي بالناس في أي وقت وأي مكان..

ثم أعاد الملك المال إلى أصحابها بعد أن عاقب الوزير وقائد الجنود الذين كانوا يأخذون مال التجار عنوة بغير حق، وأمر بحبسهما والحجز على كل أموالهما..
ومنذ ذلك الوقت أصبح الأمير صديقاً لصاحب محل الثياب.. كما أصبح محبوباً لدى الناس جميعاً.
وفي يوم، وفيما كان الأمير يجول في السوق، شاهد فتاة مؤدبة جداً، ما أن رآها حتى أعجب بأخلاقها وأدبها فسأل عن والدها، فعرف أنه صاحب المحل نفسه..

ذهب الأمير إليه في محله وطلب منه أن يزوجه ابنته، فوافق الرجل بشرط أن يوافق الملك على هذا الزواج لأنَّه من عامة الناس.

وبعد أن عرض الأمير على الملك الأمر وافق على الفور، رغم أنه من عادة الملوك ألا يزوجوا أولادهم إلا ببنات ملوك وأمراء أو من بنات أسرة مالكة.. فنقض الملك هذه القاعدة القديمة وأعلن موافقته على زواج حفيده بابنة صاحب المحل..

وكان الملك يريد أن يقيم عرساً ملكياً عظيماً، غير أن الأمير الصغير طلب على أن يكون عرساً شعبياً يجري في إحدى الساحات الكبيرة، وأن يحضره الملك بنفسه لتلقي التهاني من الشعب مباشرة، فوافق الملك على ذلك بكل سعادته ورضى.. وكان يوماً بديعاً لم تشهد الممالك القديمة عرساً مثله.

وكانت هذه القصة من أكثر القصص التي تسر الفتى اليتيم عندما يسمعها.. أو عندما يتذكرها عن يكون جالساً بمفرده يتأمل الطبيعة ويفكر في الحياة..

المشهد الثامن عشر:

اعتاد الفتى "يتيم" في الليالي المقمرة الجلوس في قلب شجرة باسقة قرب السور العالي.. يقضي وقته في التفكير..

الشجرة ترتفع فوق جدار السور، وعندما يرتقي الفتى أغصانها العالية يظهر له المنحدر، فينصت مترصداً صوتاً غريباً يسمعه من فضاء الحرية المترامي أمامه مثل بحر أخضر ممتد، وعندما كان يشاهد طيراً يحلق من بعيد أو أرنباً برياً يعدو بحثاً عن شيء يأكله، يتحسر على سجنه متمنياً الحرية التي ينعم بها ذلك الطير أو ذلك الأرنب..
ولم يكن "يتيم" يكشف أفكاره لأحد من الناس، يعتبرها أموراً لا يمكن البوح بها، كما أنه لم يكن عنده صديق مميز مقرب منه، فهو لم يذهب للمدرسة، وتعلم القراءة والكتابة في بيت جدته، ولم يكن يلهو مع الفتيان أمثاله، بل كان وقته موزعاً بين مساعدة المحتاجين والجلوس متأملاً فوق الشجرة..

ومضت الأيام والليالي على هذه الحال سنين عديدة.. حتى أصبح الفتى اليتيم شاباً يافعاً.. وكان كبار السن عندما يقوم بمساعدتهم بأمر ما يسألونه عن موعد زواجه، لكنه كان دائماً يتهرب من هذا السؤال بحجة أنه ما زال صغيراً، وأنه لم يجد العروس المناسبة له بعد..

هل العروس هي الحكاية التي تنسج المستقبل..

كل الناس في القرية يبحثون عن المستقبل في أبنائهم..

الشيوخ يزرعون الورد على صفحات الماضي..

الفتيان يملأون الشعاب ضجيجأً وحياة..

اليفاعة ليست هوية.. بل حياة للأمام.. لا يسكن عندهم الماضي بيتاً غير بيت خرب..
عيونهم ترنو برفق لكل حياة جديدة..
ورغم متانة الأسوار التي كانت تحيط بقريتهم.. فإن قريتهم تتسع مع كل مولود جديد..
ومع تقدم "يتيم" في عمره واشتداد قوته، لم يعد الجلوس فترة طويلة فوق الشجرة وحدها يرضيه ويكفي نزوعه نحو الحرية والانطلاق..

كان يدون مشاهداته الجديدة كل يوم، وصار وقت جلوسه فوق الشجرة يزداد، ولم يعد يكتفي بالليالي المقمرة، وصار يجلس فترة طويلة من النهار، دون أن يتوقف عن مساعدة الآخرين، وإذا وجد هناك من يساعدهم غيره انصرف إلى شجرته المعتادة..

ومع مضي الأيام أصبحت لديه معلومات غزيرة لم يقرأها في كتاب ولم يعلمه إياها أحد، بل عرفها بالمشاهدة والمراقبة والتفكر..

باتت معرفته واسعة بأنواع الطيور وأشكالها، يعرف مواعيد وصول كل طير منها، في الصيف وفي الشتاء، في الربيع وفي الخريف، كما تعرف إلى أنواع الأشجار، وعددها في المنطقة التي تشرف عليها الشجرة، ورسم خريطة للأشجار، وقدَّر أعمالها، ومنح بعض الأشجار التي لا يوجد منها في قريته ولا يعرف اسمها، اسماً جميلاً يتوافق مع شكلها..

فهذه شجرة الغصون الملتفة..

وتلك الشجرة عروس بتاجها الأخضر..

والشجرة الرشيقة بقامتها الفارعة..

هناك الشجرة السمينة الممتلئة الساق..

كما اطلق اسم الشجرة المجنونة على شجرة عالية رفيعة الأغضان لا تتوقف عن الحركة سواء مع وجود الريح أو من دونها.. وهذا ما كان يثير استغرابه فسماها بالمجنونة.. لكنه اكتشف لاحقاً أنها تأوي مجموعة من الطيور الصغيرة الحجم بحجم حبة الجوز، تظل على الدوام تحرك أجنحتها وتتنقل من غصن إلى آخر دون توقف.. وقليلاً ما تهدأ أو تنام.

وكان "يتيم" يكتب كلَّ هذا في أوراق كثيرة متفرقة، وعندما يشعر بالتعب يعود إلى بيته في وقت متأخر من ليل أو من نهار، ثم ينقل تفاصيل ملاحظاته المهمة إلى سِفْرٍ كبير، يخط الحرف بشكل جميل، يرسم ما يحتاج إلى رسم، ويضع مخططاً لشكل من الأشكال..

وبعد أن ينتهي من ذلك يغلق الكتاب ثم يحمله ويخفيه في صندوق خشبي قديم، كانت جدته تخبىء فيه حاجاتها المهمة..

تلك هي خطوات الباحث عن أمر لا يدري كنهه..

يسعى إلى ضوء في ظلمة تشتد إبهاماً يوماً بعد يوم..

يغرق في بحر من الأفكار الملساء.. منها ما هو مقعر ومنها ما هو محدب..

يغرف من بحر مجهول، بحر هذا المدى الساحر.. بحر من جمال أخضر تارة.. ومن جمال أبيض تارة أخرى..
في كل فصول العام تزهر في قلبه الحكايا..

عيناه لا تملان الانتظار.. ولا يعرف كيف يغض الطرف عن حقيقة لا ترى بالعين.. ولا تسمع بالأذن.. ولا تدرك بغير القلب..

المشهد التاسع عشر:
ظل الفتى "يتيم" على هذه الحال زمناً طويلاً.. عيناه تجولان بلا انقطاع في الأفق البعيد.. لكن العبور مستحيل، فما وراء هذا المد الأخضر من أمل.. كيف يجتاز غابات مسكونة بالوحوش.. فليستقر البال ويهدأ الخاطر ويهنأ الفكر بصرف الجري وراء كل هذه الأحلام.. أو ربما "الأوهام".

ترك الفتى ظله على الشجرة.. وعاد يجوب القرية بحثاً عمن يحتاج إليه..

ومضت أيام وأيام والفتى منصرف عن نفسه.. لا يشغلها بغير الأرواح الطيبة التي تعيش في هذا المكان، بأنفاسها العطرة.. وبفضائها المليء بالأمل، وشمسها التي تشعل قلوب الحالمين أكثر من القمر، فالقمر عندهم دليل سبات.. والشمس دليل حياة.. وبقاء.

من كثرة ما كان الفتى يحمل متاع الآخرين لمسافات طويلة.. اشتد عوده، وبرزت عضلاته في كل زاوية من زوايا جسمه الرشيق.. فأرخت هذه التضاريس المستجدة على طوله الفارع واتساع صدره المنتفخ وشموخ رأسه المتكىء على منكبين عريضين بهامة يكللها كبرياء الشباب وعنفوان النبلاء.. غلالة من هيبة بات يعرفها الجميع..

لكنه لم يكن يعبأ بنفسه، ولا يطمح لكي يتسيد مكانة ما، أو يتبوأ مقاماً يحلم به من في مثل سنه..
ليس المنصب هو الذي يصنع صاحبه، بل ربما العكس هو الصحيح.

وما الظن بغير ذلك سوى جهل بالحق، وعجز عن اكتناه المعرفة التي يغرف من نبعها الباحثون عن الحق في دلجة الليل الحالك، أما أولئك المغامرون الضائعون في غابات التيه فلا يدركون بسهولة ما الذي يلفح وجوههم.. أهي نار الموقد؟ أم لهب الصيف؟.. أم صفعات الحياة.. أم فحيح جهنم؟!

ولعل الخطأ في الحكم على الأمور لا يتأتى إلا من خطأ التصور القائم نفسه، فالوهم لا يرقى بصاحبه، بل يقوده إلى احتقار الناس له، أو على الأقل السخرية منه ومن أحلامه المسكونة بالخبال.. والنفس التي ترقى بمعاليها لا تسكن قصور الوهم ولا ترتقي منابر الجهل.

ومضت الأيام وبقيت الأحلام العاجزة تقيم في نفس الفتى المشغول عن نفسه، لكنه في نهايات الليالي، عندما يحل السكون وينفرد بنفسه، تقفز الأحلام أمامه من جديد، ويعود رغبة الانطلاق شديدة في أعماق نفسه، تريد الانقضاض على الأسوار تقضمها، لتتحرر من هذا السجن الكبير.

حتى جاء ذلك اليوم..

حينما اقترب منه جار الطفولة وهو يجلس في مكانه المفضل.. وتحدثا طويلاً عن الأحلام والمستقبل..
وكشف يتيم لجار الطفولة ما في قلبه من أحلام.. وكان هذا الشاب اليافع يشاركه في كثير من الأحيان مساعدة الآخرين.. فوافقه الصديق وأسر له بأحلام تشبه ما يحلم به..

لكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، والتمني يعتريه فشل لا يصيبه تمن.. فالتماس ضوء في عتمة ليل لا يقدّر صعوبته غير مكابد ليل طويل في صحراء مقفرة، ولولا بضع نجيمات حيرى، في غيبة قمر، لاستحال الفضاء قبراً، رغم مداه.. فالأحلام تأتي وتذهب.. وغالباً ما يضمحل أكثرها ويزول مع مرور الأيام، لأنّ الأحلام عادة ما تولد من وهم، وتنهار على أعتاب واقع..

قال "يتيم" لجاره الشاب:

"أحلامي أمامي واسعة وسع السماء.. كبيرة مثل البحر.. شاسعة مثل فضاء.. فكيف لواقع مهما كان أن يحدّ من أحلامي؟! أن تمنع طائراً من التحليق في سماء لا حدود لها.. الحياة كلها مجموعة أحلام، وهي عندما تتحقق في بعض جوانبها، نصرّ على أنّها حلم، ونظل نحلم ونحلم ونحلم، حتى نظن الواقع جزئاً من الأحلام"..
وتأمل قليلاً ثم تابع كلامه قائلاً:

"عشتُ دهراً أرسمُ صوراً من خيالات ملوَّنة لا تنقطع.. تفاصيل صنعتها بيديّ هاتين وأصبحت خليلة ذاتي.. أجسّد ما ليس من واقع واقعاً.. أعيشه وهماً.. عادة يومية.. عشتها وحدي.. لم أخبر بها أحداً، لا لأنانية أو استئثار، بل لأنّها سرّي.. ولهي.. بل بالأصح حلمي الذي لا أودّ أن يشاركني فيه أحد.. مهما كان قريباً مني.. ولا أنكر أنّي حاولت أن أعيش مثل غيري.. لكن".

وسادت فترة صمت مضت كدهر..

ثم تنهد من أعماق نفسه وانزلقت الكلمات من فمه كحبات عنب باردة:
"ما أجمل الأحلام عندما تبقى في مخيلاتنا وتعود إليها.. مع أنّنا نتوهم أنّ الأحلام لو تحققت أو تحقق بعض منها فإنّ حياتنا سوف تتغير وتتبدل وتتحسن..".

المشهد العشرون

استعاد جار "يتيم" قصة سمعها قديماً وهو صغير، لكنه لم يكن يتذكر تفاصيلها إلا هذه اللحظة، في لحظة قوة ورغبة بالانعتاق والحرية وعدم الاستسلام للواقع مهما كان الواقع صعباً وأليماً.. لم يكن "يتيم" قد سمع هذه القصة من قبل..

تذكر جار "يتيم" قصة أميرة صغيرة مرت كما يقولون في هذا القصر القديم، وكانت سعيدة في قصرها الذي تزينه الأشجار والأزهار، وتملأه الأطيار بأعذب الألحان..

الأميرة كانت مثل كل أميرات الزمان ثرية جداً، وسريرها مصنوع من مرمر وياقوت..
كل ما لديها ثمين.. وكل ما تملكه من أجود ما يمكن أن يكون..

كانت تعيش في هذا القصر برفقة مربيتها.. ويحرسها حراس أشداء أقوياء.. لكنها لم تكن راضية عن حياتها رغم كل هذا الرخاء والنعيم والثراء.. تشعر أن القصر سجن.. قيود.. حواجز.. أشياء تحجبها عن الناس.. عن أقرانها البنات.. والقصر بعيد.. فوق ربوة عالية نائية.. لا يمكن الوصول إليه إلا بإذن شخصي من أبيها الحاكم.
قضت الأميرة في هذا القصر معظم حياتها.. بعيدة عن الجميع، وحتى عن أمها التي لا تراهما إلا في مناسبات متباعدة.. أبوها الحاكم كان يخاف على ابنته من الشعب.. بسبب ظلمه وبطشه.

هو يعلم أنهم يكرهونه، لذلك فهو يخشى أن ينتقموا منه بقتل ابنته، كما يخشى أن تنكشف صورته الحقيقية أمامها، فهي تظنه حاكماً عادلاً نزيهاً.. يحب شعبه، وشعبه يحبه.. وهي تظن أنه طيب القلب، لم تظن يوماً أن وجه أبيها الهادئ الوقور ليس سوى قناع رقيق لوجه آخر يعرفه الناس كلهم.. ويخفى عليها لوحدها.

وكان أبوها لا يريد أن تعرف ابنته أسراره، أن ترى ما يفعله بالشعب من ظلم وجور.. أبعدها عن مقر حكمه وأسكنها في جناح معزول من أجنحة القصر، ووفر لها كل ما تحتاجه، من تسال وألعاب.. وطعام وشراب، معتقداً أنه لا ينقصها شيء ولا تحتاج إلى أحد..

وكان الحاكم الظالم مرهوباً عند عامة الشعب، لا يجرؤ شخص على مخالفة أوامره الظالمة وأحكامه الجائرة.. يأمر فيطاع.. يظلم فيهاب.. ومن يعصيه يكوى بالحديد والنار.. وكان الشعب يخاف منه ويخشى ظلمه..
قسم من الشعب:

ينتفعون منه.. يعيشون على فُتاته وظلمه للناس، لا يفكرون إلا بما يجنون من مكاسب، يمدحونه ويعظمونه.. هم أكثر الشعب بغضاً له وكراهية، خزائنهم ملأى بعطاياه.. وأيديهم ملطخة بالدم..

وقسم ثانٍ:

يأتمرون بأمره.. يعملون في الجيش والسلطة والإدارة.. ينفذ جرائمه بواسطتهم، لا يستطيعون الرفض، يخافون على أنفسهم وأسرهم من بطشه وظلمه..

يحاولون أحياناً تخفيف الأحكام عن الناس.. وإذا اكتشف الحاكم واحداً منهم سجنه وعذبه دون رحمة..
وقسم ثالث:

محايدون تماماً.. يعيشون بعزلة.. يرفضون بصمت وجود الحاكم وأفعاله، يفضلون الأعمال البسيطة البعيدة عن سلطانه.. يعملون بالحِرَف والتجارة..

يغضون الطرف عما يجري حولهم، يدعون ربهم ليخلصهم مما هم فيه..
لكنهم لا يفعلون أي شيء سوى الدعاء ليزيحوا عن كاهلهم هذا الظلم.. حتى أنهم لا يتكلمون فيما بينهم بأدنى أمر يتعلق بالحاكم وحاشيته.

أما القسم الرابع والأخير:

فقد كان متمرداً بقوة.. رافضاً بعنف.. لكل ما يقوم به الحاكم من أفعال منكرة.. شريرة.. بعضهم دخل السجن، وبعضهم عذِّب حتى مات.. ومنهم من هاجر إلى بلاد بعيدة..

ومنهم من لجأ إلى الوديان والسهول والجبال؛ ثم شكلوا مجموعات سرية تقاوم الحاكم وشروره، تلجأ إلى مهاجمة جنوده وقوافله، تستولي على ما في هذه القوافل من سلاح ومعدات وتموين غذائي متنوع.

وهذا القسم الأخير كان أشد الأقسام إزعاجاً للحاكم، يثير غضبه وحنقه، فيصدر أوامره الصارمة باستخدام كل أساليب البطش والقوة للقضاء عليهم.. ومع ذلك كانت أعدادهم تزداد ولا تنقص.. وإمكاناتهم تقوى ولا تضعف..

المشهد الواحد والعشرون

الأميرة الصغيرة الجميلة لم تكن تعرف عن ذلك شيئاً، حياتها تمضي بشكل هادئ رتيب، تقرأ الكتب الكثيرة المتنوعة، تمارس هواياتها المسلية..

ترسم لوحات طبيعية جميلة.. تلعب بألعابها الفريدة التي صنعها لها عمال أبيها..
تشدو مع البلابل والحساسين.. تعيش مع الطبيعة الجميلة في حديقة جناحها؛ تزرع الورود والرياحين.. تسقي الأشجار وتقطف الثمار.. تطعم الدجاج والصيصان.. تلعب.. تلهو.. تفرح.. الحياة بالنسبة لها عالم آخر، غير ذلك العالم الذي يعيش فيه الشعب..

عالم مستقل.. لا جراح فيه ولا آلام.. لا جوع فيه ولا مرض.

أما مربيتها فقد كانت تعرف كل شيء.. تتألم لما يحدث للشعب، لكنها تتجنب قسوة الحاكم وظلمه، تعلم أنه ميت القلب، يعامل الناس دون رحمة.. حتى أنه يظلم زوجته وهو الذي لا يسمح لها بالجلوس مع ابنتها إلا نادراً، وكان يحتقر الناس ويتلذذ بتعذيبهم، ويظن أنه لو خفف من قسوته عليهم لانتهى ملكه واضمحل.
المربية الحكيمة تعلم أن الحاكم قرَّب إليه المجرمين واللصوص، أعطاهم مكانة عالية في المجتمع، فبدلاً من أن يرميهم في السجون التي صنعت أصلاً لأمثالهم، سلمهم أكبر المراكز، وجعلهم في مناصب ليسوا أهلاً لها، فعاش أفراد الشعب في دوامة لا يستطيعون الخلاص منها..

المربية تعرف هذا وأكثر، لكنها تحب الأميرة الصغيرة، فقد ولدت على يديها.. ولا تستطيع أن التخلي عنها، لم توافق يوماً على ما يفعله أبوها الحاكم لكنها ضعيفة..

لا تجرؤ حتى على النظر في عينيه، كما أنَّها سعيدة برفقة الأميرة الصغيرة، وهي تخشى أن تكتشف الأميرة الطيبة في أحد الأيام ظلم أبيها.. فهي رقيقة الشعور بريئة النفس ترفض ظلم الآخرين، حتى الحيوانات الصغيرة تخاف عليها.. فلو علمت أن أباها يقوم بكل ذلك السوء لأصيبت بحسرة شديدة.. وربما سقطت من هول الصدمة.
وبالرغم من كل مباهج الحياة التي تحيط بها لم تكن الأميرة الصغيرة سعيدة بحياتها، فكل ما يحيط بها من فخامة وثراء لا يعني لها الكثير، فهي تشعر أنها لا تعيش عيشة طبيعية، تريد أن تجتمع مع أسرتها الصغيرة في مكان واحد..

وكانت كلما سألت أباها عندما يزورها مع أمها، عن ندرة زياراتهما إليها، عن سبب عزلتها ووحدتها ولماذا لا تخرج وتتنزه في مملكة أبيها، وترجوه أن يأخذها معه ويخرجها من عزلتها.. تسمع جواباً لطيفاً منه، يختلف تماماً عن أسلوبه مع الآخرين..
كان يقول لها:
"هذا المكان فيه كل ما ترغبين فيه، أنا أخشى عليك.. فقد تتعرضين للأخطار.. كما أن الهواء في الخارج ليس نظيفاً مثل هواء حديقتك.. والشوارع مليئة بالعمال والجنود والمصانع والضجيج.. فلماذا تزعجين نفسك بكل هذا؟".

الأميرة الصغيرة قلبها طيب.. تصدق أباها وتقتنع بسرعة، لكن عندما يغادر أبوها المكان، تعود هي إلى وحدتها، ويصبح القصر الضخم الرائع سجناً رغم ما فيه من وسائل التسلية والترفيه..

وكانت تجلس في كل ليلة تحت ضوء القمر.. تتأمل السكون.. تفكر بحياتها..

"هل سأظل في هذه الوحدة طوال حياتي؟".

كانت تحلم بفارس يأتي من بعيد يحملها على حصانه الأبيض، يخطفها من هذا القصر، لتعيش بين الناس؛ حياة طبيعية، ولو في كوخ، تعيش ببساطة.. نعم ببساطة.. ولو أكلت خبزاً جافاً.. وقرصها البرد والجوع..
وكانت تقول لمربيتها هذا الكلام فتقول في نفسها:
"مسكينة أنت أيتها الأميرة الصغيرة، كم أنت طيبة القلب، ما أدراك بقرصات الجوع والبرد.. وما ذقت يوماً طعم الألم والتشرد والظلم"..

أما الأميرة فكانت تردد:

"كرهت القصر.. كرهت الحياة.. آه لو تتحقق أمنيتي وأعيش في كوخ بسيط.. في أسرة فلاح فقير.. بدلاً من كل هذا الثراء، وهذه الحياة الفاخرة المريرة.. أشعر أنني في سجن لا خلاص منه".

المشهد الثاني والعشرون

وبعد أن كبرت الأميرة الصغيرة قليلاً، صارت تبحث في أنحاء القصر عن مخرج..
وفي أحد الأيام اكتشفت نفقاً سرياً يقودها إلى غابة قريبة من القصر.. فصارت ترجو مربيتها أن تسمح لها بالخروج مع فرسها الرمادية التي تركبها في حديقتها الصغيرة فلا تتمكن من الجري السريع لضيق مساحة الحديقة.. هي تريد أن تقفز مع الفرس في كل الأمكنة الجميلة..

المربية كانت خائفة فيما لو عرف الحاكم بذلك..

لكن الأميرة الجميلة أصرت على الخروج مهما كان الأمر، وعندما تأكدت من إنشغال الحرس امتطت فرسها الرمادية، التي انطلقت برشاقة، وطارت بالأميرة نحو الغابة وصارت تسبح من مكان إلى مكان، تقفز عالياً في الهواء.. ثم تحط أقدامها برفق فوق التراب كأنها تلامس الأرض بحوافرها، وكانت الأميرة تشعر لأول مرة بالحرية وبالخفة التامة والرقة البالغة.. لأن الفرس كانت تعلم أن على ظهرها أميرة طيبة القلب.
وصارت الأميرة تخرج من حين إلى آخر من النفق السري.. وتعود بعد فترة قصيرة ولا تتأخر حتى لا يكتشف أحد غيابها، فلا يعود باستطاعتها الخروج مرة ثانية.

وتكررت رحلاتها واستكشفت كل شعاب الوديان والجبال التي تحيط بالقصر، ولم تكن تبتعد كثيراً حتى تتمكن من العودة بسرعة.. وفي رحلاتها المتكررة صادقت كل الأزهار والأشجار والأطيار، وألفت الأمكنة كما يألف الإنسان الإنسان. وشعرت أنها تشبه كل شيء في الطبيعة، بل إنها جزء من الطبيعة.. ماء في النهر.. وردة في الوادي..أو طير في السماء..

من فوق فرسها الرمادي كانت تطير مثل النسيم.. تحمل طفولتها.. شبابها.. روحها التواقة للحرية..
وفي مرة تركت لجام فرسها فقادت الفرس نفسها.. انشغلت عن تذكر أن عليها العودة إلى القصر خلال وقت قصير.. لم تشغل نفسها بضرورة عدم الذهاب بعيداً.. نست أنها أميرة هذه الوديان والتلال والجبال..
صارت فراشة تهيم في الحقول.

وفجأة.. انزلقت قدم الفرس وهي تركض على حافة منحدر شديد الوعورة.. انقلبت الفرس على رأسها.. طارت الأميرة هذه المرة طيراناً حقيقياً.. طارت أكثر من عشرة أمتار.. ثم حطت فوق الرمال والصخور..
الفرس المسكينة انقلبت في اتجاه آخر.. المنحدر جذبها بقوة لثقل وزنها.. انقلبت حيناً على رأسها.. وحيناً آخر على جنبها.. ثم ظهرها.. وظلت تنقلب.. وتنقلب.. وتنقلب.. وصدى صوتها الصاخب يتردد في أنحاء المكان.. حتى استقرت في قعر الوادي.. وتبدد صوتها تماماً.

الأميرة الجريحة لم تفقد وعيها لحظة واحدة.. عاشت تفاصيل الحادث المروِّع، شاهدت الفرس "تتشقلب" على المنحدر.. كان المنظر مرعباً.. لأول مرة في حياتها تشعر بالرعب.. بالهلع.. تشعر أن الموت قريب منها.. تراه بعينيها..

الأميرة الجريحة ذاقت ألم الجراح الفظيع.. ذاقته للمرة الأولى، صارت تجهش بالبكاء..
مشهد الفرس وهي تتلوى من الألم غلب آلام الجراح الكثيرة التي أصابتها، وراحت تبكي حزناً على الفرس وهلعاً مما أصابها، وصارت الدموع تنهمر من عينيها لأول مرة..

ومن هول الصدمة لم تشعر بالدماء التي كانت تغطي قدميها.. لم تظن أن حادثاً مؤسفاً مثل هذا سيصيبها يوماً ما.. حاولت الوقوف.. الألم الفظيع سرى في عظامها مثل البرق.. أدركت أنها لا تقوى التحرك من مكانها، بدا شبح الموت يخيَّم فوق رأسها.. تشعر أنه يدنو منها.. سيصيبها كما أصاب الفرس المسكينة.. فمن ذا الذي يستطيع اكتشاف مكانها..

"سأنزف حتى الموت".. لم تستطع مقاومة هذا التصوّر.. صار الألم أقوى منها.. ضعفت أمامه.. استسلمت..
ازداد بسرعة حتى غُشي عليها، وفقدت وعيها تماماً..

وفي هذا الوقت كانت المربية تشعر بقلق شديد..

"هذه أول مرة تتأخر الأميرة عن العودة!".

انتظرت بعض الوقت..

"الشمس تكاد تغيب.. والأميرة لم ترجع بعد".

الحراس اكتشفوا غياب الفرس الرمادية.. بدأ الذعر يدب بينهم، والمربية أدركت أن سوءاً قد وقع..
"لا بد من إخبار الحاكم في الحال"..

لم تخشَ انتقامه منها.. لم تخش أن يتهمها بالتقصير والإهمال.. هي أكثر الناس معرفة ببطشه وجبروته، فكيف في أمر يخص ابنته الوحيد.. ومع ذلك يجب التحرك بسرعة.. ربما تكون الأميرة في خطر وتحتاج لمساعدة.

المشهد الثالث والعشرون:

أطلقت المربية سرباً من الحمام الأحمر.. لا يطلق إلا عند الخطر، مدرب كي ينطلق بقوة وسرعة بالغة نحو مقر الحاكم مباشرة، فيعلم أن سوءاً قد وقع لابنته، وهذه الطريقة التي استخدمتها المربية لأول مرة، أمر الحاكم باللجوء إليها في الحالة الطارئة، لأنها أفضل من أقوى فارس يقود أسرع الخيول.. فالأمر لا يحتمل تضييع لحظة واحدة.

وخلال دقائق قليلة حضر الحاكم برفقة مجموعة كبيرة من الجنود، وعندما أخبرته المربية باختفاء ابنته، أمر جنوده بأن يقتفوا أثرها ويبحثوا في كل مكان.. فانطلق الجنود وانتشروا بين الجبال والوديان ولم يتركوا مكاناً إلا وبحثوا فيه.. وتتبعوا كل أثر ممكن.. حتى أنهم غاصوا في أعماق النهر الذي يمر في الوادي السحيق.. لكنهم ما وجدوا شيئاً..

الحاكم استدعى مزيداً من الجنود.. واستمر البحث أيام وليالي طويلة.. ولم يسمح للجنود بالراحة والنوم.. كثيرون منهم ناموا فوق خيولهم.. ولم يجرؤا على العودة دون العثور على الأميرة..
أما الحاكم فقد خرج بنفسه يبحث عن ابنته.. يحمل سوطه يضرب الفرسان والجنود ليبحثوا بجد دون تكاسل.. حضرت فرقة صغيرة ماهرة بالتسلق.. قال قائدها للحاكم إنهم وجدوا فرس الأميرة هالكة في قعر الوادي السحيق وعليه أن يرسل الجنود إلى ذلك الوادي ليبحثوا في كل ناحية فيه..

تجمع الجنود كلهم هناك.. ومن خشي النزول في الوادي أمر السلطان بقتله.. لم يكن بعض الجنود يعرفون تسلق الجبال والنزول في المنحدرات، وأكثرهم لا يملكون المعدات اللازمة.. فسقط منهم كثيرون في الوادي وماتوا.. والسلطان لا يبالي بصراخهم وآلامهم..

أحد القادة المقربين من الحاكم يئس من العثور على الأميرة، تأكد أنْ لا أثر لها في الوادي.. خشي أن يموت الجنود كلهم وهم يسقطون في قعر الوادي بالعشرات.. اقترب من الحاكم منحني الرأس.. استعطفه من ليسمح له بالكلام.. أشار إليه الحاكم اي تكلم..
قال القائد:

"مولاي.. الجنود يهلكون.. مضى على البحث أيام ولم نجد شيئاً.. لو كانت مولاتي الأميرة سقطت في قعر هذا الوادي فمن المستحيل أن تكون على قيد الحياة.. والذئاب سوف..".

لم يكد القائد يتفوه بهذه الكلمات.. وقبل أن يكمل كلامه.. أشار الحاكم إلى أحد الجنود آمراً بقطع رأس القائد.. فنفَّذ الجندي الأمر على الفور قبل أن يتمكن القائد من الدفاع عن نفسه.

وعندما رأى الجنود ما حدث لقائدهم.. أصابهم الرعب الشديد، وسرى الخوف بينهم، صاروا يركضون كالمجانين في كل جانب، عسى أن يجدوا شيئاً يهدئ الحاكم الظالم.. لكن واحداً منهم لم يكن يتمنى اكتشاف الأميرة ميتة خوفاً من بطش الحاكم..

في هذا الوقت كانت الأميرة الجريحة تتعافى وتستعيد وعيها في مكان آخر لا يعرف جنود الحاكم مكانه، وفي كهف بعيد في بطن جبل شديد الانحدار، كانت الأميرة ممددة على فراش بسيط تحاول فتح عينيها دون أن تعلم أين هي وما حدث معها بعد تلك الحادثة الرهيبة؟!

اكتشفت أن مجموعة من الرجال عثروا عليها ملقية في الوادي مضرجة بدمائها..
كان بينهم رجل يعرف بالطب، حملوها فوق خشبة... ونقلوها بعناية إلى هذا الكهف، طمسوا آثارهم، أخفوا دماء الفتاة وغطوها بالتراب حتى لا يكتشفها أحد ويعرف جنود السلطان مكانهم فيبطشوا بهم.
الطبيب عالج جراح الأميرة وكسورها.. فتحت الأميرة عينيها.. ولم تستطع الكلام.. علمت أن هؤلاء الرجال أنقذوها من الموت..

"لا شك أنهم قطاع طرق.. هاربون من القانون.. مجرمون.. لصوص.. بالتأكيد هم لصوص.. فلماذا هم يسكنون في الجبال؟!".

حمد الطبيب ربَّه على سلامة الفتاة..

جاء مجموعة من الرجال والنساء يهنئون الفتاة على سلامتها.. طلب منها أحدهم أن تخبرهم عن مكان أسرتها.. فهم بالتأكيد قلقون على ابنتهم..

لم تتكلم الأميرة بكلمة واحدة.. الطبيب طمأنها أنها أصبحت بخير ولا يوجد خطر على حياتها.. لكنها لا تستطيع الحراك الآن ففي ذلك خطر عليها.. وكان مع الرجال بضعة نساء قمن بخدمة الأميرة.. غسلن جسدها وثيابها وصرن يطعمنها بلطف.

الطبيب يأتي إليها من حين إلى آخر يطمئن عليها، يُسمعها كلاماً جميلاً؛ يقول لها إنها في عمر ابنته، ثم يتركها باحترام مثلما دخل دون أن يعرف من هي، لكنهم كانوا متأكدين أنها ابنة أسرة كريمة ثرية بسبب الثياب التي كانت ترتديها.

المشهد الرابع والعشرون

سمعتهم الأميرة يتحدثون عن ظلم الحاكم للشعب.. عن جوع الناس.. عن آلامهم.. عن القهر الذي يعيشونه.. عن السجون.. عن القتل.. عن التعذيب.

سمعت كلمات مثل: جور الحاكم.. جشع الحاكم.. المساجين.. القتلى.. السجون..

سمعت أشياء وأشياء لم تكن تتصور وجودها.. لم تتوقعها يوماً.. اكتشفت الظلم الواقع على الناس.. وأن أباها يسرق مالهم وقوتهم وحياتهم..

حاولت أن لا تصدق..

"كاذبون.. كاذبون.."

صارت تصرخ في أعماقها..

"لكنهم طيبون.. لطفاء.. يعاملونني بكل احترام".

"ترى ماذا سيفعلون لو اكتشفوا أنني ابنة السلطان؟".

فجأة جاء رجل على عجل:

"السلطان يبحث عن ابنته المفقودة".

سمعت الأميرة الخبر.. قالت:

"سيقتلونني بكل تأكيد".

لكن معاملتهم لها لم تتغير.. جاء الطبيب، ابتسم لها كما ابتسم لها أول مرة..

"الحمد لله.. أنت بأفضل حال اليوم يا ابنتي.."

"ما رأيك أن تأخذي الآن فرساً من أجود خيولنا وتتوجهي إلى أهلك.. لا بد أنهم قلقون عليك.."
"لكن سيري بهدوء حتى لا تتضرري.. فجراحك لم تلتئم بعد.."

لم تصدق الأميرة الجميلة ما تسمع:

"أهذا حلم أم حقيقة؟".

أدرك الطبيب ما في عينيها:

"ما كنا لنفعل ما تفكرين به، لا ذنب لك.. نحن لسنا بمجرمين كما يقولون عنا.. اذهبي يا ابنتي.. اذهبي.. فالناس تموت الآن من أجلك".

الأميرة لم تكن تصدق كل ما سمعته عن أبيها، تريد إثبات العكس لهم جميعاً، فوالدها لطيف جداً معها، وهي لم تتوقع أبداً أن يكون كما يقولون... ركبت الأميرة فرساً قوية.. ودعت الرجال.. شكرت النساء لعنايتهن بها.. سارت الفرس بهدوء إلى وجهة لا يعرفها هؤلاء الرجال..
سلكت الأميرة طرقات سرية، ودخلت أنفاقاً لا يعرفها جنود أبيها.. وصلت إلى قصرها المرمري.. ودخلت غرفة مربيتها فكاد يغمى عليها من المفاجأة.. تمالكت نفسها، حضنت الأميرة، وصارت تبكي من الفرح.. قالت الأميرة:

"سأسألك سؤالاً واحداً: هل أبي ظالم بحق الشعب؟".

أحنت رأسها.. لم تكن تتوقع هذا السؤال أبداً:

"مولاتي".

"أرجوك.. أجيبيني".

"كلام فارغ.. من وضع في رأسك هذا الكلام".

"أجيبيني".

"لنذهب أولاً مقر أبيك.. إنه غاضب جداً بسبب غيابك".

جلست الأميرة على سرير المربية وقالت بصوت كئيب:

"الآن تأكدت أن ما قالوه هو صحيح وصادق؛ يقتل الناس، يستولي على بيوتهم وأرضهم وممتلكاتهم بالقوة.. ويحرم أولادهم من كل شيء.. إن أبي مجرم.. مجرم.."

الأميرة تبكي بمرارة.. والمربية تضمها إلى صدرها..

خافت الأميرة أن تواجه أباها بأفعاله.. سوف ينتقم من الناس أكثر.. سوف يسجنها ويمنعها من لقاء الشعب كما كان يفعل طوال حياتها.. ولكنها هذه المرة ستفعل ما يجب أن تفعله..

قررت الانضمام إلى صفوف المقاومين من الشعب.. ومقاومة الحاكم..

قالت لمربيتها: "تعالي معي.."

أجابتها: "أنت لا تحتاجين اليوم إلى امرأة عجوز كبيرة مثلي".

انطلقت الأميرة عائدة إلى الجبال.. إلى الكهف الذي جاءت منه.

جنّ الحاكم عندما علم أن ابنته حية تقاتل في صفوف أعدائه..

انتشر الخبر مثل النار في الهشيم.. "ابنة الحاكم تقاتل أباها من أجل الشعب"..

سرت في أوصال الشعب روح الثورة والعزة والكرامة..

شعر الشعب بقوة هائلة، ثار الشعب كله.. حتى جيش الحاكم لم يعد ينفّذ كل أوامره..
وبدأ الحاكم يفقد قوته شيئاً فشيئاً.. ثم انقلب الجيش على قائده.. أمسكوا الحاكم وزجوا به في السجن.. اجتمع الناس يهتفون بحياة ابنته الأميرة.. وطالبوها بأن تكون حاكمة مكان أبيها..

لكن الأميرة رفضت ذلك.. لم تفكر يوماً أن تكون حاكمة، لا تحب القصور.. لكنها طلبت من الشعب أمراً خاصاً.. صارت ترجو الناس الصفح عن أبيها.. أن يسمحوا له بالبقاء في القصر حتى يموت..
توسلات الأميرة كانت أقوى من كل جرائم أبيها..

الناس طيبون.. لم يكن الانتقام هدفهم..

تركوه في قصره ولم يعد يسمع الناس عنه أي خبر منذ ذلك الحين، ولم تسكن الأميرة القصر بعد ذلك.. عاشت كما أرادت.. مثل الشعب.. وبعد موت الحاكم لم يسكن أحد ذلك القصر..
وعاشت الأميرة بعد ذلك عمراً طويلاً.. نسي الناس من هي.. لكنهم لم ينسوا قصتها.. وتزوجت ابن الطبيب الذي عالجها في الكهف.. وكان إنساناً بسيطاً يعرف تماماً ما معنى الحب والرحمة والحرية.

المشهد الأخير:

عندما استمع "يتيم" إلى هذه القصة الغريبة، وكان يسمعها لأول مرة رغم أنه يعرف كثيراً من قصص القصر، التهبت مشاعر الحرية في قلبه من جديد..

أدرك أن جاره يحمل نفس مشاعره الصادقة..

يحبون الأرض وتاريخها المرتبط بالقصر..

كما يحبون كسر هذه الأسوار والتخلص من الخطر الذي يحيط بهم.. لكن لا يوجد سبيل سوى القضاء على الوحوش التي تحيط بالقرية من كل جانب..

قرر "يتيم" أن يبوح لجاره الصديق بما في قلبه.. فوجد لديه المشاعر نفسها..

ولكن الناس اعتادوا على المكان.. وليس عندهم رغبة على الخروج منه أو التحرر من قيوده بسهولة..
"يتيم" لا يريد أن يتحرر من المكان بنفسه فقط..

هو في الحقيقة لا يريد الابتعاد عن المكان الذي يحب..

وكيف يترك القرية التي يحبها..

هو يريد أن يفتح الأبواب أمام قريته ويكسر أسوارها العالية فلا تبقى معزولة عن العالم..
لا يريد المغامرة بنفسه ولا بغيره كما فعل كثير من الشباب، فما عادوا بعدما غامروا بأرواحهم في مواجهة الوحوش الضارية..

هنا أدرك "يتيم" مع صديقه أنه لا بد من عمل جماعي..

هذه الطموحات لا تعني هجران القرية وتركها..

بل عكس ذلك تماماً.. فهي تعني حماية القرية من كل عدو، ليتمكن أهل القرية من العيش بحرية تامة، والانتقال من مكان إلى مكان بسلام، وتمهيد السبيل لكي تستقبل القرية الزوار من كل مكان كما كان يحدث في السابق.
لقد كانت قصة الأميرة التي ارتادت السهول والتلال والمنحدرات رغم صعوبتها حافزاً له على تحقيق حلمه..
كما كانت كل القصص السابقة المرتبطة بالقصر تشير إلى القوة والإصرار والرغبة بالحياة بعنفوان وحرية..
وكان "يتيم" من خلال مراقبته المستمرة للطبيعة من وراء السور وهو يجلس في أعلى الشجرة، يدرك أن تلك الوحوش رغم ما تتمتع به من قوة، كما كان يتناقل أهل القرية.. فأنها لم تكن تظهر على مقربة من سور القرية..
وكان صوتها يضعف في الليل، وتصبح بعيدة جداً وكأنها تهاب شيئاً ما.. وأصبح يعرف الاتجاهات التي تتحرك فيها..

وكان يكتب ذلك في مفكرة صغيرة..

عرض "يتيم" تلك المفكرة على جاره الصديق.. فأدرك أن عدد الوحوش قليل وهي تتنقل من مكان إلى مكان، وأنه يمكن مواجهتها بخطط يمكن وضعها، كما يمكن إعداد السلاح المناسب للقضاء عليها..
لم يعد "يتيم" يتيماً بفكرته..

تجمعت أمامه الكثير من الأحلام الجديدة..

عادت الفرحة ترتسم فوق ثغره من جديد.. ليس عليه بعد اليوم أن يكتفي بالأحلام.. لأن الأحلام وحدها ليست كافية..

طلب عليه جاره الصديق أن يعرض فكرته على شباب القرية..

ورغم أن بعضهم كان خائفاً من الفكرة.. فإن البعض الآخر كانت الفكرة تراودهم مثله تماماً..
كانوا جميعاً متفقين على أهمية القضاء على الأخطار التي تحيط بقريتهم، لذا لا كان بد من اتخاذ قرار حاسم..
انتشرت أخبار الاجتماع في أنحاء القرية..

وصل الأمر إلى حكماء القرية وكبارها..

لم يقبل كبار القرية ما عزم عليه صغارها.. فهم يعرفون مقدار الأخطار التي تحيط بهم من كل جانب، ويعرفون أن الخروج من القرية يعني الموت المحتم..

رفض الآباء والأمهات مجرد مناقشة الموضوع مع أبنائهم، فهم يرفضون الفكرة بالمطلق، لا يقبلون المغامرة بالأرواح مهما كانت الأسباب، لأن ما وراء السور هو المجهول الذي لا يعرفه أحد..

حاول "يتيم" مراراً أن يطرح الموضوع للنقاش مستفيداً من احترام أهل القرية وتقديرهم له.. لكنهم في كل مرة كانوا يرفضون مناقشة الأمر باعتبار أن البقاء داخل سور القرية وعدم الخروج منها لأي سبب كان هي من الثوابت التي لا تراجع عنها.

قرر شباب القرية عدم الرضوخ، فقد أيقنوا أن على عاتقهم مهمة عظيمة وهي تغيير الأفكار التي يتمسك بها كبار القرية والتي تصر على البقاء داخل الأسوار وعدم تجوزها..

تنادى الشباب من كل جانب.. كانت فكرة الحرية حية في قلوب الجميع..

قرروا البدء منذ اللحظة بالتدرب والاستعداد والتأهب لمواجة الوحوش واصطيادها وقتلها وتدمير جحورها وكهوفها..

وبدأ الاستعداد الشامل وتحضير الشباب الأشداء..

وبدأ الفنيون المهرة بإعداد السلاح المناسب من خناجر وسيوف ورماح..

وهكذا انطلقت مشاعر الحرية من قلوبهم.. بعدما سكنتها فترة طويلة..

يريدون كسر هذا السور الذي يحيط بقريتهم..

وكان "يتيم" وجاره الصديق.. وعدد كبير من شباب القرية يجاهدون في الليل والنهار من أجل تحقيق حلمهم بالحرية والقضاء على كل الوحوش الشريرة التي تحيط بهم، لتكون قصتهم قصة جديدة تنضم إلى القصص الكثيرة التي رواها الأجداد..

قصة التحرر من السجن الكبير.. من القرية المسجونة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى