السبت ٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢١
بقلم رشيد سكري

مدينة و أدب

لا حديث عن مدينة هجرها المبدعون، ولا خير في إبداع، شعرا كان أو نثرا، يظل بعيدا كل البعد عن الحياة والعيش والكتابة. ولا علاقة للخيال الأدبي دون ارتباطه بالمكان سواء كان مدينة أو قرية أو مسقط الصرخة الأولى، بما هو ـ أي المكان ـ ملهم روحي وحقيقي لأريج الإبداع. هل المدينة للشعراء أم للروائيين والقصاصين؟ وكيف أصبحت المدينة تتنفس عطر الكتابة الساخن؟ وأخيرا، من أين يستمد الكاتب والشاعر طاقاته الإبداعية، لتصبح المدينة موضوعا هدارا بالأدب؟

المدينة في الأدب تعني التعدد، لأنها زاخرة بثقافات وعادات، تعكس فسيفساء روح الإبداع. ففضلا عن ارتباط الكتاب والأدباء بالمكان، إلا أن المدينة، كمفهوم، تنزلق وراء إيحاءات تعبيرية ورمزية شديدة الارتباط بعوالم فوقية أو سفلية للأدب. فهناك من ربطها بالحرية و العصرنة والتقدم، وهناك من جعلها مأوى للمهمشين والمضطهدين والمطرودين من المجتمع، بل هناك من ربطها بالسجن والأصفاد والمحاكمات غير العادلة، في حين نجدها أيضا مقبرة لأحلام وردية.

من بين الأمكنة الساحرة، والمرتبة ضمن قائمة أسطورة الحكايات العجيبة، الطافحة والمسجورة بالخيال المسحور، نجد مدن ألف ليلة وليلة المتراوحة بين دمشق وبغداد، مدينتا المرح والغناء والرقص. بينما البصرة والقاهرة مدينتا السطوة الثقافية والمعرفية، حيث تعجان بالحكايات المرحة عن الشطارية والمشعوذين والحيل والمكر والخداع الكائن بين الباعة والمشترين في الأسواق والساحات العمومية، بما هي تدنو شديدا من مدن المقامات، عند الهمذاني والحريري، في التراث العربي القديم.

بيـْد أننا نجد، في هذا المقام، مدنا أخرى ارتبطت في تاريخ الأدب بكتاب عالميين مشهورين، فبقدر ما ذاع صيتهم الأدبي، بقدر ما فاح عبير عطر مدنهم وقراهم التي ترددوا عليها. فلسفيا، كانت مدينة أفلاطون الفاضلة منبعا لا ينضب له معين من الحكمة، في حين نجد سانت بترسبورغ مدينة الحلم، التي احتضنت أهم روائع فيودور دوستويفسكي"الجريمة والعقاب". وعلى غرار ذلك، فبين عزبة ياسيانا بوليانا ومدينة كازان على ضفاف الفولكا، كانت الهجرة التي تخلى بموجبها ليو تولستوي، عن جذوره وتاريخه الفكري والنضالي لصالح الفقراء والمعوزين. فكان كتابه"السيد والخادم"تتويجا مستحقا لمسار طويل من الإبداع، حيث حلت المملكة بزخمها المعرفي وتساؤلات تستعصي عن الحل، من قبيل : كيف يعرف الوقت المناسب لكل عمل؟ فلولا المدينة، باختلاف حرفها ونشاطاتها المهنية، لما تمكن الملك من الحصول على جواب شاف، حيث اختلف على مجلسه وجهاء ومهنيون، أطباء وجنود وسحرة وقساوسة وحكماء وغيرهم... ليقرعوا له الخبر اليقين.

في عالم الخيال والجنون عنت من وراء غيم كثيف في"الورق الجاف"اسم"ماكوندو"، القرية التي ألهمت غابرييل غارسيا ماركيز في"مئة عام من العزلة"، بل تعدت كل أعراف الإبداع، واستوطنت جُل أعماله القصصية والروائية. يقول في الرواية"كانت ماكوندو يومئذ قرية من حوالي عشرين بيتا من الغضار والقصب، بنيت على حافة جدول ينساب ماؤه الشفاف في مجرى حجارة ملساء بيضاء كبيرة كبيض من قبل التاريخ". في هذا المقام المجلل بالعظمة، كان البحث جار عن أصول هذا الإلهام النازل، كالبرق، من السماء إلى الأرض، والذي ارتبط بإبداعات ماركيز. فمن النقاد من يربط اسم ماكوندو بمجاهل كولومبيا ومساحيقها البراقة، ومنهم من سافر بها في عوالم الفكر والثقافة، واعتبر ماكوندو حالة من الحقيقة الفكرية.

في الأدب المغربي، عندما كنت أعيد قراءة رواية"المعلم علي"لعبد الكريم غلاب، أجد نفسي أتمرغ في تراب مدينة فاس، بل أتنفس لظى لهيبها الساخن، وهي تلملم أثوابها القديمة، وصناعاتها التقليدية العتيقة. فاس بوجلود، ودار الدبغ تواصل حميمي بين الكاتب والأمكنة، يقول غلاب :"وقف علي سطح دار الدبغ تحت شمس صيف فاس المحرقة ينتشر الجلود على بلاط السطح. قوى قدميه لفح الشمس بناره فلم يسعه أن يضع قدميه على الأرض...".

بناء فاس، من بناء التاريخ والحضارة التي عمرت قرونا من العطاء الفكري والديني، ومحجا حقيقيا لطلبة العلم والحديث. وبذلك، لا تغدو أن تكون فاس مدخلا لإحياء التراث الديني والشعبي فحسب، وإنما إشعاع روحي يخترق كل أطياف عبر التاريخ الإنساني. ويأتي موسم"مولاي إدريس"ليوطد هذه العلاقة التي تربط بين الإنسان والمكان. في هذا التساكن الحميمي تحافظ، من خلاله، فاس على أصالتها وعاداتها وتقاليدها، وذلك عبر نقل هذه الأصوليات إلى الأجيال القادمة، من أجل خلق هوية متمنعة وصلبة أمام عوادي الزمان. كما أن للصناعة التقليدية في فاس حلما يضاهي باقي الصناعات العتيقة التي تغزو العالم، وتجيء المحافظة على التراث، القفطان الفاسي والشربيل والحناء الفاسية، علاوة على أيقونة الزليج والرخام، كدليل قوة ألهمت العديد من الشعراء المغاربة، وفي مقدمتهم الشاعر المغربي محمد بنيس.

من بين المدن الأخرى المغربية، التي صنعت أسطورتها من داخل الأجناس الأدبية، نجد طنجة فجسدها من جسد الكاتب العالمي محمد شكري، علاوة على تينسي وليامز وبول بولز و كابوتي. بينما تطوان تلك الحمامة البيضاء القابعة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ارتبطت بالأديب المغربي الكبير المرحوم محمد أنقار من خلال عمله الرائد"المصري"و القاص محمد الخضير الريسوني من خلال مجاميعه القصصية"أفراح ودموع"و"ربيع الحياة"وغيرها من القصص المنشورة في الصحف الوطنية، والتي تلهج كلها بالحياة التطوانية.

فمن الواضح أن محمد أنقار، في رواية"المصري"، كان فنانا تشكيليا بكل المقاييس في تأثيث ورسم فضاءات تطوان، والتي راوحها بين مدينة العيون والزوايا والمساجد والأبواب السبعة، لينتصر من خلال بطل الرواية أحمد الساحلي، إلى التقسيم الرباعي للمدينة، وهو : حومة البلد، والطرانكات، والسويقة والعيون. بما هي أفضية تحافظ على عتاقة المدينة، وعلى جذورها التاريخية الضاربة في عمق الأندلس.

وحتى لا يبقى المكان بدون أصول وبدون هوية، يفاجئنا الروائي والشاعر محمد الأشعري برواية"جنوب الروح"ليبحث في الوجوه والعابرين والموتى والمقابر والحيطان عن مدينة زرهون. من خلال الجد الأكبر محمد الفرسيوي، وحكاياته في الحلقة.

من خلال هذا العرض البسيط للمدينة، وعلاقتها بالأجناس الأدبية، يتضح أنه موضوع شاسع الأطراف ومتشبع الزوايا. فحيثما وجد السرد إلا وكان الفضاء ضمن القوى الفاعلة في النص، بل يستطيع أن يفعل الكثير بحميميته، وعلاقته الروحانية بالشخوص التي تتردد عليه. فأيا كان موضوع الإبداع فإن للفضاء سطوة يعكس الرؤى والأحلام، بل يساعد، أيضا، على إضاءة جوانب من شخصيات النص.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى