السبت ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم نزار بهاء الدين الزين

ماء الغدير

الغديرهو اسم القرية التي يقطنها فرع من عشيرة الصوّان مُنحت لهم أرضها من قبل حكومة الانتداب ضمن برنامج لتوطين البدو الرحل، و بنيت بيوتها فوق خرائب بلدة رومانية أو بيزنطية أو ربما من العصر الحجري، أصابها زلزال أو ربما انفجار بركان ، فدمرها و هجّر من بقي حيا من سكانها إن بقي أحياء! ذلك أن البلدة بجدرانها وأسقفها و أبوابها و نوافذها قُدت جميعاً من الحجر الأسود، مما جعل الكارثة يومئذ - على ما يبدو - مأسوية.

المحظوظ من المستوطنين الجدد من كان نصيبه فيها غرفة أو اثنتين سليمتين فانه سيرمم بقية المنزل ليعود كما تركه أصحابه، أما الآخرون فقد استخدموا أحجار الخرائب لبناء بيوتهم كيفما اتفق. و كذلك فإن الدرب الرئيسي و الدروب الفرعية ملأتها الأحجار السوداء من كل القياسات فجعلت من المستحيل أن تمر فوقها أية مركبة،أما الدرب الوحيد الصالح فهو الذي يربط بين مخفر الدرك بالطريق العام و هو شارع عريض و لكنه ترابي.

و تحيط بالقرية أراضٍ استزرعوها رغم صعوبة استصلاحها، و لكن النبعتان الغربية و الشرقية، كانتا تشجعان السكان الجدد على الاستمرار، رغم صعوبة المناخ و تدني الحرارة إلى ما دون الصفر معظم أيا الخريف و الشتاء.

عندما تهطل الأمطار تفيض النبعتان بالماء و تظهر ينابيع أخرى هنا و هناك، فتغرق ما زرعه السكان و قد تخربه، أما في الصيف فتكاد النبعتان - و خاصة الشرقية منهما تجفان - مما جعل الزراعة الصيفية مستحيلة!

دوما، كان السكان يشكون من اضطراب مصدرهم المائي، فيفيض عندما لايكون له حاجة و ينضب عتد الحاجة، إلا أن إمتلاكهم لبعض الماشية، كان يمنحهم بعض التعويض.

كان الأستاذ مروان، يستمع متأثرا إلى مشكلتهم، و يناقشهم أحيانا حول إمكانية حفر بئر قد يكون ماؤه غزيرا، كما فعل أهل قرية الختمية التي لا تبعد أكثر من بضعة كيلومترات، ولكنهم كانوا يرفضون الفكرة بحجة أن الأرض صخرية و أن أدواتهم البدائية لن تمكنهم من ذلك، وعندما اقترح عليهم استقدام آلة حفر هزوا رؤوسهم آسفين، لأن إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بذلك!

*****

وذات يوم و بينما كان الأستاذ مروان في العاصمة في زيارة الأهل قابل أحد أقاربه و هو مهندس بناء

سأله” أين يُدرِّس"، فأجابه” في قرية الغدير”

تبسم قريبه هذا، ثم سأله:

 أتدري أنني كنت المهندس الذي أشرف على بناء مدرسة الغدير؟

دهش مروان لهذه المصادفة و لكنه فوجئ أكثر عندما أضاف:

 إصغ يا مروان إلى القصة العجيبة التي حدثت لي هناك! فبينما كنا نحفر لبناء أساسات المدرسة، سمعنا هديرا، حفرنا أكثر، ففوجئنا بمجرى ماء قوي، جرف أداة الحفر التي كان يستخدمها أحد العمال...

ولكن في اليوم التالي و بعد استدعينا قائد المخفر ليشاهد معنا ما شاهدناه، كانت الصدمة، أن ذلك المجرى قد غار و اختفى !

أجابه مروان متحمسا:

 هذا معناه أن المنطقة تعوم فوق بحر من المياه.

 محتمل، لأن المنطقة تقع على أحد سفوح الجبل المعمم، و الثلج كما تعلم يغطي قمم الجبل صيفا شتاء، مما يشكل مصدرا مائيا لا ينضب.

*****

لم ينم مروان تلك الليلة و هو يفكر بالخبر السعيد الذي سينقله لأهالي قرية الغدير، فقد يقضي على فقرهم و يرحمهم من ابتزاز أبو عادل المرابي ، و أبو شاكر البقال اللذان ما فتئا يستنزفانهم،

*****

منذ لحظة وصوله إلى القرية و قبل أن يستريح، توجه إلى مضافة المختار، الذي استدعى وجهاء القرية بدوره. كانوا بين مصدق و مكذب.. و لكن الأستاذ مروان أوضح لهم أهمية الأمر، و أن من أخبره مهندس معروف، و لا بد أن أحدهم أو بعضهم تذكره. وبعد مداولات، تخللها الكثير من المشاجرات و المهاترات... استمرت حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم استغرقت اليوم التالي بطوله... صدر قرار غير ملزم... أن يكلفوا شبان القرية بالبدء بحفر بئر بجوار المدرسة....

*****

بدؤوا الحفر متحمسين و هم يهزجون.... فترت حماستهم بعد ساعة أو تزيد قليلا.. كُسرت مِجرفة محمد العبد الله، فانسحب غاضبا! ثم بدؤوا ينسحبون الواحد تلو الآخر!!! حاول الأستاذ مروان ثنيهم عن ذلك... قال أحدهم:” إننا كمن ينطح رأسه بالصخر”قال آخر: أتعبتنا يا أستاذ مروان بلا طائل ...

آخرون رفضوا حتى الإصغاء إليه، أداروا ظهورهم له، ثم غادروا و هم يغمغمون.. وقف مروان على حافة حفرة جافة لا يزيد عمقها عن المتر الواحد متأملا وقد غمره شعور بالخيبة وإحساس بالفشل و الخذلان..

" ترى هل كان قريبه، يسخر منه، و لكن لِمَ ؟؟؟”

وظل في الأيام التالية يسمع التعليقات اللاذعة و التلميحات الساخرة أينما سار أو زار... وظل يقرئ السلام فيردون سلامه بجفاء أو لا يردون...

*****

واستعرت الحرب الطاغوث الذي استنسخوه على ضفاف التايمز من جينات عمرها أكثر من ألفي عام، التقطوها من أحافير التاريخ.. أصبح عملاقا.. فبدأ قفزته الكبرى الثانية ....
فاستولي على الغدير ثم طالت أذرعه الأخطبوطية قمة الجبل المعمم..

ثم أمده عمه جورج بآلة سبر تعمل بالموجات الزلزالية ... وأمده صديقه العم سام بآلتي حفر لم يروا مثلهما إلا ايام تمديد خط التابلاين. وأمده عزيزه الهِر هانز بأنابيب فولاذية قطر واحدها مترا أو يزيد. و أمده حبيبه مسيو روجيه بعدة مضخات قادرة على شفط بحر....

و صحا أهل الغدير ذات يوم ليفاجؤوا بنضوب النبع الشرقي! ولكنهم فجعوا بعد عدة أيام بنضوب النبع الغربي !!! وإذ جازف أحدهم فاقترب من السور الشائك المقام قرب المدرسة و النبع الغربي.. سمع هدير الماء يطغى على صخب المضخات!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى