السبت ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم بسام الهلسة

محمد علي باشا... الإقليـم والقيــادة

شأن معظم القادة ذوي الطموح الذين تولوا حكم مصر فسعوا إلى تعزيز استقلالها ومدِّ نفوذها نحو الأقاليم المجاورة، حالما يستشعرون ضعف السلطة المركزية، فعل (محمد علي باشا) الذي وفد إلى مصر ضمن كتيبة عسكرية أرسلها (الباب العالي) العثماني للمساهمة في الدفاع عن مصر ضد حملة (نابليون)، فاستخدم ذكاءه للإفادة من الظروف المضطربة، وتناقضات القوى المتعددة المتصارعة في مصر وعليها: (الفرنسيين، الإنكليز، العثمانيين، المماليك)، وتحالف مع الأهالي الناقمين على الجميع، ليعزز مكانته ويفوز بولاية مصر في مستهل القرن التاسع عشر للميلاد.

لكن منصب الولاية لم يكن ليرضي (الآغا) الآتي من البانيا إلى مصر: الإقليم الكبير الخصب، ذي الثقل السكاني، والموارد الغنية، والموقع الجغرافي الاستراتيجي المميز الذي نشأت فيه واحدة من أوائل وأهم الحضارات والدول القوية التي عرفتها البشرية، والتي استمرت لآلاف السنين قبل أن تفقد استقلالها على يد الغزاة الفرس قرب منتصف الألف الأولى للميلاد.

فحدث تلاقٍ للمطامح الشخصية لـ(محمد علي باشا) المولود في العام (1769م) ببناء دولة مستقلة قوية, مع مقومات ومزايا الإقليم الذي يوفر لمن يحكمه الشروط والإمكانيات اللازمة لبناء قاعدة قوية، ويغريه بالتطلع للتأثير الفعّال في الأقاليم المحيطة أو حتى قيادتها، وهو ما استجاب له (محمد علي) ودفعه إلى المدى الذي يطيقه ذلك الوقت.

وكان عليه أن يبدأ بتوطيد مركزه ببناء جيشه الخاص ليتمكن -بعد خروج الفرنسيين وصد الإنجليز- من التخلص من منافسيه المزعجين: (المماليك) الذين ظل نفوذهم في مصر قوياً رغم هزيمتهم والإطاحة بدولتهم على أيدي الأتراك العثمانيين في مطلع القرن السادس عشر. وقد أنجز هذه المهمة في المذبحة التي أوقعها بهم في العام (1811م) واشتهرت باسم "مذبحة القلعة"، حينما دعاهم لحضور عرض القوات المتوجهة إلى الجزيرة العربية لمحاربة الدولة السعودية الأولى (1744-1818م)، التي زعزعت قوتها المتنامية مكانة وسمعة الباب العالي. وإذ صارت الطريق أمامه ممهدة، فقد شرع في تحقيق المهمة الصعبة المتمثلة ببناء جيش وإدارة حديثين –مع كل ما يلزمهما- قادرين على حمل وتلبية المطامح الاستقلالية من جهة، والاستجابة لشروط العصر وتحديات القوى الطامعة بمصر من جهة ثانية.

ورغم أنه لم يتلق تعليماً دراسياً منتظماً، فقد كان واعياً بتخلف أحوال المسلمين على كل الصعد، وتخبطهم في دياجير القرون الوسطى، ومطَّلعاً على التفوّق الإداري والتنظيمي والعلمي والتقني لأوروبة التي كانت قد صفَّت ميراث القرون الوسطى خلال عصر النهضة (يؤرخ له بسقوط القسطنطينية -1453م)، ثم تجاوزت النهضة منتقلة إلى عصر الحداثة الذي يؤرخ له البعض بقيام جمهورية "كرومويل" في منتصف القرن السابع عشر، أو "الثورة المجيدة" في بريطانية في العام (1688م).

هذا الوعي والاطلاع المبني على معاينة وقائع تردي الإمبراطورية العثمانية وتقهقرها المضطرد أمام أوروبة، قاد الوالي المعجب بتجربتي: "بطرس العظيم" في "روسيا"، و"فريدريك الكبير" في "بروسيا"، إلى إدارك وعمل ما أدركاه وعملاه في بلديهما قبله: الحداثة هي شرط النهوض والقوة. والقوة هي أداة التمكين والاستقلال والنفوذ.

ولما لم تكن العناصر المحلية مؤهلة للنهوض بهذه المهام، بسبب العهود المديدة من الإقصاء عن الشؤون العامة، وبسبب التخلف الشديد للإدارة والتعليم والاقتصاد، فقد باشر إيفاد بعثات دراسية إلى فرنسا لمعرفة العلوم والتقنيات والنظم الحديثة، ليفيد منها في إصلاح وتطوير أوضاع مصر خصوصاً في مجالات: التعليم والجيش والإدارة والاقتصاد والصناعة. وإلى جانب البعثات التعليمية التي تولت إنشاء المدارس والمعاهد المختلفة في مصر عند عودتها، قام باستقدام المستشارين الذين أعانوه في المجالات المذكورة، خصوصاً الضباط والمهندسين والأطباء والمترجمين الفرنسيين الذين رحبوا بالعمل معه بعدما سقطت إمبراطورية "نابليون" في العام 1815م.

وخلال سنوات كان لدى مصر ما يؤهلها لتكون دولة ناهضة حديثة قوية تتطلع للمقارنة بالدول المتقدمة، وهو ما وظّفه "محمد علي باشا" لخدمة مطامحه، منتهزاً ضعف الدولة العثمانية التي قدم لها خدماته (متظاهرا بالعمل كتابع مخلص) ضد الدولة السعودية الأولى, وضد الثورة اليونانية. وحين لم يكافئه الباب العالي، تذرع بلجوء الفلاحين المصريين الفارين من عسفه وتسخيره لهم إلى بلاد الشام, فاجتاحها جيشه بقيادة ابنه "إبراهيم باشا" في مطلع العقد الرابع من القرن التاسع عشر، مواصلاً زحفه المظفر شمالاً. ولم يصده عن التقدم نحو قلب الإمبراطورية العثمانية التي الحق الهزيمة بجيوشها في معارك متلاحقة, سوى تدخل الدول الأوروبية (روسيا، بريطانيا، النمسا) التي خشيت سقوط رجلها المريض (الدولة العثمانية) وقيام دولة قوية حديثة في مصر والشام قادرة على صد مطامعها، فتحالفت مع "الباب العالي" وجابهت جيش "محمد علي" ودحرته من الشام في العام (1840م)، ثم أمْلَت عليه شروطها المقيدة والمقلصة لمكانة وقدرات مصر وحدودها ودورها، فانتهت بذلك أهم محاولة في العصر الحديث لبناء دولة موحدة قوية وحديثة في قلب البلاد العربية.

حكمت هزيمة العام (1840م) إذن, بالموت على آمال "محمد علي" وتطلعاته في محيط مصر، أما خلفاؤه الذين تولوا مصر من بعده وتوارثوها كغنيمة خالصة لأسرتهم، فقد بددوا كل ما عمل لأجله: الحداثة والاستقلال والقوة والنفوذ، وصولاً إلى التفريط بمصر نفسها التي تعيَّن عليها أن تدفع ثمن عبثهم وتبذيرهم وعجزهم فسقطت تحت الاحتلال البريطاني في العام 1882م.

وكما هي حال المجددين الطموحين الذين يريدون اختزال الزمن وتكثيفه للحاق بالدول المتقدمة، فقد اتخذت إجراءات "محمد علي" طابعاً استبدادياً تعسفياً واجه نفور ومقاومة الأهالي في مصر، والسودان، والجزيرة العربية، والشام. فتقويض عالم القرون الوسطى بمؤسساته ومداركه وأنماط حياته المألوفة المتوارثة، وبناء دولة حديثة موحدة، لم يمر دون آلامٍ مبرحة، ودون ردود مضادة من عناصر وقوى العالم القديم التي أوذيت في مصالحها ومواقعها وأساليب عيشها.

وقد تضافر هذا العامل الداخلي (مقاومة القوى المحلية لدواعٍ شتى) مع العامل الخارجي: التدخل المسلح للقوى الأوروبية الطامعة بالمنطقة الذي كان حاسماً في وأد تجربة "محمد علي باشا" التحريرية التجديدية التوحيدية.

في العام 1849م رحل "محمد علي باشا" مؤسس مصر الحديثة، لكن المهمات التي نهض للقيام بها لم تزل باقية.. مهمات: التحرر وتصفية التبعية وصد المعتدين، وتكامل وتوحيد الأقاليم العربية التي لا يمكن لها بدونهما أن تكون أمة ذات شأن في عصر العولمة والتكتلات الإقليمية والقارية الكبرى. ومهمات استيعاب وتطوير تعليم عصري، وبناء اقتصاد وصناعة قومية قادرة على تلبية احتياجات الأمة. ومهمات تجديد وعصرنة مؤسسات وهيئات الدولة والمجتمع المدنية والعسكرية المدعوّة للذود عن الأمة والبلاد، والارتقاء بهما إلى مستوى حضاري متقدم.

ولئن كان "محمد علي باشا" قد قام بهذه المهمات بأساليب قهرية فوقية، مما خلق شعوراً بالاغتراب لدى المصريين والعرب تجاه الدولة التي بناها، وتجاه أسرته التي تصرفت كأسرة أجنبية متغلبة غاصب(حتى انهت ثورة تموز- يوليو 1952م حكمها), فإن المشاركة الشعبية والديمقراطية هما الشرطان الضروريان اللازمان لتحقيق هذه المهمات في عصرنا.

وبدل انتظار الخلاص "الحداثي" من "الأجانب" الجدد -وعلى رأسهم الولايات المتحدة-، ينبغي أن يتولى أبناء وبنات الأمة بأنفسهم عبء العمل لتحقيق هذه المهمات.

ولسوف يكون على القطر المصري -كإقليم قاعدة مركزي محوري- أن يستعيد روحه، وأن يستجيب مجدداً لما أعدته ونذرته له الجغرافية والتاريخ والهوية من مكانة ودور وتطلعات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى