الخميس ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٢
بقلم سلوى أبو مدين

من ذاكرة الأدب رائد التميز

كأني أحمل حروفي وأطوف بها بين المجرّات أعانق النجم وأبحر حتى الشطآن تلك الحروف التي نثرت بريقها على شموع أصابعي الشاحبة .. وكأنّ جناحي يخضر بعد مدى طويل.

ربما هي قصة الأمس؛ التي جعلتني أشعر بهذا الشجن والفرح في آن، منذ ألف دمعة وألف خيبة أمل.

فقد كان أبي رحمه الله أقرب ما يسعى إلى الكمال في عمله، وإن أردت أن أسطِّر عباراتي المرتعشة فوق صفحات الورق عن الأديب والرائد والإداري ربما أخفقت كثيراً.

ذلك العلامة الشاهقة في تاريخ الثقافة، هو الإنسان العصامي الذي ظلّ متوهّجاً في ظروف عصيبة يعطي بلا حدود وينير الصفحات بإنكاره لذاته وسعيه وحبه لعمله في سبيل تقديم الأفضل، ويتناسى الذات ليعطي للآخرين، فهو واحة وارفة الظلال مليئة بعطاءات لا تنضب.

وحيث إنّ السعي للكمال يجعل الإنسان لاهثاً عند كلِّ منعطف فقد قضى أبي خمسة وعشرين عاماً بين متاعب ومعمعة العمل المضني الشاق، ويُعَدُّ والدي رحمه الله من مؤسسي نادي جدة الأدبي لعام 1395هـ وقد اختير رئيساً له عام 1401هـ، فقد كان من الرجال الشجعان الذين يواجهون الواقع بمنطق الحكمة والعقل. وكما وصفه الأستاذ جريدي المنصوري إنّه رجل اجتمع فيه ما تفرق في سواه، إنّه قبيلة تضم أجيالاً من عقول تتجدّد بالإبداع والحكمة.

فهو مساحة من الطموح والحرية والعطاء النابض بلا تزييف أو تنميق، يخلص في عمله ويوليه جلّ وقته، حمل هموم الفكر والأدب على عاتقه فسطِّر على خارطة الثقافة بصماته!

ولا أنسى الدور الذي منحه للمرأة في المشاركة برأيها، ففتح لها باب الحوار وأعطاها فرصتها لتخرج مكونات إبداعها من خلال ملتقى جماعة حوار فانبثقت طاقتها الجمالية المقتدرة.

وشحذ الهمم بعزيمة وصدق وحبّ وإخلاص وقدس عمله فكان الفارس الذي نشب أظافره في الصخر، وخاص في معترك الحياة، وكانت تلك الأيام، وتحدي الفتى مفتاح المستحيل، وعرف هؤلاء وسهر مع أحاديث الحياة، وماجت سفينته بين أمواج وأثباج، وقرأ مفردات الحياة بين الكلمات فكان عبد الفتاح الذي حرض الحياة على الحياة، فاستحق أن يكون علامة فارقة في المسيرة الثقافية فهو رجل الحكاية والكدح الصادق.

ولو كانت ريشة الرسام فان غوغ باقية لاستلهمَ من حياة أبي أجمل لوحاته. فهو معجون بعشق العمل، كان يحرض الربيع على تلوين وجه الخريف الشاحب بأزهار البنفسج وفراشاته.

فحمل مشعل الثقافة ومضى يبحر في لجّة الظّلمات تحاربه تيارات الأدب والفكر المختلفة، فاستطاع أن يبني صرحاً شامخاً بالعزيمة والإصرار!

لقد برهن على الثقافة فكسب الرهان؛ فبالأمس الصحفي، والمدير الإداري ورئيساً لتحرير صحيفة عكاظ، ثم عضواً منتدباً للبلاد، ومن ثم من مؤسسي نادي جدة الأدبي ورئيساً له.

تر ك أبي أرثا كبيرا من مؤلفاته في الأدب والنقد والقضايا الاجتماعية فلديه ثلاثة عشر مؤلفا:

منها أمواج وأثباج، في معترك الحياة، وتلك الأيام، حكاية الفتى مفتاح، الصخر والأظافر، حمزة شحاته ظلمه عصره الحياة بين الكلمات، وعلامات، هؤلاء عرفت، الذين ضل سعيهم الشيخ محمد حافظ، واصدحي يا خواطري، آخرها أيام وليال الذي لم يبصر النور.

وقد حظى أبي رحمه الله بعديد من التكريماتِ والاشادات وأهمها وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى حيث قلده الوسام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله في المهرجانِ الوطني للتراثِ والثقافةِ في دورتهِ الثالثة والثلاثين.

تلك رحلة فارس فوق صهوة الريادة في أرض الجزيرة العربية خطتها أناملي المرتعشة. صادق المختلف من الأفكار والإنجاز فاصطفاه التميز، فهو إنسان مارس نقاءه في الضوء بإيمان ويقين إنه الماء بعينه في جسدنا الفكري.

ذاك هو الفارس والبطل المغوار الذي حمل هموم الثقافة والمثقفين فأضاء التاريخ بإنجازاته ومسيرة عطاءاته لتبقى نوراً مسطراً مشرقاً في ذاكرة التاريخ.

تغمد الله أبي بواسع رحمته، وأمطر عليه من شآبيب رضوانه الرائد والمفكر الذي أسس واقعنا الثقافي ليبقى علامة تضرب في زمن التنوير الأول وبدايات الريادة المبكرة لتستوي الثقافة على يديه ابداعا خلاقا ونموذجا يحترم ويحتذى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى