السبت ٢٦ آذار (مارس) ٢٠١٦
بقلم أحمد الخميسي

من تنوير العقل إلي تنوير الشعور

عندما نتحدث عن«التنوير» فإننا نتجه إلي تصحيح الأفكار والمعتقدات والمفاهيم البالية المتوارثة في منطقة الفكر والعقل، لكن خيالنا لا يقترب من أن التنوير لابد وأن يشمل الأذن، أي أن يتجه إلي تنوير الشعور بالموسيقا، وقلما نفكر في تنوير آذان الناس، أي مشاعرهم، وهي الأرض الأولى لكل فكرة جميلة. يحتاج تنوير الآذان منا إلي مجهود ضخم يبدأ باستعادة حجرات الموسيقا في المدارس، واشتمال المناهج التعليمية على دراسة الفن، وتاريخ الرسم، والنحت، والرقص، وكل ما يضيء الشعور بالجمال. هذا بينما هبطت موسيقانا إلي درك يذكر بقول ابن خلدون إن الموسيقا أول ما يتلف عند اختلال الحضارة وتراجعها. نحن بحاجة لتنوير الأذن أولا بانتشال الناس من مستنقع الأغنيات الهابطة السائدة التي مثل قطاع الطرق لا تكف عن قطع الآذان. في سبيل ذلك لابد من استعادة وإحياء المدارس الموسيقية التي أقامها عمالقة النغم المصري: رياض القصبجي، ونادر المثال رياض السنباطي، وعبد الوهاب، والموجي، وأحمد صدقي، وغيرهم، وبالطبع سيد درويش الذي ستحل في 17 مارس الحالي ذكرى وفاته المئة والرابعة والعشرين من دون أن نسمع عن أي تحضير لعرض ولو عمل واحد من أعماله في دار الأوبرا. وقد اعتاد الناس لدينا على الموسيقا فقط في ارتباطها بالكلمة، أي على أن الأغنيات هي الشكل الموسيقي الوحيد. وقد اقترح الفنان سيد بدير ذات مرة اقتراحا عبقريا بأن يتم توزيع أشهر الألحان وإذاعتها من دون كلمات كخطوة أولى ليعتاد الناس بعد ذلك على سماع الموسيقا البحت مجردة بمعزل عن اللغة، ومن ثم ينتقلون إلي الموسيقا الكلاسيك وغيرها. وحتى داخل النخبة الفكرية والأدبية فإننا قلما نجد من يميز عبقرية السنباطي عن لهب الموجي، فليس لدينا أي تعريف بأولئك العظماء الذين ارتبطت عواطفنا بألحانهم، واقترنت كل قصص الحب في شبابنا بأنغامهم. وأنت إن أمعنت النظر إلي ألحان السنباطي ذات المقدمات الطويلة الفخيمة، ستجد أنه أقرب ما يكون إلي نجيب محفوظ في الأدب، فلدي الاثنين ذلك البناء المعماري، والقضية الأدبية، أو اللحنية، الكبرى، وتعدد الألحان أو الشخصيات، والمشاهد العريضة. بينما تشبه أغنيات محمد عبد الوهاب إنجاز يوسف إدريس في القصة القصيرة، اللحظة، المحكمة، اللامعة، الجميلة. وقد آن الأوان لكي ننشر أعمال أولئك الموسيقيين العظام، مجموعة، بأسمائهم هم، وليس بأسماء المطربين! بحيث يتعرف المستمع إلي العالم الفني لأحمد صدقي، أو محمود الشريف، بغض النظر عن أسماء المطربين النجوم. وآن الأوان لكي نجدد عروض تلك الأعمال التي صاغت تاريخ الموسيقى المصرية لتكون نواة للتجديد، ولكي ننتقل بها إلي تنوير الأذن بالشعور بالجمال. ومن دون ذلك التنوير الجمالي، يصبح التنوير ناقصا، مشوها، وغير موثوق بمدى بقائه، إذ لا قيمة لعقل يبدو منفتحا مع قلب معتم بالجلافة. ولم تكن مصادفة أن يقول شكسبير في مسرحية له على لسان إحدى الشخصيات:" احذر ذلك الرجل، إنه خطير جدا.. إنه لا يتذوق الجمال"! إنني لا أثق في تنوير يكتفي بمخاطبة الفكر، ولا يغرس الجمال في النفوس، فصلاحية ذلك النوع تمتد لفترة قصيرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى