الخميس ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢١
بقلم حسن عبادي

متنفَّس عبرَ القضبان (44)

بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ من عتمة الزنازين يرسم الوطن قوس قزح... هم في زنازينهم أكثر حريّة من الطلقاء ذوي النفوس الذليلة ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛

"طيبول شورش"

زرت صباح الأربعاء 01.12.2021 سجن عسقلان، والتقيت بدايةُ بالأسير شادي غالب محمد أبو شخدم، أزاح الكمّامة الكورونيّة لتنكشف ابتسامة عريضة رغم سنوات الأسر الطويلة (منذ 13.04.2002).

شكا لي انعدام الظروف الصحيّة الملائمة داخل الأسر ممّا يزيد مخاوفهم وقلقهم، في سجن عسقلان 33 أسيرًاـ غالبيّتهم العظمى مرضى؛ 4 مصابون بالسرطان، 5 يعانون من أمراض في القلب وحمادة أعمى ورجله مقطوعة، يعانون من الإهمال الطبّي والموت البطيء. ظاهرة الإهمال الطبي تجاه الأسرى الفلسطينيّين أودت بحياة عدد كبير منهم، وما زالت تهدّد حيوات المئات، وسلطة السجون تضرب بعرض الحائط القانون الدولي.
حدّثني بحسرة عن وضع الحركة الأسيرة والإمارات، الوظيفة تُغيّر، ومعيار تعيين الأمير ومختَرته هو "قدّيش خانع/عبد/طائع لأسياده"، درس في الأسر وحصل على البكالوريوس في الاجتماعيات، وينتظر رضا أمير هداريم ليكمل دراسة الماجستير.

تحدّثنا عن مؤتمر التحالف الأوروبي لنصرة أسرى فلسطين وأهميّة بحث المضوع الصحّي، الموضوع القضائي، القمعة والأهم من ذلك "طيبول شورش" ("علاج جذري"، فجأة تقتحم الوحدات الخاصّة في مصلحة السجون القسم وتفرّغه من الأسرى وتُخرجهم خارج الغرف، دون السماح لهم بأخذ أيّة غرض من أغراضهم، وتنقلهم بالبوسطة لسجن آخر لعدّة أيّام بحجّة تفتيش القسم، وهذا أقسى أنواع التعذيب، عقيم دون مسبّب).
حدّثني عن كتاباته، ثمن الحريّة في الثورات العربية، وأزمة المحاربة الثقافيّة ومنع إدخال الكتب التعليميّة.
رغم الألم والأسى، عيناه تشعّان إرادةً وإصرارًا.

"ملّود ووئيد"

التقيت الأسير وليد دقّة مباشرة بعد لقائي بشادي، وحين وصل غرفة الانتظار شاهدته يمرّ بتفتيش آخر استمر عدّة دقائق ممّا أضحكني، فشرّ البليّة ما يضحك، وبعدها أمر السجّان بالابتعاد، فليس من حقّه أن يوجد في اللقاء رغم صلاحيّته بأن يكون على مرمى البصر.

حدثّني بدايةُ عن رحلة نقله من الجلبوع، ما مرّ به بـ"المعبار" وصوّر لي وهو يرقص جوابه للأسير الجديد الذي سأله إن مرّت الستّة وثلاثين عامًا بلمح البصر فأجابه أنّ كلّ يوم في الأسر دهر كامل.

وصف لي شعوره حين يلتقي بملّود (ميلاده التي تكبر أمام عينيه)، وكيف تدلّعه "وئيد" فيحذّرها ساخرًا بأن السجّان سينقضّ عليها حاسبها تحمل معا الوئيد (القنّب الهندي) المخدّر! وسخريته السوداويّة ملازمة كلّ الوقت فصارت بنيويّة.

حدّثته مطوّلًا عن الملّف الذي صدر عنه في الإعلام الجزائري ووعدته بنسخة منه، وكذلك عن الندوة حول "حكاية سرّ الزيت" ضمن مبادرة أسرى يكتبون في رابطة الكتّاب الأردنيّين ومداخلات فهيمة غنايم، مصطفى عبد الفتاح، الأسير حسام شاهين وآخرون.

تحدّثنا عن "حكاية سرّ السيف" الصادرة عن مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعي، مشروعه الكتابي/ الثقافي ومحاولة كتابة ما يشبه "السيرة الذاتيّة" بمواكبة د. عبد الرحيم الشيخ والرياحين والمورفولوجيا وما بينهما، ومسرحيّة "الشهداء يعودون إلى رام الله" التي ما زالت تنتظر فصلها الأخير الذي لم ينجزه بعد ولازمتها: "تمهّلوا تمهّلوا، الموت هذا مش إلو".

مرّ الوقت سريعًا، واختزلنا اللقاء للاطمئنان على "المواطن" المعزول.

"حيويّة رغم العزل"

بعد لقائي بشادي ووليد، أطلّ من العزل الانفرادي الأسير أيمن ربحي مصطفى الشرباتي وحين رآني تفاجأ وبدأ ينشد "نورك بدّد عتمة السجن"، بدل أن أطمئن عليه راح يسألني عن زوجتي سميرة، بناتي وأحفادي.
تم عزل أيمن ومنعه من التواصل مع زملاء الأسر والعالم الخارجي منذ احتجاجه على استشهاد الأسير سامي العمّور الذي قتل بدم بارد نتاج الإهمال الطبي الواضح والفاضح، مكث 15 ساعة في "البوسطة" اللعينة في طريقه من نفحة إلى عسقلان، مكبّلًا ويحتضر ليموت عدّة ساعات بُعيد وصوله... وكلّنا، والعالم أيضًا، صامتون صمت أهل القبور.

حدّثته بدوري عمّا تقوم به مريم من نشاط مع طلّاب المدارس، عن حملة التأييد الجارفة له، عن البرنامج التلفزيوني حول مبادرات الأسرى والمدارس، ونجاحات مبادرات "شدّ الرحال".

حدّثني بحرقة عن الترهّل الداخلي في السجون الذي بات مأساويًا، وعن ضرورة العمل لإبطال عزل موسى صوفان.

وعدته بترتيب ندوة قريبة في الخليل لإصداره "أسرى وحكايات"، متابعة برامجه لإحياء البلدة القديمة في الخليل، تلحين وغناء أشعاره المغنّاة والتشبيك بين نضال الطنطورة وعماد من أجل عرض عروض مسرحيّة للأولاد في البلدة القديمة.

وجدته يشعّ حيويّة ونشاطًا رغم العزل الذي لم يكسر شوكته ولم ينل من عزيمته وإصراره على تكملة المسيرة.

طلب مني أن أطمئن زملائه في الأسر وأفراد عائلته وكلّ من يهتمّ بأمره، قائلًا: أنا بخير ما دمتم بخير.
لكم أعزائي: شادي، وليد، أيمن، أحلى التحيّات، الحريّة لكُمّ ولجميع رفاق دربكُم الأحرار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى