الخميس ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم صبحي حديدي

ما بعد الموسيقى

كتاب عند حدود الموسيقى، أحدث أعمال إدوارد سعيد (1935ـ2003)، والذي صدرت طبعته البريطانية عن بلومزبري قبل أيام، يعيد التذكير بالفضاء النقدي ـ الثقافي الخاصّ، العريض والمركّب والتعددي، الذي يظلّ محتَسباً للراحل الكبير، وشاغراً في غيابه. ويسترجع المرء، في المناسبة، كيف أنّ الحزن العميق إزاء رحيل سعيد الفاجع كان، في وجهة أخرى، تسليماً بأنّ الإنسانية قد خسرت عَلماً كبيراً ـ وضميراً فريداً، وطاقة عطاء استثنائية. الأسباب كثيرة، بل ليس من المبالغة القول إنها لا تُعدّ ولا تُحصى، إذْ قد يكون لكلّ امرىء أسبابه الخاصة لاحترام الراحل، سواء في الاختلاف أم في الاتفاق.

كذلك فإنّ المراجعات التي نشرت باللغة الإنكليزية عن هذا الكتاب الجديد تذكّر بأنّ الآلاف، ولعلّ القول لا ينطوي على مبالغة هنا أيضاً، تنفسوا الصعداء لأنّ ذلك الطود الشامخ غادر المشهد، وغابت معه سلطته السجالية، العالية الجبّارة، الأخلاقية والفكرية والثقافية والسياسية. ولقد أراح رحيل سعيد أولئك الذين لم يعرفوا طعم الراحة في حضوره، حين كانت جهوده الشجاعة، اللامعة كالشرر واللاذعة كالسياط، تفضح أنساق انحطاطهم كافة، وتنقلب إلى سيف مسلط على رؤوسهم... تحرّروا من وطأته يوم 25 أيلول (سبتمبر) قبل ستّ سنوات، حين أغمض سعيد عينيه للمرّة الأخيرة.

ولقد تبدّت مظاهر ذلك الإرتياح في بعض المراثي التي دبّجها خصومه (حيث لا تخفى الأحقاد، حتى في الجملة الطافحة نفاقاً وتدجيلاً وكذباً)؛ أو في امتناعهم، ببساطة، عن إبداء أيّ تعليق حول منجز الراحل. خذوا، على سبيل المثال الأوّل والأبرز، تعليق برنارد لويس حين سُئل عن رحيل سعيد، فأجاب: De mortuis nihil nisi bonum! لقد فضّل بطريرك الإستشراق المعاصر الذهاب إلى اللغة اللاتينية لكي يختصر جوهر موقفه: لا تُقال عن الأموات سوى الأشياء الطيّبة. بالطبع، لم يقصد لويس المعنى النبيل الذي ينطوي عليه ذكر محاسن الموتى، أو تجنّب الشماتة في الموت، بل قصد العكس تماماً: لا أملك حول سعيد سوى الأشياء غير الطيّبة، وما دامت الأشياء الطيّبة هي وحدها التي تُقال عن الأموات، فلا تعليق لديّ على رحيله!

أو خذوا، في مثال ثان، سوء طوية تحرير صحيفة الـ ’غارديان’ البريطانية، التي تُحتسَب على يسار الوسط عموماً، حين وضعت جانباً عشرات الكتّاب المساهمين في صفحاتها، ممّن كتبوا مراراً وتكراراً عن سعيد وراجعوا أعماله ويعرفونه حقّ المعرفة، فعهدت بمهمّة رثائه إلى ماليز روفن أحد ألدّ خصوم الراحل، والذي تشاء المصادفة (أهي كانت مصادفة، حقاً؟) أن يكون يهودياً، وبين كبار كارهي الإسلام والمسلمين. عشية الحرب على أفغانستان، وبعد أسابيع معدودات على 11/9، كتب في الـ ’غارديان’ ذاتها يقول: حاذروا من أسامة بن لادن، إنه صلاح الدين الجديد القادم لتحرير المسلمين من أهل الغرب الصليبيين! كذلك تَسجّل له براءة اختراع تعبير ’الإسلامو ـ فاشية’، ذلك النحت السخيف السطحي، والبذيء تماماً إذْ يصدر عن مؤرّخ يزعم أنه عارف بتاريخ الإسلام.

روفن هذا كدّس الصفات/النقائض التالية في رثاء سعيد: الناقد الأكبر لوسائل الإعلام الأمريكية، ولكن الـ (سوبر ـ ستار) في دفاعه عن القضية الفلسطينية؛ الإنسيّ الذي يتكىء على فلسفة عصر الأنوار الأوروبية، ولكن الراديكالي الذي يهاجم تحالف فلسفة الأنوار مع مؤسسة الإستشراق الإستعمارية؛ والعلماني الذي يكره الحركات الأصولية، ولكن ذاك الذي جلب نقده للغرب الراحة كلّ الراحة للأصوليين؛ وعضو المجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1977، صاحب الصياغة الإنكليزية لإعلان استقلال فلسطين في الجزائر 1988، ولكن الرجل الذي استقال من المجلس، ورفض اتفاقيات أوسلو، انقلب إلى شوكة في خاصرة السلطة الفلسطينية...

أهذه سجايا أم خطايا؟ روفن لا يتورّط في إطلاق أحكام القيمة، ما خلا النقد الخفيف الخجول لكتاب ’الإستشراق’. ولكنه في الآن ذاته رسم صورة مستترة لا تقوم باستذكار الراحل، خيراً أو شرّاً، بقدر ما تحاول تهديم شخصيته ومنجزه على نحو مستتر، موارب، غير مباشر. ثمة مثلاً إشارة عابرة، وجيزة وسريعة ومبتسرة، إلى موقف سعيد من موسيقى فاغنر، يتلوها على الفور استنتاج خبيث بأنّ الراحل كان يفصل بين الموسيقى والرسالة الإيديولوجية لصاحب الموسيقى، أي أنّ فلسفة فاغنر في العداء للسامية لم تكن تعني سعيد في شيء، وهنا بيت القصيد، وسبب الكثير من الأحقاد التي يستعيدها خصوم الراحل عند مراجعة كتابه الجديد عن الموسيقى.

ثمة، والحقّ يُقال، مادّة وفيرة بين أيديهم لممارسة ذلك الطراز من الحقد: لا تختصر مقالات الكتاب ثلاثة عقود من التأمّل النقدي ـ الثقافي المعمّق في تراث الإنسانية الموسيقي، كما صنعه أمثال بيتهوفن وفاغنر وبروكنر وروسيني وباخ وشتراوس وشومان وسترافنسكي وبرليوز وغلين غولد، فحسب؛ بل هي أيضاً فصول ذكية بارعة تناقش إشكالية العلاقة بين الموسيقى والصهيونية، وتحريم موسيقى فاغنر في دولة إسرائيل؛ زدْ على هذا أنّ قائد الأوركسترا الأرجنتيني اليهودي الشهير دانييل برينبويم ـ والرجل الذي تجاسر فخرق المحرّم، حين عزف مقطعاً من فاغنر في إسرائيل، صيف 1977 ـ هو الذي كتب مقدّمة ’عند حدود الموسيقى’!
ذلك لأنّ السجال يتجاوز الموسيقى إلى ما بعدها، وربما إلى ما بعد بعدها!
a


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى