الأربعاء ٢٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم هيثم خيري

ما نسيه القطار

وحيداً تمشى فوق ذرات الأسفلت. أسفلت رمسيس له طعم مختلف في شتاء البلد. تنظر إلى الرصيف، تحسده على صبره الجم، وتقديسه لملازمة الأسفلت ـ رغم برودته.

قدماك تسيران على غير هدى، تراقب الخلق القليلة ـ أنت منهم مراقب أيضاً. تنظرون إلى بعضكم بريبة لا تخفى حب استطلاعها.
بعد حين تسأل رجلاً عن الساعة، يتوقف، يعرف أنك تسأله عن الوقت لمجرد الإحساس بالونس، تعرف أيضاً أنه يتمهل ويقف للشعور بذات الإحساس. كلاكما يتبادل كلمات مقتضبة، ثم تمضيان لحال سبيلكما.

لن تفتح المؤسسة أبوابها سوى في الثامنة صباحاً. تخمن أن عليك الانتظار ثلاث أو أربع ساعات على أقل تقدير.
تفكر في الاحتماء بمقهى، لوكاندة، غرزة موقف، غير أنك تعرف جيداً أنك تضحك على نفسك. تنتظر.. فقط تنتظر.
يدك المعروقة ـ رغم البرد ـ تنفرجان في بهجة مصطنعة، تقف قليلاً في محطة ميكروباص، كأنك بانتظار سيارة تنقلك لبيتك، كأنك تمتلك بيتاً وأسرة. تسرع من خطواتك، كأن أسرة تنتظرك، كأن أمك متلهفة عليك.

بعد حين آخر تتجه ناحية الحاج أحمد بتاع الفطير، قبل أن تحييه ترتكن على الحجر المفضل لديك، الذي صار يعرفك ويألفك أكثر من خلق الله. تطلب إلي عم أحمد الفطيرة.

مثل كل يوم تطلب إليه أن يقطعها إلى قطع صغيرة، وأن يتوصى باللبن ويزيد السكر.

تحب أن أسمع منه أي شيء، حتى سعاله، يذكرك بأن هناك أناساً ناموا واستيقظوا، ولايزال النعاس يغلف حناجرهم.
تلتهم الفطيرة على مهل، تبدأ بالقطع الناشفة، ثم تدخل إلى عمقها، تنظر إلى الشارع وتعاود الالتهام بتلكؤ بادٍ، ترغي مع زبون آخر في أي شيء، من باب ألا يتوقف حلقك عن الكلام، فتظن ـ بعد سماع صوتك ـ أنك كنت نائماً.

تتلكأ في غسل يدك، شرب مياه ملوثة، إخراج نصف الجنيه قبل الأخير من جيبك، تبادل التحيات مع زبائن صرت تعرفهم.
الآن يمكنك الدخول إلى محطة قطار رمسيس ـ بمعدة نصف ممتلئة فطير ومياه ملوثة. تجلس على إحدى المحطات، تنظر ـ مشغوفاً ـ إلى القطارات الآتية، كلها تنظر إليها، من الصعيد، الوجه البحري، الدلتا.. أي قطار والسلام. تتفحص كل قطار جيداً، كأن موت أبيك في بلاد الغربة سينمحي، كأنه سيخرج من القطار وتلقنه الشهادتين!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى