الأحد ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧
بقلم حسين سرمك حسن

ليلة تسليم جلجامش لليهود (12)

عودة إلى زوجة باتا:

لقد «اختارت» هذه المرأة؛ زوجة باتا، وكذات فريدة، أن تفعل الشر – طبعا هي «تراه» خيراً، وهنا نتحوّل إلى الفلسفة المدوّخة – مثلما «اختارت» المرأة؛ زوجة الأخ الأكبر، قبلها، أن تزني بمحارمها. وهي قرارات ليست بسيطة أبداً. لقد اختارت كلٌّ منهما طريقا أوصلهما إلى الخراب – وأقول الخراب لا الموت لأن نهاية زوجة أنبو واضحة وصريحة في الحكاية حيث قتلها ورمى جثتها للكلاب، أمّا نهاية زوجة باتا، فغير واضحة لأسباب سوف نناقشها في حينه - وكانتا مصرّتين بعزم على طريقيهما، و«مسؤولتين» عن أفعالهما. والحالة بالنسبة لزوجة باتا أشد ثراء بالمعاني. فقد خلقتها الآلهة وفيها (من جوهر كلّ إله) كما يقول النص الأصلي للأسطورة، وهذا يعني أّنّها مجبولة من روح آلهة التاسوعاء الخيّرة كلّها مع حيّز ضئيل جدّا للشر(رع الشمس، شو الهواء، تعنوت الرطوبة، جب الارض، نوت السماء، اوزوريس الخضرة والنهار، إيزيس الفجر، نفتيس الشفق، وأخيرا ست الصحراء والفوضى والشر). فهل كان وجود "جوهر" الأخير الذي هو جوهر شر في المرأة التي كان فيها من جوهر كل إله خيّر، هو العامل الكامن الذي فجّر نوازع الشر والعدوان في ذاتها؟ هذا التفجّر الذي ساعدت عليه البيئة الفرعونية الجديدة المستبدة والفاسدة؟ هل هذا الإخراج الأسطوري هو تعبير عن موقف فلسفي من الحياة يعكس تصارع دوافع الخير والشر في داخلنا، ودور إرادتنا معزّزة بالعوامل الخارجية في اختيار أيّ منهما؟ من المؤكد أن هذا واحد من دروس الأسطورة، فالأسطورة نتاج للاشعور وفي العادة تضرب حصاة اللاشعور عدة عصافير في وقت واحد.

ناجح ينقل رأياً لا يتفق مع آرائه!:

والغريب أن ناجح يعود لينقل لنا الرأي الدقيق لشكري محمد عياد على الصفحة 106 من كتابه، ولكن بطريقة لا تتفق مع تحليلاته هو (أي ناجح)، بل تتفّق مع تحليلات شكري عياد التي لا يقرّها ناجح. ولنقرأ - أولا - ما ذكره شكري من وجهة نظر هي أصلا وقفة في مسار تحليل التراجيديا اليونانية بصورة رئيسية. يقول شكري عياد:

(وكان البطل هو نموذج الإنسان الذي يخرج من عالمه الصغير – عالم الأم – إلى عالم القبيلة الممتد في الماضي والمستقبل، المرتبط بقوى كونية أكبر من القبيلة وأوسع في معنى الإنسانية نفسه. ثم حين وُجد نظام الملكية المقدسة كان البطل هو نموذج الإنسان الذي لا فضل له في نفسه ولكن كل فضله هو اتصاله الأوثق بهذه القوى الكونية التي تحدّد حياته وموته. ولم يستطع الإنسان قط أن يخرج من هذا النطاق الذي فرضه عليه وجوده نفسه، ككائن يعيش في جماعة ويخضع لظروف مادية خارجة عن إرادته، ولكنه استطاع فقط – حين شعر بفرديّته – أن يعيش في صراع دائم مع هذا النطاق الاجتماعي والكوني، ومن خلال هذا الصراع استطاع أن يحقّق كل مبتكراته، بل استطاع أن يعدّل في هذا النطاق نفسه، وإن لم يستطع أن يحطمه تحطيما تاماً - ص 140) (82).

ولنقدّم الآن ما اقتبسه ناجح والتغيير "البسيط" الذي أحدثه فيه متوهّماً أنه بهذا سوف يجعل سياق تحليله لسلوك باتا متماسكا مع باقي أطروحاته، وإذا به يقع في مصيدة ارتباك كبير ومشوّش يُربك استنتاجاته ويطيح بفرضيّاته. يقول ناجح ناقلا كلام شكري عياد السابق:
(وكان البطل – بايتي – نموذجا للانسان الذي يخرج في عالمه الصغير الى عالم القبيلة الممتد - ص 106) (83).

ولاحظ أن ناجح حذف تعبير (عالم الأم) الذي هو أساسي جداً بالنسبة لتحليل شكري عياد كما سنبيّن ذلك. ولنسأل ناجح الآن بحَيْرة: أي قبيلة هذه التي خرج إليها باتا؟

ويواصل ناجح اقتباسه بنفس المفردات إلى نهاية المقطع وهي:

(ومن هذا الصراع استطاع أن يحقق كل مبتكراته... وإن لم يستطع أن يحطمه تحطيما تاماً - ص 107) (84).

حذف ناجح – كما قلت – تعبير (عالم الأم) الذي يخرج منه البطل حسب تحليل شكري عياد إلى عالم القبيلة. فماذا يقصد شكري عياد؟

لن نستطيع فهم وجهة نظر شكري عياد إلّأ إذا عدنا إلى الأسطر القليلة التي تسبق هذا المقطع، وضمن سياقها، والتي يقول فيها:

(ولعلنا نستطيع الآن أن نفهم جوهر التراجيديا اليونانية بعد أن وضعنا هذه التراجيديا في مكانها من تاريخ التطور الإنساني. فقد ظهر هذا الفن – حسبما نتصوره – في عهد نشوء الفردية، وهو نفس العهد الذي ظهرت فيه بواكير الدين والعلم والفلسفة الأخلاقية، كانت هذه كلها ثمرات لبدء شعور الإنسان الزراعي بذاته ومجتمعه وعالمه على أنها مفاهيم مستقلة، وقبل ذلك كان "الدين العتيق"لا يعني إلّا وحدة الإنسان مع جماعته وعالمه، وكان البطل هو نموذج الإنسان الذي يخرج من عالمه الصغير – عالم الأم – إلى عالم القبيلة الممتد في الماضي والمستقبل... إلخ) (ص 139) (85)

فانظر ما الذي فعله اقتطاع ناجح للنص، ليلائم وجهة نظره، من نقل تحليل شكري عن التراجيديا اليونانية إلى أسطورة وحكاية خرافية من سياق آخر غريب عنها. فبعد أن يحلل شكري تراجيديتين يونانيتين معروفتين هما "الباكحاي" ليوربيدس و"أوديب ملكا" لسوفوكل، اللتين يختلف في نموذجهما، الشكل الخارجي المُستمد من ألأسطورة الجماعية وفي حياته الداخلية التي تبعثها الثورة الإنسانية على هذا الشكل، وفي الدافع النفسي الذي يسيّر البطل في ثورته واصطدامه بالشكل الخارجي. وبعد أن يفصّل تمظهرات الشكل الخارجي (الملك المقتول)، والحياة الداخلية (الملك المقتول هو الذي يبحث عن أصل البلاء الذي حل بمملكته ويلح في ذلك وهو أصل البلاء)، والدافع النفسي (السبب الذي يوقع البطل في الصراع مع القوة الخارجية)، يوصلنا شكري إلى الإستنتاج الذي يتسق مع مسار تحليله ومصير بطله وطبيعة ماساته، ولا يتفق – أبداً - مع مسار تحليل ناجح ومصير بطله باتا:

(إن أساس الدوافع – عقدة أوديب في هذه الحالة - هو حبّ الذات، الذي ينتهي بجعلها مركزاً للكون. فالملك أوديب في اتهاماته العنيفة لتيزياس وكريون يكشف عن حبٍ لذاته ليس الإلتصاق بالأم (والزواج منها) إلّأ مظهرا حادا له. والنهاية الفاجعة لأوديب، وهي نفيه ثم موته، معناها انتصار القوى الخارجية ثم تصالح البطل معها، وهذا يقابل من الناحية النفسية، تركّز الليبيدو حوله بالذات، ثم اتجاهه إلى الكون ثم فناءه فيه - ص 144 و145) (86).

وواضح أنّ نهاية أسطورة باتا ومصيره مختلفة تماما عن نهاية التراجيديات اليونانية التي يتحدّث عنها شكري عياد كما سنرى قريبا، مثلما تختلف طبيعة المرحلتين التاريخيتين والبنيتين الإجتماعيتين اللتين أوجدتهما.

التناص الحيّ ؛ تحليل مشابه لتحليل شكري عياد عند "برونو بتلهايم":

وقد وجدتُ تحليلا لحكاية الأخوين مطابقا لتحليل شكري عياد وذلك في كتاب "التحليل النفسي للحكايات الشعبية" لبرونو بتلهايم (ترجمة طلال حرب – صادر عن دار المروج في بيروت عام 1985) (والكتاب تمّ تأليفه في عام 1976 ). يقول برونو بتلهايم:

(القصص التي تركّز على مسألة "الأخوين" تضيف إلى الحوار الداخلي بين الهو والأنا والأنا الأعلى تفرّعات أخرى: الميل إلى الإستقلال وتأكيد الذات وعكسها، الميل إلى البقاء بطمأنينة في المنزل العائلي بالقرب من الوالدين... في أغلب الحكايات التي تركز على هذه المسألة: الأخ المغامر الذي يغادر المنزل (وقد يطرده أخوه منه) هو الذي يتعرض لأخطار مميتة.. هذه الحكايات يبدو أنها تقول لنا:

إذا لم ننشر أجنحتنا كي نترك العش، لا نحطم الروابط الأوديبية التي حينئذ تدمرنا. الحكاية المصرية القديمة تنمو انطلاقا من موضوع أساسي هو الطبيعة المدمرة في الروابط الأوديبية والتنافس الأخوي أي من الحاجة إلى الانفصال عن منزل الطفولة وتأسيس حياة مستقلة. حتى ينتهي كل شيء بشكل حسن، يجب على الأخوين أن يتحررا من الغيرة (الأوديبية والأخوية) وأن يسند كل منهما الآخر... تؤكّد الحكاية بوضوح أن الشاب [= باتا] ليس لديه أفضل من مغادرة المنزل العائلي في تلك الفترة من حياته كي يحمي نفسه من المشاكل الأوديبية... بهذا الشكل، الحكاية أساسا مخصصة للتحذير: إنها تنبئنا أن علينا أن نتحرر من روابطنا الأوديبية وأن نعلم أن الطريقة المثلى لتحقيق ذلك هي أن نتدبر حياة مستقلة بعيدا عن المنزل العائلي. منافسة الأخوين هي أيضا معروضة في هذه الحكاية كمحرك قوي. ردّة فعل الأخ الأكبر الأولى هي أن يقتل أخاه بسبب الغيرة. الجزء الأفضل من طبيعته يقاوم غرائزه السفلى وينتهي به إلى التغلّب عليها - ص 126 و127) (87).

وإذا لم يكن الكاتبان يمتحان من مصدر واحد – وهذا هو الإحتمال الأكبر -، ولأن كتاب شكري عياد لم يُترجم إلى الألمانية مثلا لنقول – وهو الأسبق – أن برونو بتلهايم هو الذي اقتبس منه أو سطا عليه، فإن الأمر يكون هنا "تناصّاً" أصيلاً. وهذا هو معنى التناص العلمي الحيّ.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى