الأربعاء ٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦

مفلح طبعوني في ديوانه «نزيف الظلال»

عزيز العصا

مفلح طبعوني؛ شاعر وسياسي وناشط اجتماعي، فلسطيني الهوى والهوية، نصراوي المولد والنشأة، نزل سوح الوغى بلا رهبة من أحد، كتب النثر والشعر، فأعلنها ثورة على الظلم والظالمين، الذي اغتصبوا المكان والزمان، فاستباحوا كرامة شعبه وجعلوا تاريخه رماد تذروه الرياح. ونحن اليوم مع "مفلح-الشاعر"، فقد أصدر ثلاثة دواوين، هي: قصائد معتقة، وعطايا العناق ونزيف الظلال. ويلاحظ من عناوين دوواينه الشعرية أن فيه خروجاً عن التقليد وثورة عليه، كما أن في كل منها ما يجعلك تسارع إلى مطالعته وقراءته بتمعن، لكي تنهل منه ما لم تجده عند الآخرين.

أما الديوان الذي نحن بصدده، فهو "نزيف الظلال"؛ الصادر عن دار الماجد برام الله، ويقع في (126) صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها ثلاث عشرة قصيدة، تبدأ بعنوان "بعث أبيد" وتنتهي بـ "اعتكاف". وما بين هذين العنوانين تربض قصائد "مفلح طبعوني"، التي تحمل نكهات مختلفة، ومذاقات مختلفة، إلا أنها تجتمع معًا لتنجب "الظلال" التي تنزف غضبًا وحنقًا، فيثور على "التخمة العمياء"، ويستحضر توفيق زياد، ليحاوره ويناجي الرفيقة المناضلة "أم باسل" ميسَّر عاقلة. ولم "يعتكف" "مفلح طبعوني" قبل أن يكشف الزيف المختبئ خلف الأقنعة الدينية والاجتماعية، ثم يعتكف "في غياهب النفْس// التي تعانق النفس// بعيدًا عن متاهاتِ مقاعد القشِّ".

لقد وجدت هذا الديوان، توثيقياً بالدرجة الأولى؛ ففي كل قصيدة من قصائده تجد تسجيلًا لحادثة أو واقعة، أو ذكرى تمر أمام ناظري الشاعر كحلم سريع، سرعان من ينقشع. وقبل أن ينقشع، تجد "مفلح طبعوني" وقد وثّقه و/أو وثّق له، بكلمات مغناة راقصة، تجعله في جوهر الذاكرة الإنسانية.

يمكن للقارئ، بجلسة هادئة في ظلال "مفلح طبعوني"، لا تخلو من قاموس لغوي؛ يستعين به كلما احتاج التمعن في كلمة ما، أن يحتسي أشعاره الجميلة, ليستنبط مجموعة مرتكزات ومحاور رئيسية، تتكئ عليها، منها:

أولاً: استحضار الوطن الأم:

ففي قصيدته الأولى "بعثٌ أبيدْ" في العام 2012"، التي تعني الديمومة والسرمدية، يبدي "شاعرنا-طبعوني" حنقه من عودة الأيام "مع حروفِ الأبجديَّةْ// ولغات أجنبية// تسكُنُ الأوجاع أكباد الحنين"؛ في إشارة إلى الاحتلال الجاثم على صدر الوطن. ثم ينتقل إلى حيفا "كي (يصلّي) عند أمواج العائدينا"، لينتهي أمره متصومعًا داخل "الحلم الجميل"، وهناك تتصاعد مطالبه وأمنياته ليطلب "تعميده" بـ "ينابيع الفراتِ// مع رموش الصادقات".

في قصيدته "دمشق"، التي كتبها في أجواء "حرب تشرين في العام 1973"، يرى "شاعرنا-طبعوني" بأن دمشق "جميلة لا تنكر الماضي// ولا تفتح، معابدها لكفار// ولا تغدر بعاشقها"، ويستبشر بالمستقبل: "فبعد الشوك أزهارُ// وبعد الحزن أفراحُ// وبعد الموت ميلادُ". وفي قصيدته الطويلة "تكامل الفوضى في العام 2009" يغني لفلسطين الوطن، التي ترنو إلى أبواب الشام، وطاقات الأهرامات، وشبابيك الإمارات، وذلك في إشارة منه إلى أنها جزء من أمة واحدة.
إلا أنه يأخذه الحزن والغضب، حين يقول: "بأننا لسنا// كباقي الشعوب// نملك وطنًا واحدًا بل أوطان// كوطن المليون شهيد// واليمن السعيد". ثم يخرج من أجواء الإحباط، فيشير إلى أن الشعب الفلسطيني يرفض الضيم والجوْر، بقوله: "عندنا أقواس نشّابٍ// نقاتل بها الأعداء// (...)// وعندنا كلّيات تعلّمُ فنونَ القتال"، مبقيًا على المرارة في الحلق من خذلان الأمة، بقوله: "عندما يفوت الأوان// وتصلب على الحائط// أو تذبح على العتبة// لن يتدخل أحد لإنقاذك// سينام الجميع".
وفي قصيدة "وإذا في مطلع العام 2013"، يجدد "مفلح طبعوني" تمسكه بالوطن، بقوله: "وطني رغم الجراح// أنت للكون خلود". كما يحث الرفاق على المزيد من النضال والتضحيات، بقوله: "وتعالوا يا رفاقي// نهدم الدنيا على رأس الخراب// وعلى وكر الذئاب// ثم نبني من جديد"، وينهي بحكمة تبث الأمل في الأجيال القادمة: "من يرى أفق المنارة// سوف يبقى ويسود".

ثانيًا: استحضار الرفاق القدامى:

لم يأخذني الألم والوجع في هذا الديوان بقدر ما كان في قصيدة "الغائب الحاضر في العام 1995"، وهي شبه ملحمة "يتوجّد" فيها على رفيق دربه الراحل "توفيق زيّاد"، حيث تتكثّف اللغة في بضع كلمات، يلوكها الشاعر بألمٍ وحزن شديدين، تعبر عن حجم الخسارة التي منيت بها فلسطين بفقدانه؛ فتفتقده أيام فلسطين ومناسباتها: "في الأول من أيَّارَ// في يوم الأرض// صبرا وشاتيلا"، ويفتقده أطفال فلسطين، والنصراويّات، ومرج بن عامر، ويذكّرنا بقصيدة "قطعن النصراويات مرج ابن عامر"، التي يغنيها الثلاثي جبران وغيرهم. ثم يستحضر من أحبّهم توفيق زيّاد: بابْلو نِرودا، وناظم حكمت، والشيخ إمام"، ثم يعدد مناقبه، بالقول: "ويقال بأنك حققت كثيرا// من مجد الفقراء// الكادحين// وأبدعت كثيرا وكثيرا".

وفي قصيدة "رفيقة درب في أواخر العام 2012" يستحضر نضالات الرفيقة المناضلة "ميسر عاقلة طنوس" التي "نظمت الخلايا بالحصاة// ونقشت المجد في أرض الكفاح"، ثم يجدد العهد بالإصرار على مواصلة درب الكفاح الطويل، بقوله: "يا رفاقي// إننا أقوى من الموت// مع نساء طيبات// آه ما أحلى الحياة// مع رفاق أوفياء// آه ما أحلى الحياة مع رفيقات النّقاء".

وفي "صور من تلاوين القدر كتبها في شباط/ 2013"، يستحضر الكادح حسن عميري، وينشئ معه حوارًا جميلًا، يستذكر فيه ماضٍ جميل، قضياه معًا في مواجهة الاحتلال الذي انقضّ على الوطن بكل تفاصيله الحضارية والعمرانية والتاريخية والجمالية، ويصف حسن بـ "أنت أيوب الأبد// وائل معك نزف// وأخوه ضاع "في لمح البصر"// بين موتٍ وكمد". وفي ذلك توثيق رائع لمعاناة الشعب الفلسطيني، بخاصة شريحة الكادحين التي يمثلها حسن. وينهي بالتحسّر على حسن، الذي سيبقى حاضرًا كما بقي توفيق زياد: "آهِ ما مات حسن// وإذا غاب سيبقى حاضرًا مع مزامير الوطن// مثل حيفا// ظل كالشمس حسن".

ثالثًا: المرأة حاضرة، وتحتل مكانتها في "نزف الظلال":

يسجل لشاعرنا "مفلح طبعوني" في ديوانه هذا، أن المرأة اصطفت إلى جانب الرجل، فدعمته وأسندته وشراكته، كما في قصيدة "صور من تلاوين القدر"، التي يحاور فيها رفيقه حسن، فيقول: "أم ناصر// صبرت صبر الخدر// وأعادتك إلى الحبِّ الندي// رغم أحوال المحن". كما يذكر الدور القيادي للمرأة الفلسطينية في مواجهة المحن، كما في حال الرفيقة "أم باسل" الموصوفة أعلاه. إلا أنه يعود ليمنح شريحة من النساء أدوارًا أخرى ليست ذات شأن، كقوله في قصيدة "غدا العيد" في العام 2005": "والمرأة التي تستلقي// في المقعد الأخير// تداعب شيئا ما// على أنغام رجب// وكنتها المدرسة// تنتظر بين رفوف المكتبة// مفتش المعارف// لمتابعة البرنامج الدراسي الجديد// بعد عطلة العيد".

رابعًا: أزهار فلسطين وأشجارها حاضرة بقوة:

كما يُسجل لشاعرنا "مفلح طبعوني" في ديوانه هذا، تعلقه بتفاصيل الوطن؛ فقد وصف جمالياته، ومزروعاته، كالتوت، والزيتون، والقمح والسنابل، والنخيل، والعوسج، والياسمين، والحبق، زهر الرمان، اللوز، والحناء، والزعتر، وخيراته التي حباه الله بها. كما أن "طبعوني" تجول في بعض مدن فلسطين وفي صحراء النقب، حيث وظف ذلك في حواراته الشعرية المختلفة، كالقدس وأريحا وحيفا وبحرها، بما رسم للوطن من صورة بهية زاهية، القارئ للديوان يجول فيها بسهولة.

كلمة أخيرة،

لقد أمضيت بضع ساعات مع ديوان "نزيف الظلال" للشاعر "مفلح طبعوني"، الذي عرفته من خلال قصائده هذه أكثر من معرفتي الناجمة عن البحث والسؤال عنه، فقد وجدتُه شاعرًا-سياسيًا رهفًا شفيفًا؛ ينم عما يجول في داخله من أفكار ورؤى تتعلق بالصراع "الهوياتي" و"الوجودي" القائم على أرض فلسطين، والذي فتح عينيه عليه، منذ اللحظة الأولى التي منعته النكبة وحواجزها من أن يحبو خطواته الأولى.

نظرًا لأنه لكل قصيدة عنوان واضح يتحدث عن نفسه وعن محتوى القصيدة، ونظرًا لأن تلك القصائد الثلاثة عشرة ، تحمل تاريخ نظمها، فإن الشاعر يكون قد قرّب المسافات على القارئ، ووضع حدًا للحيرة التي قد تنتابه في فهم الرمزية الكامنة خلف النصوص، التي تحمل ملامح الأمل بمستقبل مشرق، إلى جانب ملامح الألم والوجع الناجمة عن محاولات المحو والنفي للهوية الوطنية الأصلانية.

وأخالني أتفق، إلى حد بعيد، مع الشاعر عبد الناصر صالح، الذي يقول في تقديمه لهذا الديوان: "إنه يستند إلى رواية فلسفية معينة، بعيدًا عن السرد التقليدي الذي أصبح الزمن مختلفًا به". ووفق هذه القاعدة، فإنني أتعاطف مع "شاعرنا-طبعوني"، الذي يوجه نقده اللاذع للمجتمع في قصيدته الأخيرة "الاعتكاف في العام 2013"، والتي يشبعها بأسئلة استراتيجية، لا بد من التوقف عندها، وتقييم الأداء، منها: "نركض بترفٍ معسّلٍ// حول مصائبنا"، وأما سؤاله الذي يختم به ديوانه هذا: ترى، ما معنى// أن لا يروقَ الشروقُ// لخيول الاختيال؟! أنا في اعتكاف... ما قام السؤال!"

إلى أن يجاب على هذا السؤال، وإلى أن يفك "شاعرنا-طبعوني" اعتكافه، لا يسعنا إلى أن نذكّر بأن واقعنا بحاجة ماسة إلى مراجعة موضوعية، وعلمية، وشفافة؛ لكي نضع الأمور في نصابها وننتصر على ضعفنا وجهلنا، ونستعيد حقوقنا التي سُلبت في غفلة من الجهل والفرقة والخيانة والتشتت والتشرذم.

عزيز العصا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى