الخميس ٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٠
بقلم رشيد سكري

ما الأدب؟

ما الأدب؟ ما العلاقة التي تربط بين الأدب والبلاغة؟ وهل كل ما يكتب يندرج ضمن يافطة الأدب؟

أسئلة وغيرها طرحها، نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر في كتابه الشهير"ما الأدب؟"

يغدو التمييز، حسب سارتر، بين الأدب وغير الأدب أمرا في غاية الصعوبة، فبالرغم من الأبحاث التي وازت الدراسات النقدية الغربية، منتصف القرن الماضي، تظل أعمال كل من رومان ياكوبسون و بول ريكور رائدة في هذا المجال، حيث لامست الجرح من خلال التفكير العقلاني والوجودي في موضوع الأدب. و به يكون العبور آمنا نحو الوظيفة التي يقوم بها الأدب في الحياة.
فهل عمل الأدب يكون مقتصرا على نقل أحداثا ووقائع بإمتاع؟ أم في وصف الظواهر فقط؟ أم فيهما معا؟ إن الخطاب الأدبي يجعل، من اللغة غير المباشرة، هدفا يسعى إليها، وفي سمته هذا يصادف علم البلاغة والبيان، وما هذا الأخير إلا جزء منها. فمهما حاولت الدراسات الحديثة أن تجعل حدودا فاصلة بين البلاغة والخطاب، كي تفسح المجال لظهور علوم جديدة ما بعد البنيوية، إلا أنها تلقى مقاومة شرسة من تداوليات البلاغة في الأدب العربي والغربي على حد سواء. فلا يمكن أن يتخلى الأدب عن بنيويته، خصوصا وأن الخطاب التخييلي لا تقوم له قائمة من دون بلاغة تسعى جاهدة نحو تجسير الأدب بالحياة.

في كتاب "أسئلة البلاغة في النظرية والتاريخ والقراءة" للدكتور محمد العمري، صرح فيه هذا الأخير، بأن مفهوم البلاغة العربية، لازال يكتنفه غموض و إبهام بالرغم من انتشاره الواسع بين النقاد والباحثين والمهتمين. فهل للبلاغة أن تظل حبيسة رفوف خاصة، تستهلكها نصوص شعرية ونثرية فحسب؟ أم الأجدر بها أن تصبح طقسا يوميا للحياة في مدها وجزرها؟
تستمد البلاغة مشروعيتها، عند محمد العمري، من تداوليات لغوية تجوب كل أصقاع العالم من شرقه إلى غربه. وبهذا فبلاغة الإمتاع، التي تسكن الخطاب الأدبي، يجب أن تتجاوز المجاز، فضلا عن التعدي الذي يطال هذه العلاقة الناشئة بين الدوال، انطلاقا من المعنيين المجازي والحقيقي. فلا يستقيم حديث، هنا، في ظل هيمنة مطلقة لأحد هذين المعنيين في الدوال اللغوية. فبلاغة هذه الأخيرة ـ أي الدوال اللغوية ـ عند رومان جاكبسون، تنطلق من التمييز الممنهج بين الاستعارة و المجاز المرسل، أو بين مبدأي التماثل والتجاور. وفي ذات المسعى، قسم جاكبسون المدارس الأدبية إلى قسيمين اثنين: أولاهما؛ الرمزية والرومانسية، اللتان تجعلان من الاستعارة حجر الزاوية في تواصلاتها اللغوية وغير اللغوية.

ثانيتهما ؛ الواقعية التي لا يستقيم عودها، ولا يشتد برعمها من دون المجاز المرسل.
إن في الاستعارة والمجاز المرسل نسقا، يجعل من الخطاب الأدبي قابلا للتخييل، ويبحث باستمرار عن أدبيته، علاوة على إمتاع المتلقي عندما تترابط الدوال، وتتكامل الصور والتشبيهات. فنظرية رومان جاكبسون توسع من وعاء الاستعارة وتلقيها، بل ترمي بها إلى ضفاف غير لغوية. فإذا كان التخييل و الخيال الأدبي عملية معقدة تربط بين الدال والمدلول، فضلا عن إحداث رجة ذهنية ناتجة عن تماثل بين معنيين للكلمة الواحدة، في سياق الخطاب، فإن هذا الوعاء الاستعاري، حسب جاكبسون، ينفلت من عقاله، ويصبح أكثر تعبيرا و إمتاعا عندما تصبح الاستعارة دالة على دوال غير لغوية.

هنا، نطرح سؤالا أساسيا وجوهريا، ما علاقة الاستعارة بالمدارس الفنية؟ وهل تؤمِّن الاستعارة لهذه المدارس تواصلا غير لساني؟

تجيء، فنون السينما والنحت والرسم والتشكيل، بمزايا هامة. تنضاف إلى ما حققته من تقدم على مستوى التعبير عن الواقع ؛ لتعود بالنفع على إنتاج الدلالة وتداولاتها، خصوصا إذا كانت الاستعارة تجسِّر بين الشيء وما يرمز إليه. فالترميز، هنا، يخترق المدارس الفنية جميعها، بما هو حقل مناسب لنمو الاستعارات و التشبيهات. وفي هذا السياق، تغدو الأفلام السينمائية، مشتلا غنيا لتغيير التقاط صور ومشاهدَ، وتقصي أبعاد النظر. فرومان جاكبسون، في هذا المستوى، ينظر إلى السينما من خلال سبيكة التماثل. في حين يقارب أعمال الرسم و التشكيل، وهي أنظمة غير لسانية، من زاوية علاقة الجزء بالكل، أو العكس عندما يصبح الكل يحمل شفرات الجزء. و به، كان يقول جاكبسون إن الرسم، خصوصا مع الاتجاه التكعيبي، يولد المعاني عن طريق التجاور لا التماثل.

وفي معنى سابق، تتعدد الرؤى حول الطريقة التي يعالج بها رومان جاكبسون العلاقة، التي تـُنسج بين الاستعارة والمجاز.

وإذا كان الأثر الأدبي تختفي فيه الحدود الفاصلة بين التماثل والتجاور، فإن الرؤية الفنية التي ينطلق منها المبدع لا تعترف البتة بهذه الجدار الفاصل والمفتعل. بالموازاة مع ذلك، فعندما يدخل المبدع غمار شطحاته الإبداعية، يركب من خلالها، سفينة تمخر عـُباب البحر؛ لتهتك ستر الظلام. علاوة على ذلك، تكون حينها اللغة الأدبية تجنح إلى الترميز والإشارة والتيه في الغموض والإبهام.

فلا مجال، إذن، إلى اللغة المباشرة الخالية من الانزياحات. بالمقابل حينما يتموقف الكاتب أو الشاعر من المدينة، مثلا، بأضوائها المعتمة وشوارعها الضيقة الملتوية، والرياح التي تعوي في دروبها، كما يفعل القاص الراحل أحمد أنقار في مجموعة من أعماله القصصية أو كما يحلو لعبد المعطي الحجازي أن يبدع في بعض من قصائده. بيد أن الإبداع، في هذا المستوى، لا يصرح بموقفه السلبي من المدينة كمدينة، وإنما من الحضارة الإنسانية، التي أفرزت لنا هذا النمط من التجمعات السكانية، التي استنفرت قريحة الكاتب أو الشاعر. فالتوسل بالمدينة، في الإبداع، يفضي بنا إلى الحضارة الإنسانية التي تعود، في رأي الكاتب أو الشاعر، بالدمار والموت و الخراب، من خلال مؤشرات مجازية و استعارية.

فتشكيل المتن الحكائي بهذه المواصفات، يرحل بنا إلى الوظيفة التي تعتمل داخل الأدب، ليبقى هذا الأخير لغة سحرية، تلجأ إلى المفاضلة والتمييز بين التعابير القريبة من نبض قلب القارئ، ومن وتين المتلقي الحصيف لهذا الخطاب الأدبي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى