الثلاثاء ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢١
أبو يعزى والشخصية المغربية
بقلم شعيب حليفي

موت زمن وولادة آخر

شغلت سيرة الشيخ أبي يعزى (المتوفى سنة 1177م) اهتماما واسعا، بوصفه شخصية حققت أثرا ثقافيا مستمرا لافتا للانتباه. من بين المصادر الأساسية صاحب "المستفاد في مناقب العباد"، محمد التميمي الفاسي، (ت: 1208م ) الذي أورد عنه صفحات دالة. وكذلك طاهر الصدفي (ت: 1177م)، روى فقرة مهمة عنه. وخلال هذه الفترة وردت إشارات كثيرة هنا وهناك، لكن ابن الزيات التادلي، (ت: 1230م)، سيفرد صفحات مهمة عن أبي يعزى في كتابه" التشوف"، الجامع لرجالات التصوف بالمغرب، في حين سيخصص أبو العباس العزفي، (ت:1236م)، كتابا في مناقب الشيخ أبي يعزى بعنوان "دعامة اليقين في زعامة المتقين"، وبعد ذلك بقرنين سيكتب أحمد التادلي الصومعي، (ت: 1605م)، كتابا مخصوصا بعنوان" المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى". ولابد من هؤلاء المؤلفين لم يكونوا ممن لهم دُربة بالكتابة التراجمية أومقدرة التمحيص والتدقيق.

كما نشير أيضا إلى أن عددا من رُواة الحكايات عنه التقوا بأبي يعزى وزاروه أكثر من مرة، ولعل أشهرهم ثلاثة، ليست لهم خبرة الرواية ومنهج التأليف، فجاء كلامهم ضمن مدونات الآخرين في شكل حكايات وإشارات مهمة. هؤلاء الثلاثة، أولهم: محمد التميمي الفاسي (ت: 1208 م) صاحب "كتاب المستفاد في مناقب العباد بمدينة فاس وما يليها من البلاد"، والذي التقى بأبي يعزى وهو طفل صغير بفاس وكان عمره عشر سنوات ، ولعلها تكون سنة 1155م ، وذهب عنده مرات إلى جبل تاغيا، كما زاره لما كان "محبوسا’’ لأيام بمراكش سنة 1147م .وقد درس التميمي بفاس ثم رحل إلى سبتة والاسكندرية وتونس والأندلس وحدّث بكل هذه الأماكن.قال عنه ابن الأبار في التكملة بأن" له أوهام، وليس بالضابط".

أما الشخصية الثانية، التي لازمت الشيخ، فهو عبد العزيز بن مسري الهسكوري، وهو تلميذ زاره وأقام عنده، لم يترك كتابا وإنما روى عن شيخه لآخرين فسجلوا روايته.

ثم أبو الصبر أيوب بن عبد عبدالله الفهري، كثير الزيارة لأبي يعزى ،روى حوله الكثير، وكما صحب أيضا أبا مدين وابن غالب ورحل إلى المشرق فلقيَ العلماء، واستُشهد في وقعة العقاب سنة 1209 م ، وحكى أبو مدين حكاية عنه فقال: جاء أبو الصبر بصحفة كبيرة من عود من عمل الروم من مدينة سبتة إلى جبل إيروكان وهي على رأسه. فأعطاها أبا يعزى، فكان أبو يعزى يقري فيها الضيفان الواصلان إليه.

تزامنت ولادة إل النور سنة 1047م مع موت زمن وولادة آخر جديد من صلبه، فقد كان المغرب في مخاض الإعلان عن قيام دولة المرابطين على مرمى نظر من قبيلتهم، وقد قرروا جعل عاصمتهم مراكش في الحدود الساخنة مع بلاد تامسنا وتادلا، وفي الطريق إلى فاس وما والاها، لذلك كان صدى الحروب مُفزعا ومُهلكا، وكان ما وقع في تامسنا من اجتثاثٍ قاسٍ لساكنتها أشبه بحكاية عن الفناء والذي ساهم المرابطون في إشاعته للتخويف.

كان إل النور شابا أسود اللون طويل القامة، نحيفا، ينتمي إلى أحواز مراكش وتحديدا بلاد دمنات في منطقة يقال لها هسكورة، وإن كان اختلاف من كتبوا عنه قد أوردوا مرة أنه من هزميرة أبرجان، ومرة ثانية من بني صبيح بهسكورة، وثالثة قالوا من أغمات إيلان، وجميعها قريبة من مراكش، وإن كان الغالب هو هسكورة قرب دمنات، والتي عُرف عنها منذ القديم الهجرة إليها من الساقية الحمراء بالصحراء وهم قوم أمازيغ لهم نفس الملامح. يقول عنها ابن خلدون في العبر:وأمّا هسكورة،وهم أكثر قبائل المصامدة، وفيهم بطون كثيرة أوسعها بطن هسكورة". ومن هذه المنطقة خرج عدد من المتصوفة من ذوي البشرة السوداء، كما يسرد أسماءهم وصفاتهم التادلي في التشوف، وهم كُثر.

اشتغل في طفولته بالرعي، ولعله كان راعيا بهذه الأمكنة الثلاثة التي أحالوا نَسَبه إليها، فهو ينتمي إلى عائلة فقيرة، لا قدرة لها على فعلٍ سوى الفلاحة والرعي لدى الآخرين من أجل ضمان لقمة عيش يومي في لحظات كان الجوع عدوا يتربص بأغلب الفئات.

في كل ما ورد على لسانه لاحقا، أو من تحدثوا عنه، لم يذكروا عائلته، وربما كان كتوما ولم يتحدث أبدا عن قبيلته أو عائلته طوال حياته. فقط إشارة بعيدة عند التميمي يقول فيها: "وفي وقت إقامتي عنده، أخذتني حالة، فبُغِّضَت إليَّ الدنيا، وكرهتُ الرجوع لموطني، وقلتُ لا أدخل مكانا عصيتُ فيه ربي، وعزمت على ذلك. فقال لي الشيخ: لا يمكنك ذلك، لأن لك والدة، والمقام معها وبرّك بها أفضل، فامتنعتُ من ذلك، وبكيتُ فعزم عليَّ، فرجعتُ". وهي المرة الأولى التي يأتي ذكر أحد الوالدين على لسان أبي يعزى متحدثا عن كون الإقامة مع الأم والبرّ بها أهم من الإقامة في الزاوية. ويمكن التخمين أن خروجه من قريته جاء إثر يُتمه من جهة الأم أو من الأبوين معا. كما أن العادة في المناطق الفلاحية تقتضي وجود الرعاة من الأطفال والشباب والذين ينتقلون من مكان لآخر.

لم يكن للزمن الاجتماعي لدى البسطاء في الهوامش المرمية خلف الأكمة، أية أهمية، فهم يعيشون فوق خط رقيق وطولي غير مستقيم في الحياة، ولا يهم في أي نقطة توقف الزمن. لذلك فإن مائة وثلاثين سنة التي عاشها الشيخ أبو يعزى لم يستطع كل من كتب عنه أن يتحدث إلا عن ساعات أو أيام منها فقط. كما أن المصادر والنُّتف حوله لم تتحدث عن عائلته أو نسبه، ولكنهم اختلفوا جذريا في اسم أبيه أو جده أو حول مكان ولادته وترعرعه،حتى أن هناك، في دراسات حديثة من ردّ أصوله إلى بلد بوجدور بالصحراء. لذلك يعجب الباحث من الذي يجدّون في إثبات نسبه بتفضيل وتفصيل ويقين، دون الإحالة على مصدر ثابت أومشهود.

(الإشارة إلى مرجع الصحراء في دراسة حديثة أن أبا يعزى من أصول صحراوية، وتقول بأن زاوية أهل الزريبة الموجودة بقبيلة أولاد تيدرارين بإقليم بوجدور جماعة لمسيد تأسست في القرن الثاني عشر الميلادي على يد الفقيه الشيخ حنين بنسرحان والذي كان يُلقب بتيدرارين أي رجل الجبل، وكان يقطن بمنطقة وادان بموريتانيا،ثم ترك أولاده هناك وتوجه نحو أرض الساحل بالساقية الحمراء، وتزوج من قبيلة كندوز واستقر وأنشأ المحاضر القرآنية، وبعد وفاته تولى ابنه إبراهيم ومن بعده ابنه أبو يعزى بن ابراهيم بن حنين إذْ بعد تأسيسه للزاوية بتيدرارين هاجر إلى دمنات وساح بعد ذلك في الساحل خاصة دكالة ثم استقر ببلدة تاغية الواقعة في جبل ايروجان وتزوج وأنجب أولادا وأسس زاويته الثانية، وخلفه ابنه أبو علي يعزى. (ص181و182)، وتقول الباحثة أنه توجد بالزاوية الآن ببوجدور عين ماء عذبة تدعى "عين مولاي بوعزة"، وتنعته الرواية الشفوية بأبي القبرين، دلالة على قبر ثان له ببوجدور.وقد ترك ذريته التي توارثت أمر الزاوية إلى حدود القرن السابع عشر الميلادي، حيث سيظهر شيخ اسمه أحمد بن إعز الملقب ببوغنبور وهو من أشهر الصلحاء في المنطقة.

وقد "كان دور الزاوية في بداية أمرها إطعام الطعام ولا سيما أثناء المجاعات والجفاف، كما كانت ملجأ كل غريب، ومن جاءها يأكل ويشرب لوجه الله، فاستقطبت المعوزين والمنقطعين وأبناء السبيل، فقدم إليها سكان تلك الجهات الهبات والصدقات من مواش وزروع ومواد غذائية، كما أصبحت تقوم بدور التحكيم بين القبائل وحل النزاعات" ص 184. ويقول صاحب سلوة الأنفاس، بوجود قبر آخر لأبي يعزى بفاس بالبيت الذي كان يقطنه بحومة البليدة أثناء تواجده بفاس، ليكون القبر الثالث؛ الحقيقي بتاغيا وقبران رمزيان ببوجدور وفاس.

انظر: زهرة فعراس، "زاوية أهل الزريبة مؤسسوها وأدوارها"، ضمن، أدب الواحة تراث ثقافي لامادي، منشورات جمعية النجاح للتنمية الاجتماعية، العيون ومؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، مراكش، المطبعة الوراقة الوطنية، مراكش،2016، ص180ـ 190.

(يُتبع)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى