الاثنين ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٠
بقلم محمد زكريا توفيق

من دفتر الهجرة، قصة مدينتين

كنت أعمل في شركة برودنشيال للأوراق المالية في مدينة نيويورك، كرئيس قسم. وهي شركة عملاقة تابعة لشركة برودنشيال للتأمين. كنت المسؤول عن إعادة تشغيل الكمبيوتر في حالة قيام حرب، أو نسف المبنى بفعل فاعل، أو بفعل زلزال عنيف أو إعصار عاصف أو فيضان مدمر.

الدول المتقدمة تعمل حساب لكل شيء ممكن أو حتى غير ممكن. هذه ليست مكرمة من الشركة، أو أسلوب دعاية، لكنه القانون الذي يحتم على كل الشركات والبنوك التي يضع فيها المواطن نقوده، أن تكون بياناتها وحساباتها في مكان آمن حتى وإن حدثت كارثة رغم أنف الجميع.

يعني ما ينفعش تروح تصرف شيك من البنك، يقولك الموظف، "آسف يا محترم الفئران أكلت الملف بتاعك، والبنك لا يعرف حسابك كام؟" تقوله، طيب وأنا ذنبي إيه؟ يرد عليك بقذيفة مضادة ويقولك، وأنا كمان ذنبي إيه؟"

هذه ليست نكتة. فعندما طلبت صورة من أوراق مبنى أمتلكه بالقاهرة الجديدة من الجهاز العمراني للمدينة، أخبرني الموظف المختص بكل بساطة بأن الفئران أكلت الملف وربما شربت وراه زجاجة بيبسي ساقة للهضم. أي والله.

لا أريد أن أدخل في تفاصيل الوظيفة حتى لا أصدع رأس القارئ العزيز بأمور فنية لا يحتاجها. لكن المهم، كانت البينات الخاصة بحساب عملاء شركة برودينشيال للأوراق المالية يتم نسخها فور تواجدها ونقلها عبر الأقمار الصناعية إلى مكان بعيد في شمال ولاية نيويورك.

هناك تسجل هذه البيانات على أشرطة ممغنطة وتخزن في صومعة تشبه خلايا النحل، يقوم ربوت آلي بوضعها في خانات مرقمة. الآن لدينا نسخة طبق الأصل من بيانات العملاء، منها يمكننا إعادة الأمور على ما كانت عليه في مكان بعيد آمن، إذا حدثت كارثة لا سمح الله.

لقد قمت بكتابة كل البرامج الخاصة اللازمة لتفعيل هذا النظام بلغة كمبيوتر تسمى (ٍSAS). وهو عمل ضخم استغرق عدة سنوات لتصميمه واختباره وتطويره.

لاختبار هذا النظام والتأكد من سلامته، كان علينا الذهاب إلى مكان المعلومات الجديد لتشغيل الكمبيوتر هناك، وإعادة كل شيء إلى ما كان عليه. طبعا كنا نختار أيام العطلات الرسمية والأعياد لكي نقوم بمثل هذه الاختبارات.

بعد الانتهاء من أحد الاختبارات التي كانت تجرى في شمال أرياف ولاية نيويورك، كانت الساعة تقترب من الثالثة صباحا. الظلام دامس، ولا توجد أعمدة إنارة في الشوارع الضيفة التي تؤدي إلى الطرق السريعة.

بعد القيادة في طريق جانبي لمدة خمس دقائق، وجدت إشارة حمراء. انتظرت لكي تخضر وكنت على عجل لأن محطة الأخبار كانت تذيع هروب سفاح عينيه بتطق شرار في المنطقة يبحث عنه البوليس.

قلت في نفسي يا واد اكسر الإشارة دي. الدنيا ليل والجو عليل وشرطة المرور نائمه ومين يجيبها هنا الساعة دي، دحنا في آخر الدنيا؟ ويا مبارك مجرد أن كسرت الإشارة واتجهت شمالا بالسيارة، وإذا بي اسمع صوت سرينة البوليس وأنوار ابيض واحمر واخضر واصفر عماله تولع وتطفي آتية من الخلف، ولا مولد السيدة في الليلة الكبيرة.

بأصابع يديه، خبط رجل المرور على زجاج نافذة السيارة الذي يجاورني. كان يلبس نظارة سميكة غامقة وقفازا وقلنسوة جلد على رأسه تغطي أذنيه حماية من البرد. فتحت النافذة، فطلب من رخصة القيادة وأوراق السيارة.

أعطيته الأوراق المطلوبة وأنا أتساءل بسذاجة عن السبب. فأجابني ساخرا، يعني لا تعرف ماذا فعلت؟ فضحكت وقلت له كنت فاكر احنا في ولاية نيوجرسي حيث يمكن كسر الإشارة عندما تسمح حالة المرور بذلك. فقال، أولا نحن لسنا في نيوجرسي. ثانيا نيوجرسي تسمح بالاتجاه يمينا، لا جهة اليسار كما فعلت.

نظرت إلى المخالفة فلم أجد بها مبلغ الغرامة. فقلت له كم هي غرامة كسر الإشارة هنا؟ فقال هذا شيء يقرره القاضي. عليك أن تذهب في اليوم المحدد وتقف أمام القاضي للدفاع عن نفسك. ثم تركني مع أنواره التي تشبه أنوار مولد الحاجة آمنة.

يا نهار أزرق. إيه اللي ح يجيبني من سكني هناك إلى هنا في آخر الدنيا لكي أقف أمام القاضي، لأدافع عن نفسي مثل السفاحين واللصوص؟ وكمان لازم آخذ أجازه ومشوار رايح ومشوار جي. الله يغمك يا شرطي، طلعت لي منين؟ د احنا الساعة ثلاثة بعد منتصف الليل.

المهم وصلت إلى منزلي وش الفجر وأنا في منتهى النكد. وحتى تهت من الغم أثناء العودة وبدل ما آخذ الطريق السريع الجنوبي، أخذت الشمالي المودي إلى كندا. وفضلت السيارة تقدح نصف ساعة وبنزين السيارة قرب يخلص، قبل أن أجد مخرج أو محطة بنزين.

في اليوم التالي، اتصلت بنمرة تليفون مطبوعة على وصل المخالفة، وشرحت الوضع وأنني غريب عن هذا المكان وليس لدي وقت أو إجازات تسمح بحضوري الشخصي للمحاكمة.

أجابت الموظفة التي كانت تستقبل مكالمتي بأنها سترسل لي بالبريد استمارة أعترف فيها بذنبي أو خطيئتي وأقر بأنني تبت إلى الله ورجعت إليه ولن أعود إلى فعل ذلك مرة أخرى.

المهم بعد ذلك تقرر عقوبتي بغرامة قدرها 250 دولار. اعتقدت أن الأمر قد انتهى هنا. لكن أبدا. تم إبلاغ الأمر إلى جميع شركات التأمين حتى تصنفني كسائق خطر بتاع مشاكل.

فقامت الشركة التي تؤمن سيارتي برفع مبلغ التأمين السنوي بمقدار 200 دولار سنويا لمدة 5 سنوات. يعني بحسبة بسيطة، كسر إشارة حمراء في ليلة سخيفة باردة مظلمة، كلفتني 1250 دولار.

شدة العقوبة للمخالف مع اتساع الطرق ووضوح لوحات الإرشادات وتوافر خدمات المرور الممتازة جعل ولاية نيويورك تتبوأ المركز الثالث بين كل الولايات الخمسين بالنسبة للأمان وسهولة ومتعة قيادة السيارات.

الحقيقة وأنت تقود السيارة هنا في نيويورك، تقودها بسهولة ومتعة. الطرق كلها بدون استثناء مخططة إلى حارات. الخطوط المتقطعة التي تفصل الحارات فقط هي المسموح لك باختراقها لتغيير الحارات. إشارات المرور كبيرة وواضحة تجدها أمامك وكذلك أسماء الشوارع. قبل أي مطب صناعي أو إنحناءه طريق أو مكان مرور غزلان تجد يافطة تنبهك لذلك.

طبعا المقارنة ظالمة بين حالة المرور هنا وحالة المرور في القاهرة مثلا. الإشارات نادر وجودها. وإن وجدت في لا تعمل. شارع التسعين بالقاهرة الجديدة، أرقى مكان سكني في مصر، ليست به إشارات مرور أو أماكن لعبور المشاة أو كباري أو أنفاق.

عندما كنت في مصر منذ عامين، علمت بحادثة مروعة. ثلاث فتيات في ريعان الشباب حاولن عبور شارع التسعين من الجانب السكني إلى الجانب التجاري. جاءت سيارة مسرعة وخبطت البنات الثلاثة فقتلن في الحال. أفرج عن السائق لأن الخطأ ليس خطأه. الذنب ذنب البنات، مين قال لهن يعبرن من هنا؟

كنت أركب عربة يقودها ابن صديق لي في العشرينات من عمره، من الإسكندرية إلى القاهرة على الطريق الصحراوي. كانت حدود السرعة على هذا الطريق لا تتعدى 100 كيلومتر في الساعة.

لكنه كان يسير بسرعة 160 كيلومتر في الساعة وهو يرفع يديه عن عجلة القيادة من حين إلى آخر لكي يتعطر من زجاجة كولونيا بجواره. وأنا أصرخ بجانبه كي يهدئ السرعة، ولكي يمسك بعجلة القيادة. لكنه كان يقهقه ويقول ما تخافش يا عمي د العمر واحد والرب واحد.

عند مكان تحصيل رسوم الطريق (الكارته)، تم سحب رخصته أثناء عودتنا مرتين متتاليتين. لكنه في كل مرة، كان يُظهر بطاقة أخيه الضابط بالبحرية سابقا والذي لم يكن معنا في السيارة. فيعيد شرطي المرور الرخصة له دون غرامة بعد أن يقوم بتأدية التحية العسكرية له.

العسكريون عند الكارته لهم طريق مخصوص غير طريق عامة الشعب، تمر به العربات الخاصة لرجال الجيش والشرطة بدون دفع رسوم المرور. لماذا العسكريون مميزون عن المدنيين في وقت السلم، ولماذا هذه التفرقة؟ لا أدري.

طبعا هذه قصص محزنة جدا تبين مدى التسيب والاستهتار بأرواح الناس في مصر. أرواح الناس تتساقط مثل أوراق الخريف على الطرق السريعة. 30 ألف مصاب وسبعة آلاف قتيل كل عام. الأعلى بالنسبة لعدد السكان بين كل الأمم.

الطرق السريعة مليئة بعربات النقل ذات المقطورة. والحارة اليمنى من الطريق مشغولة بالعربات الواقفة في المنحنيات لإنزال الركاب أو للراحة، والناس تجدها في الحارة اليمنى واقفة في انتظار الركوب.

عربات الميكروباص أو النعوش الطائرة، نصفها يقاد بشباب تحت سن العشرين. تجدهم وبالأخص في الأرياف يقودون سياراتهم بدون رخصة، أو وهم تحت تأثير البانجو والحشيش. طبعا وصف حالة المرور في مصر يعرفها الجميع ولا تحتاج إلى المزيد من الشرح والتعليق.

اشتريت سيارة مرخصة في دمياط، لكي أقضي بها بعض المصالح أثناء زياراتي لمصر. قررت نقل ملكيتها بإسمي وإعادة تسجيلها في قسم المرور بالإسماعيلية.

أخذت معي أخي المدير السابق، بالمعاش حاليا، وأخذت أيضا زوج أختي، وهو ضابط برتبة عميد أيضا بالمعاش. قضينا أربعة أيام كاملة ما بين هذا الشباك وذاك الشباك. وبين هذا المبنى وذاك المبنى. الزحام شديد على كل شباك. اطلع فوق وانزل تحت. روح يمين وروح شمال. لا يا أفندم، أنت في الشباك الغلط. اختم هذه الورقة وصور هذا المستند. اكشف على الموتور وهات بصمته.

اشتري طفاية حريق لأن طفايتك غير صالحة. اشتري مثلث وعلبة إسعاف. ابصم طفاية الحريق. جدد التأمين وجدد رخصة العربية. طيب التأمين القديم ساري والرخصة سارية. لا ما ينفعش لازم تتجدد.

اذهب إلى دمياط لتكملة البيانات. اذهب مرة ثانية لدمياط لتسليم نمرة السيارة. هل يمكن تسليم نمرة السيارة في الإسماعيلية؟ لا. لابد من تسليمها في دمياط. ذهبنا للمرة الثانية إلى دمياط لتسليم النمرة. لازم الذهاب إلى قسم شرطة دمياط لإحضار شهادة بأن السيارة غير مطلوبة في قضية سابقة.

عند العودة إلى الإسماعلية، المفاجأة الكبرى هي طلب عودتنا إلى دمياط للمرة الثالثة لتسليم استمارة 105. والله هذا حدث وليست نكته. بالطبع كل خطوة فيها رسوم وبرطلة والذي منه. وإلا، تعالى بكرة يا سيد. ألفين جنيه بالتمام والكمال تكاليف نقل ملكية السيارة، ما بين تسجيل وتأمين ومصاريف وبرطلة.

يعني العملية ببساطة، انتهاك لآدمية الإنسان وقتل وقته وتدمير روحه وتفريغه من قيمه الخلقية والمعنوية. عندما قررت بيع سيارتي الأخيرة في نيويورك، أحضرت شهادة ملكية السيارة، وقمت بالتوقيع في ظهرها وانتهى الأمر. توقيع واحد، نقل ملكية السيارة مني إلى المالك الجديد. فلماذا لا نفعل نفس الشيء؟

منذ عشرين عاما تقريبا، كنت أقود سيارتي في أحد الطرق السريعة بولاية نيوجرسي، وهي ولاية ملاصقة لولاية نيويورك. لفتت زوجتي انتباهي وكانت تجلس بجواري إلى يافطة على الطريق مكتوب عليها إن غرامة إلقاء زبالة على الطريق 400دولار. الغريب هنا هو ضخامة الغرامة بالنسبة للفعل.

عندما كنت في مدينة مينابولس بولاية مينيسوتا لحضور أحد المؤتمرات، وصلت إلى الفندق عصر يوم أحد. فقلت أنتهز هذه الفرصة وأخرج أتفرج على البلد وأعرف مكان المؤتمر الذي سيبدأ صباح الغد.

كان يوجد في صالة الاستقبال طبق كبير مليء بالفاكهة تحية من الفندق للنزلاء. أخذت برتقالة كبيرة وقلت آكلها في السكة. وضعت السماعات في أذني وجهاز الكاسيت الصغير في جيب البالطو، وبدأت استمع إلى شريط الجنة والنار لفانجيلس.

بعد ما قشرت البرتقالة وأنا في الطريق، لم أجد صندوق قمامة ألقي فيه القشر. ظللت أسير في شوارع المدينة وأنا قابض على قشر البرتقالة ولم أستطع تشويه هذا الجمال والنظافة التي أشاهدها أمامي. صدق أو لا تصدق، ظللت قابضا على القشر بيدي إلى أن عدت إلى الفندق لكي ألقيه في صندوق القمامة هناك.

كنت أزور مدينة فانكوفر التي تقع غرب كندا على ساحل المحيط الهادي منذ عدة سنوات. لاحظت جمال الشوارع واهتمام الناس بواجهات منازلها وحدائقها الأمامية. الورود الجميلة والنجيلة الخضراء التي تشبه البساط، والأشجار الوارفة والزهور البهيجة. الشوارع كأنها مغسولة بالماء والصابون. أعمدة الإنارة تحتضنها سلال الزهور والورود.

سألت مرافقي الكندي عن سر هذا الجمال وهذه الروعة. أجاب ببساطة: البلدية تمر على هذه الشوارع والفيلات للتفتيش، ومن تجده مقصرا أو مهملا في العناية بحديقته وواجهة بيته، تقوم البلدية بنفسها بالعناية بالحديقة والواجهة. أي تعمل اللازم من استبدال الأشجار الميتة وقص النجيلة الطويلة وتهذيب الأغصان وزراعة الزهور ووضع الأسمدة. ثم ترسل فاتورة التكاليف لصاحب البيت.

السائح الذي يزور مصر اليوم، يلاحظ كمية الزبالة الهائلة التي تلقى في الشوارع والحارات، وفي كل مكان، وعلى جانبي الطرق الممهدة لسير العربات، وعلى شريط السكة الحديد بكل فروعه من الإسكندرية إلى وادي حلفا على الحدود السودانية.

كذلك تُلقى الزبالة والقاذورات في القنوات والمصارف والنيل وفروع وعلى شاطئيه، وفي كل مكان خالي أو حوش مهجور. أصبحت الزبالة تحاصرنا من كل جانب ومن كل حدب وصوب، وبات الشعب المصري يعيش بدون مبالغة في زريبة كبيرة أو صفيحة زبالة عظيمة.

الحل سهل والوصفة هايلة لنظافة شوارعنا ولم الزبالة منها. يصدر قانون بأن كل مالك أو مستأجر لعقار، هو مسؤول عن نظافة مدخل بيته وأمام محله. ومن يتكاسل، تقوم البلدية بعمل اللازم وتحميله التكلفة مع الغرامة. كما يجب العودة للنظام القديم في لم الزبالة. الزبال بحماره وعربته الكارو، يذهب لكل شقة ويأخذ زبالتها في مقطف كبير نظير أجر متواضع. صعبة دي؟
إنها قصة مدينتين. مدينة تحترم آدمية الإنسان وتعمل على راحته ورفاهيته. ومدينة تتلذذ في تعذيب الناس والحط من شأنها. هل العيب في الشعب المصري؟

لا والله. جينات الشعب المصري لم تتغير منذ عصر الفراعنة. حسب آخر دراسة، 97 في المائة من جيناتنا نشترك بها مع جينات الفراعنة الذين شيدوا الأهرامات والمعابد العظيمة، والذين علموا البشرية كيف يكونون بني آدميين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى