الخميس ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
مشاهد مختارة من أفلام (4)
بقلم رانية عقلة حداد

مقدمات تأملية (البحر في الداخل)

استرخ... أنت تشعر بالهدوء أكثر فأكثر
والآن تخيل شاشة سينما تنفتح أمامك
عليها تخيل مكانك المفضل
ركز على تنفسك
لتسمح لجسمك كله أن يسترخي ويشعر بالسلام
تابع التنفس والاسترخاء
تنشق وازفر...
تنشق وازفر...(صورة البحر مزج على الشاشة)
والآن وصلت إلى هناك
انتبه إلى التفاصيل
الألوان... الملمس... الضوء
الحرارة أشعر بالحرارة
دع هذا المشهد الهادئ ينفض من أمامك
الشعور بالسلام لا متناهي

بهذا الصوت المنساب بهدوء من خارج الكادر داعيا إلى التأمل، واطلاق الحواس لاستشعار الطبيعة، يبدأ المشهد الافتتاحي من الفيلم الأسباني (البحر في الداخل) انتاج 2004، للمخرج (أليخاندرو امينابار)، حيث ما نسمعه هو صوت خينيه المسؤولة في منظمة الموت بكرامة، والتي تقدم كل الدعم المعنوي والقانوني اللازم لرامون ( خافير بارديم)، المصاب بشلل رباعي الأطراف منذ ما يقارب الثلاثين عاما، والذي يسعى أن يحصل على قانون يجيز الموت الرحيم، كي يتمكن من الظفر بالموت الذي بالنسبة له يعد الحرية التي يحلم بها، إذ أن الحياة من وجهة نظره حق وليست واجب، وعلى الأخرين أن يحترموا حق المرء بحرية الاختيار أن اراد هو ذلك.

"البحر في الداخل" يستدعي من الذاكرة فيلم آخر كنا قد تحدثنا عنه سابقا، أنه الفيلم الأسباني أيضا "حياتي من دوني"... حيث تتجلى في كليهما ثنائية الحياة والموت، وكل منهما يتبنى الأسلوب الشعري والتأملي، الذي يطلق العقل والحواس في مواجهة الموت، كمقدمة للفيلم ومدخل للموضوع على اختلاف القصة والطرح.

صوت خينيه القادم من خارج الكادر، دون أن نراها أو نرى الشخص الذي توجه كلامها إليه، وصيغة المخاطب التي تتحدث بها تجعل كلامها موجه لنا كمشاهدين، هكذا نشعر في البداية لتقودنا من يدنا لاستشعار الطبيعة واطلاق حواسنا قبل أن ندرك أنها توجهه إلى رامون وهي تزوره في المنزل، لتساعده على تحمل الحياة فتقوده في رحلة تخيلية تطلق العقل الحواس للحد الأقصى من المتعة الاكتشاف والتأمل.

محتوى الصورة ترجمة لما تطلبه خينيه في حديثها، فمن اللون الأسود تفتح شاشة بيضاء كأنها شاشة سينما نتخيل عليها الاشياء، ونبدأ بالاسترخاء والشعور بالسلام حيث تمتزج ببياض الشاشة أمواج البحر المتلاطمة، وعندها تطلب أن نتنفس عميقا وبهدوء لينسجم ايقاع تنفسنا مع ايقاع البحر والطبيعة التي نحن امتداد لها.

بعدها يأخذنا صوت خينيه إلى أن ننتبه إلى التفاصيل نتأملها ونستمتع بها من خلال حواسنا التي نطلقها، فنشعر بملمس الأشياء، ألوانها، الضوء، والشعور بالدفء، فنرى في اللقطة الأولى رجلي رامون تدخل الكادر وتختبر ملمس أمواج الشاطئ، بعدها نرى جزء من يده في مقدمة الكادر تحس بالضوء والحرارة، وفي عمق اللقطة نرى البحر والصخور، وفي لقطة تالية نرى مع رامون ومن خلف راسه الذي يظهر جزء منه مساحة أرحب من البحر والطبيعة، فنشاركه الاحساس وتأمل التفاصيل والأشياء التي تشغلنا اعباء الحياة عن الانتباه إليها فنغفل عنها.

كل شيء في مقدمة الفيلم يقود إلى الاسترخاء، والهدوء، والتأمل، سواء صوتها، أو ما تطلبه من الاسترخاء والهدوء والتنفس بعمق، إلى بناء المقدمة بخمس لقطات عامة ذات ايقاع هادئ، بحيث خمس لقطات على مشهد يزيد عن الدقيقة بقليل اي بعض اللقطات يستغرق خمس ثواني وبعضها 15 ثانيه وهذا زمن طويل لللقطة يفرض الايقاع الهادئ.

لمقدمة الفيلم هذه مستوى أخر من الدلالة الفلسفية، حيث تشبه هذه المقدمة حياة الأنسان على الأرض، التي تبدأ من العدم اللون الأسود ثم تفتح شاشة بيضاء تشبه شاشة السينما هي بمثابة الحياة، وتبدأ شيئا فشيئا تنبض بالحياة، فتمتزج أمواج البحر ببياض الشاشة، ونستعرض الشاطئ إلى أن تدخل رجلي الإنسان، فنتابع حركتهما، ثم أجزاء منه في لقطة آخرى جزء من اليد في مقدمة الكادر في علاقتها مع الحياة والطبيعة في عمق الكادر، ثم لقطة آخرى من خلف رأس رامون، فيظهر رأسه كبيرا في مقدمة الكادر والبحر واسعا في العمق، إلى أن نستعرض معه البحر فيختفي رأسه من الكادر وبالتالي من الحياة ونتابع بعدها المزج من البحر إلى غابات شاسعة بعدها تنسحب الكاميرا تتدريجيا إلى خلف زجاج نافذة غرفة وقد احكمت خينيه المرأة المتحدثة احكامه، نكتشف أن خينيه تتحدث إلى رجل لا زلنا للآن نجهله، تتركه مع موسيقى فاغنر وترحل، فتستعرض الكاميرا المكتبة والمكان.

على الرغم من أن المخرج لم يستخدم سوى اللقطات العامة، إلا أنه استطاع أن ينقلنا إلى عالم رامون الداخلي وخياله المحلق من خلال، تكوين الكادر الذي يضع أجزاء جسد رامون في مقدمته، فيبدو كأنه في لقطة قريبة، لكنه غير المعزول عن الطبيعة من حوله التي تظهر في عمق الكادر، فندرك علاقته فيها، وهنا على عكس فيلم حياتي من دوني" الذي اعتمدت فيه المخرجة على لقطات قريبة ومعزولة للبطلة عما حولها سوى المطر، لأن كل منهما تخدم الوظيفة المراد منهما، حيث في "البحر في الداخل" بالاساس هناك علاقة تجمع رامون مع الطبيعة والبحر تحديدا حيث كان شغله في البحر قبل حادثة ارتطام راسه بصخور البحر وهو يغطس، وهو إذ يتمنى أن يتحرر بالموت وبان يكون جزءا من هذه الطبيعة وهذا البحر، لهذا كان اظهار العلاقة المتبادلة، أما في "حياتي من دوني" فكانت أزمة البطلة ادراكها أن الزمن يهرب منها، وانشغالات الحياة سلبتها الاستمتاع والتأمل بكثير من التفاصيل الحسية، لذلك تحتاج أن تكون مع نفسها وتركز على حواسها بمعزل عن الآخرين وانشغالات الحياة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى