الخميس ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٧

مفهوم «النقد الثقافي المقارن» عند عز الدين المناصرة

طارق بوحاله

قال (الدكتور علي خِذْري – جامعة باتنة، الجزائر) في (مؤتمر فيلادلفيا - عمان) بتاريخ (12/4/2017) ما يلي: (النقد الثقافي)، مصطلح روسي، ألماني، أوروأميركي – أما عند العرب، فأبرز أعلامه: الفلسطيني الأميركي ادوار سعيد (الإمبريالية والثقافة، 1992) – والفلسطيني عز الدين المناصرة (المدرسة السلافية، والمثاقفة، 1988) من زاوية المقارنة الثقافية –والسعودي عبد الله الغذامي (النقد الثقافي، 2000).– وفيما يلي هذا البحث – المقال للأستاذ (طارق بوحالة، الجزائر)، الذي أرسله إلى مؤتمر فيلادلفيا، لكن لم يتم تقديمه في المؤتمر (بسبب غياب الباحث)، رغم أن (اللجنة) أقرته بعد التعديل:

يعد الناقد والشاعر والأكاديمي الفلسطيني "عز الدين المناصرة" من الأسماء النقدية البارزة التي طبعت المشهد النقدي والفكري العربي المعاصر، وأنه وهب جل حياته للكتابة الشعرية والنقدية، وتدريس الأدب المقارن في جامعات عربية وعالمية، وهو مبتدع مصطلح (النقد الثقافي المقارن، 2004)، الذي وسَّع من خلاله النقد الثقافي العام. حصل على درجة الدكتوراه في النقد المقارن في جامعة صوفيا، 1981، وبالتالي هو ينتمي إلى (المدرسة السلافية).

وقد شغل نفسه بتقديم العديد من الدراسات في تخصص (النقد الثقافي المقارن)، إذ لا يمكن تجاوزها ونحن نتحدث عن تطور هذا التخصص في الوطن العربي، غير أنه انتقل في كتاباته الأخيرة (منذ 2004) إلى مجال يراه أوسع وهو النقد الثقافي المقارن، عبر ما أنجزه من دراسات لعل أبرزها: (المثاقفة والنقد المقارن، 1988) – وعلم التناص والتلاص – و(النقد الثقافي المقارن، 2005)، وله أيضاً كتاب (الهُويات والتعددية اللغوية)، وجميعها تقع في دائرة (النقد الثقافي المقارن).

لهذا تسعى هذه المقالة إلى مناقشة جملة من القضايا التي يمكن أن ترتبط بنشاط النقد الثقافي عند عز الدين المناصرة.

1. النقد الثقافي المقارن: نحو بديل منهجي للأدب المقارن

مرّ الأدب المقارن عبر مراحل تطوره بجملة من المحطات المفصلية والأساسية، التي عرف من خلالها متغيرات جذرية، ارتبطت في أغلبها بالتطورات الحاصلة في مجال الدراسات الأدبية من تاريخ ونظرية ونقد أدبيين. وكذلك بتطورات تاريخ الأفكار ومجلات المعرفة المختلفة. حيث ساهمت هذه الفروع بشكل أساسي في تشكيل اتجاهات الأدب المقارن ومناهجه ومفاهيمه المختلفة.

ومع بدايات هذا القرن الجديد ظهرت دعوات إلى نوع من الأدب المقارن الجديد .... وهذا ما بلوره ما حصل في المؤتمر الذي نظمته جامعة كاليفورنيا في إرفين البريطانية ما بين 22 و25 ماي 2005، والمقصود بالأدب المقارن الجديد هو النقد الثقافي الجديد هو النقد الثقافي المقارن الذي صار يتغذى من المرجعية التفكيكية والنقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونيالية ... (1). وكان (المناصرة) في العالم العربي، سبّاقاً إلى مصطلح (النقد الثقافي المقارن، 2004) في دراسته عن ادوارد سعيد عام 2004 في مجلة فصول المصرية. غير أنه استعمل هذا المصطلح (عملياً) منذ (1986) في محاضرته عن (المثاقفة والنقد المقارن) في مؤتمر الرابطة العربية في دمشق.

من خلال الدعوة إلى (نقد ثقافي مقارن) هناك دعوة أخرى مرافقة إلى انفتاحه على مناهج واستراتيجيات قرائية مختلفة، أبرزها التفكيك والنقد الثقافي، والدراسات ما بعد الكولونيالية، حيث سبق هذا الانفتاح غير المنهجي انفتاح آخر مرتبط بمفهوم الأدب ووظائفيته، إذ لم يعد ينظر إلى النصوص والخطابات الأدبية من ناحية لغوية وجمالية وتاريخية فقط، بل صارت الخطابات الثقافية أنساقاً وتمثيلات ورموزاً ثقافية دالة.

انطلاقاً من هذه الرؤية الجديدة لمفهوم الأدب حاول المشتغلون في مجال الدراسات المقارنة التطوير في المنهج والنظرية على حد سواء، وهذا ما دفع بالكثير إلى محاولة إحلال مفهوم النقد الثقافي المقارن بدل الأدب المقارن.

وقد كان لظهور نشاط النقد الثقافي الأثر البالغ في تشكيل معالم الدراسات المقارنة بمفهومها الجديد، حيث يعتبر النقد الثقافي طرح بديل عن قصور مناهج النقد الأدبي، رغم أن الكثير يسلم بأنه بديل عن النقد الأدبي، وهذا ضرب من المغالاة.

ويعتبر النقد الثقافي حسب آرثر أيزابرغر .... "نشاط وليس مجالاً معرفياً خاصا بذاته .. وأن نقاد الثقافة يطبقون المفاهيم والنظريات على الفنون الراقية والثقافة الشعبية والحياة اليومية وعلى حشد من الموضوعات المرتبطة. إن النقد الثقافي مهمة متداخلة مترابطة متجاوزة متعددة، كما أن نقاد الثقافة يأتون من مجالات مختلفة ويستخدمون أفكاراً ومفاهيم متنوعة، وبمفهوم النقد الثقافي الشعبي، وبمقدوره أيضاً أن يفسر نظريات ومجالات علم العلامات، ونظرية التحليل النفسي، والنظرية، الماركسية والنظرية الاجتماعية، والانتروبولوجية، ... ودراسات الاتصال وبحث في وسائل الإعلام والوسائل الأخرى المتنوعة التي تميز المجتمع والثقافة المعاصرة (وحتى غير المعاصرة)"(2).

وكان (عز الدين المناصرة) قد عرَّف (المثاقفة = النقد الثقافي) عام (1986) بأنها: (التفاعل والتداخل والحوار والاحتكاك بين الثقافات المتنوعة والمختلفة – الطوعي والندي، والتبادل الثقافي الطبيعي، بما يؤدي إلى تغير في الأنماط الثقافية السائدة، بعيداً عن مفهوم هيمنة ثقافة على أخرى).

إن مجرد اعتبار النقد الثقافي مرادفاً لما بعد البنيوية وما بعد الحداثة من قبل (ليتش) لدليل هام بأنه نشاط نقدي جديد يدعو إلى ردم الحدود التي رسمتها الدراسات النصيَّة حول الأدب وجعلته مجالاً مؤمما، وذلك بعزله تماماً عن السياقات التاريخية والثقافية والسياسية التي أنتجته وعن سياق القارئ ونادت بسلطة النص.

والنقد الثقافي عند (عبد الله الغذامي) هو "فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية معني بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء"(3). وما يميز النقد الثقافي عند الغذامي هو جعله من فروع علوم اللغة، وذلك كون الغذامي سعى في مشروعه (النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية (2000) إلى إحلال هذا النشاط مكان علوم اللغة العربية من بلاغة ونقد أدبي وإعلانه موتهما وإفلاسهما الإجرائي. لا سيما فيما تعلق بقراءة المستهلك الثقافي والمنتج الثقافي الذي ينتمي إلى ما هو غير رسمي).

لهذا وجب التركيز على أن النقد الثقافي (لا يدرس الثقافة بل يدرس المنتجات الثقافية) كخطابات تتضمن انساقا ومضمرات وتمثيلات، والأدب جزء من هذه الخطابات.

من ناحية أخرى من الخطأ الجزم بأن النقد الثقافي يدرس الأنساق المضمرة وفقط، بل يهتم أيضاً بما هو ظاهر.

أما النقد العراقي (محسن جاسم الموسوي، 2005) فيرى بأن "النقد الثقافي عبارة عن فاعلية تستعين بالنظريات والمفاهيم والنظم المعرفية لبلوغ ما تأنف المناهج الأدبية المحض من المساس به أو الخوض فيه، إذ كيف يتسنى للناقد الأدبي أن يخوض في المبتذل والعادي والوضيع واليومي والسوقي بعدما تمهر كثيراً في قراءة النصوص المنتقاة والمنتخبة التي يتناقلها نقاد الأدب على مر العصور ..."(4).

يطرح مفهوم النقد الثقافي من منظور محسن جاسم الموسوي إشكالية هامة تتعلق بنوعية الموضوعات التي يهتم به، حيث أنها موضوعات لا زالت غريبة عن النقد الأدبي.

من خلال ما تم عرض يمكن اعتبار النقد الثقافي مظلة كبيرة تضمن تحتها جملة من التيارات النقدية الأخرى، ما يطرح إشكاليات مختلفة وعديدة أبرزها: ضبابية المفهوم وغياب الأداة النقدية الموحدة، الأمر الذي فتح الباب أمام اجتهاد النقاد في كل مرة إلى صياغة جملة من الأدوات الإجرائية بغية مقاربة النصوص مقاربات ثقافية مختلفة. ما يطرح إشكالية أمق وهي غياب منهج واضح المعالم للنقد الثقافي جملة من المصادر المعرفية أبرزها:

أ. الدراسات الثقافية

ظهرت الدراسات الثقافية باعتبارها مجالاً معرفياً ونقدياً مع بدايات الستينيات من القرن العشرين، إثر تأسيس مركز "برمنغهام" للدراسات الثقافية المعاصرة في بريطانيا، عام 1964 على يد مجموعة من الدارسين وعلماء الاجتماع البريطانيين يأتي على رأسهم كل من"ريموند وليامز" و"ستيوارت هول" و"ريتشارد هوغارت" وغيرهم، حيث سعى هؤلاء إلى نشر أوراق نقدية في موضوعات مختلفة تتعلق بالثقافة الشعبية ومدى أهميتها في الحياة العامة للإنسان الغربي. ويعتقد أصحاب الدراسات الثقافية أنه قد حان الأوان لنقاد ودارسي الأدب الانتقال من دراسة النصوص الأدبية والخطابات المتنوعة إلى دراسة النصوص الهامشية والخطابات الشعبية والجماهيرية حيث يرون أن ... أساتذة الأدب قد انصرفوا من ملتون إلى مادونا ومن شكسبير إلى المسلسلات التلفزيونية التي تعالج الحياة اليومية والمترلية ... (5).
كما يسعى نشاط الدراسات الثقافية إلى تقويض مركزية المعتمد الأدبي (Canon) أو ما يوصف أحياناً بالأدب الرسمي، الذي انشغل دائماً في البحث عن جمالية النصوص الأدبية المعترف بها، مما جعل الدرس الثقافي يركز على النصوص والخطابات التي تنتجها العامة والأقليات وتبحث داخلها عن الأنساق والتمثيلات الثقافية وليس شرطاً أن تكون النصوص المدروسة تنتمي إلى الأدب الرسمي.

لهذا فعبر "مسار تطورها كانت الدراسات الثقافية تتحدى أشكال التراث المعتمد والحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية، فقد ركزت اهتمامها على جوانب الثقافة التي استبعدتها مجالات الإنسانية المستتبة منذ زمن طويل ..."(6).

لم تعد الدراسات الثقافية تعترف بالحدود الفاصلة بين المعارف الإنسانية والنقد الأدبي، فهي تسعى إلى كسرها باعتمادها أثناء قراءة النصوص والخطابات الأدبية والثقافية على باقة (كوكتيل) من المقولات والأدوات الإجرائية الموزعة بين معارف وعلوم إنسانية قريبة ومتقاطعة مع الأدب مثل: علوم النفس والاجتماع والأنتربولوجيا الثقافية والسميائيات والدراسات ما بعد الاستعمارية والتفكيكية الدراسات السنوية والبنيوية الماركسية ... ومما يلاحظ أن أصحاب الدراسات الثقافية قد جمعوا بين النقد والثقافة والانتماء الإيدلوجي كون أغلبهم "ماركسين" أو "ماركسين جدد".

لهذا فقد عدت الدراسات الثقافية اللبنة الأولى لنشأة النقد الثقافي لدرجة أن هناك خلطاً في النقد العربي المعاصر بينها وبين الثقافي الذي يعتبر نشاطاً آخر وليس هو الدراسات الثقافية.
ب. النظرية الأدبية المعاصرة

تعد فترة نهايات الستينات وبدايات السبعينيات من القرن العشرين من أبرز الفترات المعرفية التي ساهمت في إعادة تشكيل ملامح النظرية الأدبية المعاصرة، لا سيما بعد ما وقع من أحداث ماي 1968 الاحتجاجية في فرنسا بشكل خاص ثم امتدادها إلى باقي أوربا وذلك بتشكيل جملة من المفاهيم المعرفية والنقدية الجديدة، على إثر ما قامت به جماعات الطلبة في ضواحي باريس وخاصة داخل جامعة السوربون، والتي جاءت معادية للامبريالية وللنظام الاجتماعي ككل، شعارها الأساسي أن البنى لا تترل إلى الشارع.

ما دفع النقاد في فرنسا وأوربا إلى إعادة مراجعة جذرية للفكر الأدبي والنقدي والفلسفي المشوب بأفكار البنيوية، وترديدهم لمقولة أنه حان الأوان لحلول نظرية أدبية معاصرة تخرج من شرنقة التقليد وتترك تمركزها الغربي الذي صاحبها منذ الفلسفة اليونانية.

لهذا فقد صارت النظرية آنذاك ... "علم العلوم كما كانت الفلسفة في غابر الأزمان وأصبح الناقد الأدبي العتيق، الذي غاب تحت ركام الخطابات المتباينة مطالباً بتوجيه اهتماماته، لا إلى النصوص الأجنبية فقط، بل إلى جميع مظاهر الوجود إلى الحد الذي دعا فيه "جونتان كولر" إلى أن النظرية الأدبية ليست معية بالدراسات الأدبية فقط بل بمجموعة من الكتابات التي تتناول مع ما تقع عليه الشمس، إنها تتضمن أعمال الانتربولوجيا وتاريخ الفن والنظرية الدراسات السينمائية ودراسات الجنوسة اللسانيات والفلسفة والنظرية السياسية والتحليل النفسي والدراسات التي تدور حول العلم ومفهومه، والدراسات التي تتناول التاريخين الثقافي والاجتماعي، وعلم الاجتماع(7).

لم تصبح النظرية الأدبية مقتصرة على المدونات الأدبية كمحال بحث، بل تجاوزت الأمر إلى الاهتمام بمجالات أخرى جديدة كخطابات الموضة والموسيقى والنكتة والأغنية وثقافة وسائل الإعلام وكتابات الجنوسة والنظرية السياسية ودراسات ما بعد الاستعمار وخطاب الصورة والإشهار والتعددية الثقافية وغيرها.

وهذا الذي جعل النقد الثقافي يجد في مقولات النظرية الأدبية المعاصرة بعض مسوغات وجوده، لا سيما وأنهما أصبحا يتقاطعان في كثير من الموضوعات المدروسة، ومن ناحية أخرى فقد تزامن ظهور النقد الثقافي مع التمرد الذي حصل في العديد من النظريات الأدبية والثقافية التقليدية بما في ذلك التقليد التي تحول فيها النقد إلى مؤسسة لها من يشرف عليها ويحفظ حدودها لا سيما التي رسمتها لها الدراسات الشكلانية ومن بعدها البنيوية.

إذا يتقاسم النقد الثقافي والنظرية الأدبية المعاصرة الانشغال المعرفي والنقدي نفسه، وهو السعي إلى توسيع دائرة الدراسات وموضوعاتها، وكذا السعي إلى تشكيل آليات ومقاربات جديدة لدراستها.

ج. التاريخانية الجديدة – الجماليات الثقافية

تعد التاريخانية الجديدة من الاتجاهات النقدية التي عرفت تطورها في مرحلة ما بعد البنيوية، حيث بدأت إلى الظهور مع ثمانينات القرن العشرين محاولة أن تخرج النص الأدبي من سجن التمركز حول اللغة والدراسة الداخلية، حيث يعبر هذا الاتجاه النقدي عن "مجموعات أو تجمعات من النقاد وأصحاب النظريات الذين رفضوا المناهج التزامنية أو الآنية المستعملة في دراسة الثقافة والأدب ... ومن ثم حاولوا التوصل إلى إجابات مقنعة للعديد من الأسئلة الناشئة عن التضارب بين المناهج الأدبية والمناهج الثقافية والمناهج التاريخية المستعملة في دراسة شتى ألوان النصوص ومعظم الذين يطلق عليهم تعبير التاريخين الجدد يفضلون في تعبير المختصين في الثقافة والأدب ..."(8).

ومن أبرز المصطلحات التي ترافق مصطلح التاريخانية والذي كان لها أثر بعد ذلك في بلورة النقد الثقافي هي مفاهيم: الهيمنة، والبنية التحتية والبنية الفوقية، والاستهلاك الجماهيري لوسائل الإعلام، والصراع الطبقي وغيرها.

ولعل أبرز مقولات التاريخانية الجديدة التي كان لها الأثر في خدمة نشاط النقد الثقافي هي:
النص الأدبي يمتص السياقات الثقافية والتاريخية والسياسية، ثم يعيد تمثيلها جمالياً على شكل صور وأنساق ثقافية.

أرخنة النصوص وتنصيص التاريخ: ومعناه أن يسعى الناقد إلى معاملة النص الأدبي معاملة التاريخ، ومن جهة أخرى معاملة التاريخ معاملة النص الأدبي.

الاستغناء عن بعض مقولات النقد الأدبي وعلى رأسها الترميز (اللجوء إلى استعمال الرمز) والمحاكاة والتخيل، حيث يعتبرها دعاة التاريخ الجديدة قد صارت تتصف بالعجز عن تحليل الظاهرة الأدبية والثقافية بمفهومها الواسع الذي ينضوي له النقد الأدبي ... وهذا ما جعل فكرة الأرخنة والتنصيص تأخذ مكانها في التاريخانية الجديدة...(9).

وقد قدم الناقد الأمريكي "ستيفن غرينبلات" مصطلحاً أخر للتاريخانية الجديدة وهو "الجماليات الثقافية" عام 1980، ثم تراجع عنها فيما بعد.

د. الدراسات ما بعد الاستعمارية

تعد الدراسات "ما بعد الاستعمارية" اتجاه نقدي ومعرفي من إفرازات مرحلة ما بعد البنيوية حيث واكب ظهوره استقلال البلدان المستعمرة في كل من إفريقيا وأسيا وأمريكا الجنوبية. تسعى الكتابات ما بعد الاستعمارية التي يمثلها جملة من النقاد اليساريين المنتمين في أغلبهم إلى العالم الثالث أمثال: ادوارد سعيد، وهومي بابا، وجياتاري سبيفاك وغيرهم إلى تقويض الخطاب الاستعماري والإمبريالي بكل أشكاله، كما أن هذه النظرية ذات ارتباط وثيق بالنظرية الثقافية أو بالدراسات الثقافية ومن خلالها هي أبرز الأسس المعرفية التي طعمت مجال النقد الثقافي كغيرها من الأسس التي سلف ذكرها.

2. عز الدين المناصرة والنقد الثقافي المقارن:

حاول عز الدين المناصرة منذ كتابة (المثاقفة والنقد المقارن، 1988) مواكبة التطورات المعرفية التي تصاحب تطور الدراسات المقارنة باعتباره متخصصاً فيه أكثر من أربعين سنة، وهذا ما دفعه في كل مرة إلى تقديم جملة من المفاهيم النقدية الجديدة عبر مؤلفاته المختلفة. وبالعودة إلى كتاباته الأخيرة خاصة كتابية: (النقد الثقافي المقارن "منظور جدلي تفكيكي" الصادر عام 2005). عن منشورات دار مجدلاوي بالأردن، و(علم التناص والتلاص، 2006) نلمحه قد دأب على استغلال مقولات النقد الثقافي المقارن ليوسع مجال تخصصه، إلى مجال أوسع نوعاً ما وهو (النقد الثقافي المقارن)، حيث كان أول من استعمل مصطلح (النقد الثقافي المقارن) منذ (2004)، ولم يكن قد قرأ حرفاً واحد للأمريكي (توتوسي، 1999)، لأن (المناصرة) استخدم المصطلح (المثاقفة = النقد الثقافي المقارن)، عام 1988، بل قبل ذلك.
ففي كتابه الأول (المثاقفة والنقد المقارن، 1988)، حاول المناصرة تفكيك باقة من القضايا النقدية والمعرفية وزعها بين مجلات الأدب المقارن والنقدين الثقافي والنسوي سيما ما ارتبط بما وصفه بـ: ما بعد نظرية الأدب، النص والسياق، تعددية الأنساق المتعارضة قراءات في النقد الثقافي المقارن ... (10).

وقد ارتكز (المناصرة) في كتابه هذا على جملة من المقاربات توزعت بين التفكيك والقراءة الثقافية والتتبع التاريخي، حيث نجده يحاول عرض ثم تفكيك الخطاب النقدي الثقافي من خلال ما ورد في كتاب آرثر أيزابرجر، "النقد الثقافي" إضافة إلى دراسة "النقد الثقافي في تنظيراً ومن جهة نظر مقارنة وتاريخية"(11). لهذا لم يخصص (عز الدين المناصرة) كتاباً كاملاً للنقد الثقافي، بل اكتفى بعرض بعض النماذج الغربية، رغم أنه قدم خلاصة مهمة حاول من خلالها مناقشة جدلية الأدبي والثقافي.

ومما يذكر في هذا المقام أن عمل (المناصرة) هذا ليس إلا تطويراً لأعماله السابقة خاصة ما تعلق بعرضه لتاريخ الأدب المقارن عبر (الجامعات العربية) المختلفة مشرقاً ومغرباً، الأمر الذي جعل كتابه عبارة عن مزيج بين أعمال قديمة تم نشرها في كتب ودوريات وأخرى جديدة وقد أتينا على ذكر بعضها.

ويؤكد المناصرة منذ مقدمة كتابه بأنه يصر "على تجاهل – مصطلح – الأدب المقارن، كما لاحظ ذلك عدد من الأكاديميين العرب الذين كتبوا عن الكتاب في حينه" لاحظ (شربل داغر، مجلة فصول، 1997)(12).

ومما يذكر أيضاً هو محاولة "عز الدين المناصرة" في الفصل السادس تفكيك محتويات بعض الكتب والمجلات وعلى رأسها كتاب الناقد آرثر ايزابرجر، وعنوانه: "النقد الثقافي: تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية"، إضافة إلى كتاب "سارة جامبل" وعنوان: "النسوية وماب بعد النسوية".

أما في كتاب علم التناص والتلاص (2006)، فقد كان توجه النقد الثقافي المقارن واضحاً عند عز الدين المناصرة، وذلك بتحليله للتوجه الثقافي عند كل من طه حسين وادوارد سعيد، ويثير المناصرة عبر مؤلفيه السابقين أسئلة عديدة أراد من خلالها وضع مفاهيمه الخاصة للنقد الثقافي، فبالعودة إليه يكتشف القارئ تبسيطاً منه لمفاهيم النقد الثقافي والنقد الثقافي المقارن ونقد الثقافة.

فالنقد الثقافي: يقرأ الأنساق المكبوتة داخل الأدب القومي الواحد ويقرأ النصوص الثقافية، داخل الثقافة الواحدة. أما النقد الثقافي المقارن: يقرأ النصوص الثقافية في علاقتها مع النصوص الثقافية في ثقافات العالم ..."(13). ويواصل (المناصرة) حديثه عن جملة من الإشكالات المرتبطة بمجلات ثلاثة: النقد الأدبي، والنقد الثقافي، والنقد الثقافي المقارن. فهو يرى أن هذه الإشكالات تتعلق بمجموعة من الفوارق والمشتركات الموجودة بين هذه المجالات، ويجمل ذلك في:

هل ينغلق النص الأدبي في ذاته حين يتوقف عند التحليل الجمالي الشكلي للنص، أم أن يفترض أن ينفتح على آفاق كبرى تتعلق بالسياق والبنيات والأنساق؟

هل يكتفي باكتشاف وتحليل الأنساق في النص الأدبي، عندئذ، يكتمل التحليل، أم أن التحليل يبقى ناقصاً.

هل يمكن قراءة النص الثقافي قراءة أدبية جمالية، أم أن هذا التحليل الأدبي مرفوض، ولماذا؟
هل نقوم بتحليل النص الثقافي تحليلاً جمالياً، ثم نكمل التحليل بالتحليل الثقافي، وهل نقوم بتحليل النص الثقافي تحليلاً جمالياً ثم تحليلاً ثقافياً.... أم نفصل بين النص الثقافي والنص الأدبي فصلاً تاماً؟

هل نميز بين النقد الثقافي بحصره في نقد النص الأدبي المشهور وبين نقد الثقافة أي باستبعاد التحليل الجمالي للنص الثقافي، أم نفتش عن آليات مشتركة للتحليل تأخذ في الحساب، مسألة الهوية؟ ...(14).

لكن الإشكال الذي يواجهنا في هذه الأسئلة أن المناصرة عندما أراد تقديم إجابة عنها، قد أوقع القارئ في مأزق آخر ارتبط بتعدد المفاهيم وتعقدها، خاصة عندما قدم بديلاً جديداً عن الأدب المقارن وهو (النقد المقارن، وعلم التناص والتلاص). ومن المفاهيم المرتبطة بنشاط النقد الثقافي والموجودة في مدونة عز الدين المناصرة: المثاقفة، التلاص، واغتصاب التمثيل، القراءة الطباقية وغيرها.

كما تجدر الإشارة في كتابه هذا أنه قام بعرض مفهوم القراءة الطباقية عند ادوارد سعيد باعتباره، رائد دراسات ما بعد الاستعمار في العالم. وفي هذا السياق يعترف (المناصرة) بأن ادوارد سعيد قد استغل مجال النقد الثقافي المقارن برجوعه إلى الوراء أي بالعودة إلى المنهج التاريخي، وذلك هروباً من مقولات مثل "لا شيء خارج النص" أو "النص المكتفي بذاته ..."(15).
 
الخلاصة

إن ما يميز كتابي عز الدين المناصرة السابق ذكرهما هو كثرة المفاهيم والمصطلحات العديدة والمختلفة التي توزعت بشكل عام على مجالات: (النقد الأدبي والنقد الثقافي والنقد المقارن) وهذا ما جعلها تستغلق على القارئ في بعض الأحيان.

من جهة ثانية انتقل (المناصرة) من مصطلح الأدب المقارن إلى مصطلح (النقد المقارن) ( عام 1988) ثم انتقل عام (2004) إلى (النقد الثقافي المقارن) واستقر فيه. وأضاف إضافات عديدة، منها أنه ينتمي إلى مدرسة (النقد الثقافي السلافي)، منذ (1979).

ورغم كل هذا فيبقى المناصرة من المقارنين العرب القلائل الذين أعلنوا عن محاولتهم المتواصلة الدؤوبة لتغيير مناهج وأدوات الأدب المقارن، إن لم نقل بأنه كسر اتجاهاته التقليدية، حيثن تجاوز أستاذه (محمد غنيمي هلال).
 
الهوامش

1. ينظر سعيد أراق بن محمد: الأدب المقارن في ضوء التحليل النقدي لخطاب، دار اسامة للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2015ـ ص 68.

2. أرثر أيزابرجر: النقد الثقافي: تمهيد مبدئي للمفاهيم الأساسية، تر، وفاء إبراهيم ورمضان بسطاويسي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط، 2002، ص 4، 1991.

3. عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافي العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 2000.

4. محسن جاسم الموسوي: النظرية والنقد الثقافي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005، ص 12.

5. جوناثان كولر: مدخل إلى النظرية الأدبية، تر، مصطفى بيومي عبد السلام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2005، ص 69.

6. ك. نيلووف وأخرون: القرن العشرون، المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية، تر، إسماعيل عبد الغاني، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2005، ص 252.

7. رامان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة، تر، جابر عصفور، دار قباء للنشر والتوزيع، القاهرة، د. ط، 1998، ص 64.

8. فخري صالح وأخرون: أفاق النظرية الأدبية المعاصرة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 2007، ص 13.

9. محمد عناني: المصطلحات الأدبية الحديثة، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1996، ص 60.

10. مصلح النجار وأخرون: الدراسات الثقافية والدراسات ما بعد الكولونيالية، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2008، ص 117.

11. عز الدين المناصرة: النقد الثقافي المقارن، دار مجدلاوي للنشر، الأردن، ط1، 2005، ص 229.

12. نفسه، ص

13. نفسه، ص 9

14. عز الدين المناصرة: علم التناص والتلاص، مجدلاوي، عمان، 2005، ص 11، 12

15. نفسه، ص 269

طارق بوحاله

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى